موقع الأوان 8/6/07 الجمعة/8/حزيران/2007النداء: www.damdec.org
يتعارض منطق الاكتشاف العلمي، جذريا مع الأنظمة الشمولية، معرفيا، فلسفيا، اجتماعيا وسياسيا.
وفي هذا السياق تجري البرهنة على العلاقة الطردية بين العلم والحرية، فمنذ بداية عصر النهضة كان ظهور البوادر الاولى للمنهج العلمي الحديث يعني تحررا من سلطة الكنيسة التي فرضت أقصى القيود على إنسان العصور الوسطى. ولم تكن الكشوف الفلكية الحاسمة التي توصل إليها كوبرينيكوس وكبلر وغاليله تعني بداية عصر جديد في تاريخ العلم فحسب، بل كانت تعني تحرير الإنسان من خرافة الاعتقاد بأن الأرض التي يعيش عليها هي مركز الكون، وبأن كل شيء في العالم سخر له، وبأن الكون يدور من حوله بينما هو ثابت مستقر… وبمقدار ما كانت الحرية في العصر الحديث هي حرية جماعية، كذلك العلم لا يبلغ أوج اكتماله إلا حين يصبح عاما، جماعيا، لا تحتكره فئة تنكر ثماره على الآخرين…
وهكذا تنشأ علاقة تأثير متبادلة، فالعلم يساعد على مزيد من الحرية، ليس في معرفة الضرورة والسيطرة على قوانين الطبيعة فحسب، بل على تحقيق مزيد من الحرية، بتوسيع القاعدة التي يرتكز عليها العلم (- فؤاد زكريا، آفاق الفلسفة، سلسلة الفكر المعاصر، دار التنوير، بيروت، 1985، راجع ص 379-381.). فالفيزيائي يحتاج إلى الصانع لتركيب الآلات التي تمكنه من تنفيذ تجاربه، ومن جهة ثانية إلى الرياضي الذي يزوده بالفرضيات التي تبنى عليها مباحثه، ثم رجل الأعمال الذي يروج نتائج الفيزيائي، وهكذا يفترض العلم الفيزيائي –على سبيل المثال- سلسلة متقاطعة من الفاعليات الجماعية (الاستهلاك- الإنتاج-الثقافة-الاقتصاد-الذهنيات والماديات-الخيال التجريديوالعمل التجريبي المتواصل) (عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، راجع ص135.).
تلك هي إحدى القراءات المفسرة لإخفاق التفكير العلمي العربي في العصر الحديث، وهي تلتقي مع تحليلنا لتحول الفكر العلمي إلى خطاب نهضوي، يندرج في المنظومة المفاهيمية لمواجهة التأخر، من خلال ثنائية الحرية/الاستبداد التي شكلت العنصر الأساسي والحاسم في البنية التكوينية لفكر النهضة، وبذلك فإن الفكر النهضوي كان ينتج وعيا عقلانيا مطابقا للحظة التاريخية للواقع العربي حينئذ، وحاجات هذا الواقع إلى التغيير والتقدم، وذلك بالضد من مغزى القول بأن العقلانية العربية انشغلت بنقد الغيبية أو الإيديولوجيا الأسطورية أكثر مما شغلتها الكشوفات العلمية والتجريبية… كما كان عليه الحال في العقلانية الغربية (برهان غليون، “العقلانية ونقد العقل، ملاحظات منهجية”، مجلة الوحدة ، العدد51، ج1، 1988، ص103.).
نقول إن هذا النقد لقصور العقلانية العربية هو نقد قاصر بذاته، لأنه يعني دعوة المثقف النهضوي لتجاوز تاريخه، تجاوز الوعي الاسطوري السائد والمهيمن، تجاوز مشكلة الإستبداد المستحكمة، تجاوز واقع انضواء الكيان المصري –حينها- تحت سيطرة الاحتلال الإنكليزي ومن ثم إعاقة ممكنات تنمية وطنية مستقلة، وإطلاق القوى الكومبرادورية المتحالفة مع الاقطاع ، مع ما ينتجه تحالف تقليدي من وعي متأخر، وبعث للثقافة الغيبية، ودعم لسيطرة الشرائح الأكثر إغراقا في الجهل والظلامية كما رأينا في علاقة محمد عبده بالخديوي عباس الثاني
وهذه الدعوة إلى عقلانية تنشغل بالكشوف العلمية والتجريبية كما هي حال العقلانية الغربية تتجاهل حقيقة أن هذه الكشوف لم يعرفها المجتمع العربي، وبالتالي فإن المثقف النهضوي يكون بذلك مدعوا للاهتمام بإشكالات غريبة عن مجتمعه وذلك ما يتناقض مع الدعوة إلى الأصالة والحفاظ على الذات الثقافية، بل والتأكيد على عطالتها لكي لا تكون في مهب الريح على حد أطروحة –الناقد- بل وجميع دعاة الأصالة الحداثوية اليوم الذين ينعون على فكر النهضة انشغاله بإشكالات غريبة عن مجتمعه، وبالتالي اتهامه بأنه لم ينتج وعيا أصليا أو أصيلا: أي أنه كان بذلك فكرا مستوردا: وغزوا ثقافيا !؟ حقا إن الطهطاوي، وعلي مبارك وغيرهما من هذا الرعيل، أدركوا فاصل التأخر العربي الاسلامي عن الغرب من خلال التقدم العلمي الذي أنجزه الأخير، الأمر الذي يستجيب إلى طموحات محمد علي التحديثية العسكرية التي كانت تتطلب إنجازات للتو، لكن مع ذلك، فإن الطهطاوي لا يختلف عن الأجيال اللاحقة في إيلائه الأهمية الأولوية لمسألة النظام السياسي وهو يكتب عن الدستور الفرنسي 1818، ومن هنا يمكن القول : إن المسألة الدستورية كانت محور الفكر الإصلاحي السياسي العربي والإسلامي الحديث، بشقيه الإسلامي الإصلاحي أو الليبرالي، بل إن الأحزاب نشأت وتكونت- وذلك منذ قيام “الجمعيات” داخل الإمبراطورية العثمانية- بارتباط مع المطالبة بالدستور، وهنا يلتقي أحمد لطفي السيد مع علال الفاسي، كما يلتقي محمد عبده مع خير الدين التونسي، فقد انشغل الجميع بتفوق النظام السياسي الغربي الضامن –في رأيهم- للحرية والمقيد للسلطة بالقانون، وذلك لا يفسر ضعف الفكر الاقتصادي والاجتماعي في الفكر العربي الحديث فحسب، بل والفكر العلمي الذي لم يكن بالإمكان التفكير فيه إلا بوصفه مطلبا كغيره من مطالب النهضة، ويتميز مطلبه بنوع من الإحساس الدرامي بالفجيعة، لقد أهمل المسلمون ما كان السبب في تقدم أوروبا : أي “العلوم” التي أخذتها عن المسلمين (علي أومليل، الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، دار التنوير، بيروت، 1985، راجع فصل ” ما هو الإصلاح بمفهوم إسلامي”، ص23-29.).
لقد نجحت البرلمانية الدستورية، وعندما تبين محدوديتها في تحقيق استقلال وطني حقيقي، وبعد تفاقم المشكلات الاجتماعية والصراع الاجتماعي، ومن ثم اتساع قاعدة المتعلمين في أوساط الشرائح الوسطى والبورجوازية الصغيرة، تبلور تطلع إلى البديل قادته الجيوش في وجه الأحزاب، لكن هزيمة حزيران وما ألحقته بالناصرية، أنتجت وعيا جديدا بأهمية الديموقراطية عندما أرجعت الهزيمة إلى “استبدادية” النظام، وانتعش الحنين إلى البرلمانية الدستورية الديموقراطية لتعود إشكالية الاستبداد/الحرية بمثابتها محور الوعي المأساوي للإنتلجنتسيا العربية، التي تجد نفسها مسوقة للانتظام في بنية منظومة المفاهيم التي أنتجها الفكر الإصلاحي النهضوي، لاستئناف إشكاليته من جديد، رغم ما أنجزته الناصرية، والدولة القومية، مدعومة بتغطية نظرية يسارية تستلهم نموذج التنمية “السوفياتية” في إيلاء الأهمية لبناء القاعدة الصناعية التقنية، التي هلل لها المثقف النهضوي التقني سلامة موسى حيث وجد في ثورة يوليو نموذجا للدولة التقنية الحديثة، التي حلم بها، بوصفها تطبيقا إنجازيا وإجرائيا لمشروعه النظري حول أولوية العلم التقني.
إن المنهجية التاريخية المضمرة، التي اعتمدناها في تقسيم مراحل تطور وعي الفكر العربي الحديث تجاه مسألة العلم والتفكير العلمي، تحايث ترسيمة سمير أمين حول تجربة النهوض والسقوط التي أنتجتها عملية توسع الرأسمالية العالمية القائمة على التطور اللامتكافئ، “فمنذ محمد علي وتاريخ مصر سلسلة محاولات تبلور حكم واقتصاد برجوازيين وطنيين كاملي التنمية وهو تاريخ فشل هذه المحاولات واحدة بعد الأخرى، رغم أنها من المحاولات الاكثر جدية في العالم الثالث (سمير أمين ، أزمة المجتمع العربي، راجع ص 24-25-26.)، أي القراءة التاريخية التي ترى في الذات ضحية للآخر الخارجي، وأن تاريخ العرب الحديث ليس سوى سلسلة من تجارب المفعولية التي يقع عليها الفعل الاستعماري الغربي، أي ما راح النقد الذاتي للهزائم العربية يسميه بالتفسير التآمري للتاريخ الذي يجعل من الآخر الاستعماري مشجبا نعلق عليه كل ما كان يسميه عمر فاخوري بـ “رذائلنا القومية ” مستعيرا هذا المعنى من استاذه اناطول فرانس.
فمحاولة محمد علي أخفقت بضربة من الخارج من خلال العدوان العسكري عام 1840، كما أسلفنا و المحاولة الثانية هي محاولة الخديوي إسماعيل، رغم اختلاف استراتيجيته عن إستراتيجية محمد علي القائمة على الاعتماد على بيروقراطية الدولة، فإن الخديوي إسماعيل اتجه لتقوية الملكية الخاصة فوزع الأراضي، وكون طبقة كبار الملاك الزراعيين، واختار التخصص في إنتاج القطن والاستفادة من الميزات المقارنة في التقسيم الدولي للعمل، رغم أن هذه التجربة كانت ذات طابع كومبرادوري، ولكنها تشمل – حسب أمين – عناصر وطنية، ولكن الكومبرادورية أدت إلى الأزمة المالية فالسياسية، ففتحت الأبواب للتدخل الأجنبي، ومرة أخرى أنهى التدخل العسكري أمل إمكانية التطور في اتجاه وطني. وكان من الطبيعي أن يوأد حلم محمد علي ممثلا بمشروع الطهطاوي، بإمكانية تدعيم الاكتفاء الذاتي في ميدان الصناعة التي تمثل الهدف الذي يوجه العقل العلمي وأسئلة البحث التجريبي.
وفق هذه الترسيمة (تجربة صناعية، ممكنات نهضة علمية، تستدعي تدخل خارجي عسكري) ستلقى التجربة الوطنية الناصرية، المصير نفسه، وذلك وفق مرافعة منظومة الوعي الظفروي الذي لا يرى أية مسؤولية للذات عن تأخرها ومن ثم انحطاطها… فلقد كانت هذه التجربة – حسب المنظور الظفروي التنويهي بالذات – من أكثر تجارب العالم تقدما في اتجاه تبلور حكم بورجوازي وطني، فالطابع البورجوازي الوطني للنظام، هو الذي حال دون استراتيجية فك الارتباط، بل مهد محاولة تحسين المكان الذي تحتله البلاد في التقسيم الدولي للعمل.
وهنا سيتدخل الاستعمار من جديد –وفق القراءة القوموية اليساروية القائلة بأن العدو يقبع دائما في الخارج – وذلك عبر توجيه ضربة عسكرية على يد عميلته إسرائيل، وقد نجح الاستعمار، وتلت تلك المرحلة إعادة كومبرادورية الاقتصاد والحكم، حيث الاستسلام لمقتضيات سيطرة رأس المال الاستعماري.
هذه الترسيمة النظرية القائمة على مصفوفة: (محاولة وطنية-انفتاح-كومبرادورية ) لا تخص المثال المصري في تأكيد استحالة بورجوازية وطنية، فالتجارب السورية والعراقية تكرر سير التجربة المصرية (نفس المصدر السابق) وفق ما يخلص إليه أمين.
ومن الواضح أن هذه المصفوفة، ستتيح لنا تفسير أن إخفاق أي مشروع صناعي وطني هو بالضرورة إخفاق لأي مشروع علمي تجريبي يستدعيه التحديث التقني والعلمي الذي طمح إليه الفكر العربي منذ الطهطاوي إلى اليوم، ومنذ إخفاق محاولة التحديث التقني والصناعي لمحمد علي، وصولا إلى إخفاق التجربة التنموية التصنيعية للدولة الوطنية القومية التي أسستها الناصرية عربيا اعتمادا على التصور النظري لسمير أمين ومنظور مدرسة التبعية بوصفه أحد ممثليها الأبرز، وبمحاذاة وجهة تحليله الاقتصادي حاولنا أن نقارب التفكير العلمي العربي من خلال استجلاء أبعاده “الإبستمية” في الفكر العربي الحديث، دون أن نعنى بالتفاصيل، والإحصاءات والأرقام التي تهتم بها الدراسات التقنية المتخصصة بالسياسات العلمية التي-مع ذلك- وجدناها تقدم المعطيات العلمية التفصيلية التي تدعم التصور النظري المعرفي الذي استجلينا، اعتمادا على الترسيمة النظرية الاقتصادية لسمير أمين، وفق ما ألمحنا إلى تعويل هذه المنهجية على أعتبار أن الخارج الاستعماري هو المسؤول عن تعويق الداخل وتخلفه ، بما بات يسمى في بعض الخطابات القومية واليسارية بـ”البلدان المخلّفَّة” كبديل لمصطلح “البلدان المتخلفة”.
المنظور الأكاديمي
وهو المنظور الذي يقوم على القراءة التوصيفية للوقائع والمعطيات دون مسبقات أيديولوجية أو سياسية، لكن هذا المنظور الاستقرائي سرعان ما سيتكشف عن حقيقة التشارط السببي بين التحديث التقني والحداثة العقلية، باعتبار التحديث التقني ليس إلا الفرع التطبيقي للعلوم العقلية الفلسفية والنظرية، أي التعويل على أهمية امتلاك وسائل البحث العلمي وليس شراء نتائجه بمثابته سلعة، حيث تظهر هذه الدراسات، أن القوى البشرية التقنية العربية اللازمة لتنمية صناعية تقنية علمية موجودة ومتوفرة لدى العرب، بما فيها الدخول في تحد نووي مع إسرائيل، لكن ليس هناك أي بلد عربي واحد يمتلك القاعدة العلمية والهندسية لبرنامج نووي.
“وذلك لعدم وجود تقليد علمي ثابت في الوطن العربي، واعتماد متخذي القرارات على عدد صغير من المستشارين الفنيين، والسهولة التي يدعي بها الأفراد لأنفسهم -عن غير حق- أدوارا هامة، وعدم مأمونية السلطة، والسهولة التي يمكن بها للأفراد غير المؤهلين التقدم نحو قمة جهاز حزبي، وتسييس المهنيين عنوة، ومن ثم تحويلهم إلى أناس يعطون موافقتهم دون تفكير ومناقشة، أو السهولة التي يمكن بها إرهاب المفكرين والعلماء وأصحاب الأراء المستقلة وإجبارهم على الصمت، كل ذلك أدى إلى شل ما يعرف باسم نظام العلم والتكنولوجيا الذي أقيم بمشقة على الورق، بمساعدة اليونسكو في أغلب الأحيان.” (المصدر السابق نفسه، ص257.).
– راجع مثلا كتاب أنظون زحلان، العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الرابعة، 1984، ص20، ص257.
ستجد هذا الكتاب من الكتب النادرة التي تنكفئ بكليتها حول هذا الموضوع، من قبل رجل علم (فيزيائي)، وهو في كل معطياته يدل على أن أزمة تطور العلوم والتكنولوجيا العربية ليست أزمة تقنية، فالوطن العربي يملك من الكفاءات والقدرات البشرية الفنية، والتقنية والعلمية، ما يؤهله لدخول معترك التحدي التقني، بل وحتى النووي. أين المشكلة إذن؟ إنها في بنية النظام السياسي العربي، منذ محمد علي إلى اليوم ، فمحمد علي يبحث باستماتة عن الفحم والذهب، ومع ذلك، ورغم توفر بعض المهندسين والبيولوجيين والمساحين المدربين الوطنيين، بدأ بحثه وانتهى بالرغبة الموضوعية في الحصول على منجم، لا إلى نيل المعرفة التي تؤدي إلى الحصول على المنجم، بالإضافة إلى الاعتماد على الخبرات الأجنبية عبر (التلزيم)، ولا يزال –رغم ثروة الوطن العربي بالكفاءات – يعتمد الأسلوب نفسه بالنسبة لمعظم السياسات الإنمائية في الدولة العربية اليوم، تماما كما اقترح ورثنغتون 1945 أن حل مشكلات الشرق الاوسط كلها يمكن أن يتم بـ”القوى البشرية العلمية الاجنبية ذات المهارات المطلوبة.” وأسلوب (التلزيم) كما هو مطبق اليوم لن يؤدي إلا إلى مزيد من توطيد الطابع الأجنبي لمصدر العلم والتكنولوجيا، ويرسخ العقبات في طريق المشروع الوطني.