1.
يرغب الكاتب بداية ان يشير إلى مسألتين منهجيتين ، الأولى هو انه في دراسة أي فكر نظري ، سواء أكان هذا الفكر قديما أم حديثاً، لابد من التأكيد على الحقيقة الملموسة التي ترى أن هذا الفكر ، لايمكن أن يكون معزولاً عن الممارسة العملية وبالتالي لا يمكن ان يكون ويظل فكراً واحداً وموحّدا ، والسبب في ذلك هو أن الفكر النظري عادة مايكون مشروطاً بالواقع الإجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي الذي انعكس عنه ، والذي هو ـ أي الواقع ـ بدوره مشروط بمثلّث عوامل الزمان والمكان والناس.
والثانية هي أن تعبير ” الفكر العربي ـ الإسلامي ” المستخدم في عنوان هذه المقالة ، إنما هو التعبير الصحيح والموضوعي الذي يعكس صورة نسيج الثقافة السائدة في العالم الإسلامي في العصور الوسطى، حيث كان يمثّل الدين الإسلامي سدى هذه الثقافة، في حين كانت اللغة العربية تمثل لحمتها. إن هذا يعني أن تقسيم هذا الفكر إلى فكر عربي غير مقترن بصفة إسلامي ، أو فكر إسلامي غير مقترن بصفة عربي إنما هو تقسيم لايعكس لاواقع ولا حقيقة النسيج الفعلي للثقافة العربية ـ الإسلامية في تلك المرحلة التاريخية.
2.
ينبغي في دراسة التيارات الفكرية الإسلامية في العصر الوسيط التفريق بين مسألة الخلاف في الرأي وهو أمر طبيعي ومشروع (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين . هود 118) ، ويعود تاريخه إلى حياة الرسول
(ص) نفسه ، ومسألة تحول هذا الخلاف إلى فرق وشيع ومذاهب، وهو أمر تعود جذوره ـ بصورة أساسية ـ إلى:
ــ الخلاف بين المهاجرين والأنصار حول بيعة أبي بكرالصدّيق في سقيفة بني ساعدة أولاً،
ــ وإلى الطريقة التي حوصر وقتل بها الخليفة الثالث عثمان بن عفّان ثانياً،
ــ وإلى حادثة التحكيم بين علي ومعاوية في صفّين والتي حوّلت عمليّاً الخلافة الدينية إلى ملكية دنيوية ثالثاً،
ــ وإلى الدور الذي لعبته بعض الفئات التي دخلت الإسلام كرهاً ، وظلّت بالتالي تضع رجلاً داخل الإسلام ورجلاً خارجه
والذي(الدور) تجسد لاحقاً فيما عرف بظاهرة الشعوبية رابعاً.
ــ هذا إضافة إلى أن القرآن الكريم نفسه كما وصفه الإمام علي بن أبي طالب حمال أوجه ، ولاسيما فيما يخص “الآيات المتشابهات”، وأن مبدأ الشورى في الإسلام ــ كما يقول الدكتور صبحي الصالح ــ كان بدوره سلاحاً ذا حدّين (النظم الإسلامية: نشاتها وتطورها، بيروت 1968، ط2، ص 90)، أي أنه سلاح حمل في داخله جرثومة الخلاف السياسي بين المسلمين، والذي تحول لاحقاً إلى صراع على السلطة (الخلافة) ، وكان سببا ونتيجة معا لنشوء الفرق والمذاهب الإسلامية ، ولا سيما فرق الخوارج والشيعة والمرجئة.
هذا مع العلم أن الحديث النبوي الشريف الذي يقول ” افترقت اليهود والنصارى على اتنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلها في النار إلاّ واحدة هي الجماعة ” (أنظر: رضوان السيد ، الأمة والجماعة والسلطة ،دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي، دار إقرأ ن بيروت 1986، ص 66)، لايمكن أن يكون بحد ذاته سببا لانقسام الأمة ، وإنما هو ــ فيما لو صحّ ــ إنما يمثل تنبؤاً علميّا وعمليّاً لما يمكن أن تؤول إليه حال الأمة مستقبلا، أسوة بغيرها من الأمم السابقة ، وهو مانراه في هذه الأيام بأم أعيننا.
3.
في دراسة التيارات الفكرية في العصر الإسلامي الوسيط ينبغي كذلك التوقف عند الخلاف المتعلق بمسألتي الأصول والفروع بين علماء وفقهاء الإسلام . فقد تبين للكاتب من الرجوع إلى عدد كبير من المقالات والدراسات أن الخلاف في هذا الموضوع يتمثل بصورة أساسية (بعيداً عن ذكر الأسماء) بـ:
ــ رفض (بتسكين الفاء) البعض التقسيم والتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع ، حيث انه لم يفرق أحد من
السلف والأئمة ــ حسب رأيهم ــ بين أصول الدين وفروعه ” فكان إجماعاً منهم على عدم تسويغ التفريق بينهما”.
ــ رؤية البعض الآخر أن الشريعة الإسلامية قد جاءت ببيان الأصول ، وتركت الفروع لاجتهادات المختصّين.
إن الإشكالية هنا بقيت عمليّاً دون حل ــ حتى في حال قبول رؤية هذا البعض ــ من حيث أن مايعد فرعا عند هذا
الفقيه أو المتكلم أو العالم يمكن أن يعدّ أصلاً عند فقيه او متكلم أو عالم آخر.
إن الحل المناسب لهذه الإشكالية عند أصحاب هذه الرؤية هو أن ” نعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ” وذلك
على القاعدة الفقهيّة التي تقول : إن رأيك صواب ولكنه يحتمل الخطأ ، وأن رأي غيرك خطأ ولكنه يحتمل الصواب.
ــ يرى البعض الثالث ، والذي غالباً ماينتمي إلى التيار العقلي في فهم كافة المسائل الدينية، بما في ذلك فهم القرآن
والسنّة، أن مفهوم الإجتهاد في الإسلام ” لايقتصر فقط على الفروع ، وإنما يتعدّاه إلى الأصول أيضاً”.
ــ ومن جهته فإن الكاتب يرى فيما تعلّق بهذا الموضوع أن القبول بالرأي الثالث أعلاه، إنما ينطوي عمليا ومنطقيّاُ على
حل الإشكالية المعرفية التي أشرنا إليها في الرأي الثاني المتعلق بالتداخل النظري والعملي بين الأصول والفروع.
4.
يعود الاختلاف في الرأي بين فقهاء وعلماء ومتكلمي وفلاسفة المسلمين الأوائل إلى جملة من الأسباب الموضوعية والذاتية التي أبرزها:
ــ اختلاف الأدوات المعرفية ، من حيث أن بعضهم كان أعرف باللغة العربية (لغة القرآن والحديث) من بعضهم الآخر،
من جهة ، ومن جهة أخرى فإن بعضهم كان أكثر التصاقا بالرسول (ص) من البعض الآخر،
ــ التباين في الخلفيات الإقتصادية والاجتماعية والثقافية والإثنية والدينية للأشخاص المعنيين سواء في الفترة السابقة
على دخولهم الإسلام أو بعد اعتناقهم ــ طوعا أو كرها ــ لهذا الدين،
ــ درجة التعمق المعرفي في الأدبيات الإسلامية ، ولا سيما المتعلقة منها باللغة العربية والفقه والشريعة وعلم الكلام ،
ــ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام ، وهو مااعتبره ابن خلدون فيما يتعلق بكتابة
التاريخ (وهو مايصلح بنظرنا أيضا في تفسير مسائل الخلاف والاختلاف المشار إليها أعلاه) ” داءٌ دويٌّ شديد
الخفاء إذ لايقع إلاّ بعد أحقاب متطاولة ، فلا يكاد يتفطّن له إلاّ الآحاد من أهل الخليقة ” (عبد الرحمن بن خلدون ،
المقدّمة ، ط2 ، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، بيروت 1961، ص 46) . إن الأمر يتعلق هنا ، بالعلاقة بين النقل والعقل ، أو بين الوعي والواقع ، أو بين عالم الغيب وعالم الشهادة، أو بين الدين والدنيا.
5.
لقد كانت فترة الخلفاء الراشدين فترة صراع بين العاملين: الذاتي (قيم ومبادئ الدين الجديد) والموضوعي (القيم الاجتماعية والأعراف والعادات الجاهلية الراسخة السابقة على الإسلام ، بما في ذلك العصبية القبلية) ، واللذين كان ضحية الصراع بينهما ، تغييب ثلاثة من الخلفاء الراشين (عمر ، عثمان ، علي) اغتيالاً . ويسجل انتصار معاوية هنا (الفرع الأموي من قريش) على الإمام علي (الفرع الهاشمي من قريش) ــ برأي الكاتب ــ انتصار العامل الموضوعي على العامل الذاتي في مسالة الصراع على السلطة بين الجماعة الإسلامية بعد وفاة النبي (ص) ، هذا الصراع الذي تغذّى أيضاً على الخلافات والصراعات المزمنة بين القبائل القيسية والقبائل اليمنية ، والتي يصفها المرحوم صبحي الصالح على النحو التالي : “ولذلك عادت العصبية بعد وفاة النبي بين الأمويين والهاشميين ، واتفق أن انتشر مذهب الخوارج فيما بعد بين قبائل ربيعة ، بينما كانت الكثرة الغالبة من الأمة لمضر، فلم يكن بد من أن يعود النزاع سيرته الأولى بين مضر وربيعة “(صبحي الصالح ، نفس المرجع السابق ، ص 82) .
6.
تبدلت مع وصول الأمويين إلى الحكم ، وكنتيجة لفتوحاتهم الواسعة ، وبالتالي تدفق الأموال والثقافات الأجنبية ، ولا سيما الفارسية والرومانية ، تبدلت الشروط الإجتماعية والاقتصاديةوالثقافية لممارسة الفكر العربي ـ الإسلامي ، حيث تداخلت في هذه المرحلة التاريخية المسائل العقائدية مع القضايا السياسية ، والخلفيات الإسلامية مع الخلفيات غير الإسلامية ، والانقسام العمودي (الانتماء القبلي ، الأغنياء خاصة) مع الانتماء الطبقي (الموالي والفقراء) الأمر الذي تحول معه الخلاف حول الفروع ، إلى خلاف حول الأصول أيضاً ، وظهرت كنتيجة لذلك فرق وتيارات دينية جديدة مختلفة ومتعددة يكاد يتجاوز عددها المائتي فرقة ، علما أن كثيراً من هذه الفرق قد تفرّع عن الفرق الأصلية التي سبقت الإشارة إليها ، والتي قد لايتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة . (أنظر: د.محمد عمارة ، تيارات الفكر الإسلامي، دار الوحدة للطباعة والنشر، بيروت 1985، ص 361 ــ 381) .
7.
يتبيّن من متابعة الفرق والتيارات الإسلامية ، أن كلاًّ من هذه الفرق وهذه التيارات قد انطوى على ثلاثة أجنحة: واحد وسطي معتدل وآخران متطرفان يقف أحدهما على يمين الجناح المعتدل ، بينما يقف الآخر على يساره. إن الجناحين المتطرفين في هذه الفرق والتيارات بمختلف أشكالها وألوانها غالبا ماكانا من الغلاة الذين كانوا يعملون، سواء عن علم منهم أو بدون علم على تمزيق وحدة المجتمعات الإسلامية، حتى في حال كون أطروحاتهم الدينية ـ ولا سيما في جانبها الإجتماعي والسياسي ـ تنطوي على قدر كبير من الصحة والمنطق. إن مقولة “كلمة حق يراد بها باطل” هي ماينطبق ـ برأينا ـ على الأطروحات النظرية لهؤلاء الغلاة.
وحسب الدكتور محمود حلمي، فإن الفرق الإسلامية في أساسها ليست شيئاً ضارّاً ، بل هي طرق من الفلسفة الفكرية والعقائدية ” وإنما صاحب ظهورها وانتشارها وتطرفها ظهور كثير من الضلالات والبدع التي نمت وترعرعرت مع ضعف العقيدة والإيمان عند المسلمين. (أنظر: الدكتور محمود حلمي ، تطور المجتمع الإسلامي العربي ، دار الفكر العربي 1964 ، ص 46). ولقد تمثل ضعف العقيدة الدينية هذا بعد وصول معاوية إلى السلطة ، في أن الحكم الأموي ــ وهذااستناداً إلى أحمد أمين ـ لم يكن حُكما إسلامياً يسوّى فيه بين الناس .. وإنما كان حكماً عربياً .. كانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية لاالنزعة الإسلامية … (أنظر: محمود حلمي ، نفس المرجع السابق ، ص 56).
8.
لقد شكل المناخ الديني والسياسي في ظل الحكم الأموي التربة المناسبة لنمو وترعرع الحركة الشعوبية ، حيث ظهرت
في بادئ الأمر ” كرد فعل ضد التعصب ( التعصب العربي والتعصب العجمي على السواء ) ، وذلك استنادا إلى قوله تعالى (ياأيها الناس ، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ـ الحجرات 13) ، وإلى الحديث الشريف (ليس لعربي على أعجمي فضل إلاّ بالتقوى) .
ومع توسع الدولة الأموية ، واعتمادها أكثر وأكثر على العنصر العربي ، وعلى القبلية العربية ، تحولت الشعوبية من حركة دينية مناهضة لكل أشكال التعصب القومي والقبلي إلى حركة سياسية وثقافية مناهضة للعنصر العربي تحديداً ، حيث استطاع أبو مسلم الخراساني أن يجمع حوله الفرس والموالي ، وأن يضرب القيسية باليمنية في خراسان ، وأن يصبح قائدا بارزاً في المعارضة الدينية والسياسية للحكم الأموي .
ويبدو أن أطروحات هذه المعارضة ذات الخلفية الشعوبية قد تقاطعت مع بعض تعاليم الخوارج والشيعة والمعتزلة، و تقاطعت بالتالي مع الدعوة العباسية التي تسعى للوصول إلى الحكم ، وهكذا توسعت المعارضة للأمويين ، الأمر الذي أدّى إلى سقوط الدولة الأموية عام 132 هـ ، ومجيء الدولة العبّاسية التي نقلت مركز الخلافة من دمشق إلى العراق والتي قام الخليفة الثاني فيها (أبو جعفر المنصور) ببناء مدينة بغداد عام 762م كعاصمة جديدة للدولة العباسية.
لقد أدت محاولة أبي مسلم الخراساني الشعوبية الإنقلاب على الحكم العربي العباسي الجديد لصالح أتباعه من الفرس والموالي، إلى قتله على يد إبي جعفر المنصور عام 139 هـ . ولعل تدمير تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد في شهر أبريل عام 2003 (بعد الإحتلال الأمريكي للعراق) على يد بعض الغلاة المعادين للعرب إنما كان ثأرا وانتقاما لمقتل أبي مسلم الخراساني.
9.
يمكن إحالة التيارات الفكرية العرب ـ إسلامية الرئيسية إلى ثلاثة تيارات أساسية هي : التيار الذي ينفر من التفلسف ،
ويغلب (بضم الياء) ظواهر النصوص ، ولاسيما النص القرآني، على إشكاليات الاجتهاد والتأويل ، وهو مابات معروفا بتيار “النقل” ، والتيار الذي لايرى مناصا من استخدام العقل واللجوء إلى التأويل سواء في فهم النص القرآني ، ولا سيما تلك النصوص التي وصفها الإمام علي بأنها حمّالة أوجه ومنها الآيات المتشابهات ، أو في غربلة الأحاديث النبوية التي كانت رؤوس آلاف الناس والسنتهم من صحابة الرسول ومعاصريه مرجعها الأساسي والوحيد ، وهو مابات معروفا بتيار العقل ، والتيار الذي حاول المزاوجة بين العقل والنقل ، مستندا إلى أن القرآن الكريم نفسه قد ألح في كثير من سوره وآياته على هذه المزاوجة . (إن في خلق السموات والأرض … لآيات لقوم يعقلون , البقرة 164) (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا…البقرة 269) (كذلك نفصل الأيات لقوم يعقلون. الروم 28 ) . ولعل ابن رشد يعتبر بعد المعتزلة الممثل الرئيسي لهذا التيار ، حيث يقول : ” فإنّا معشر المسلمين نعلم على القطع ، أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد به الشرع ، فإن الحق لايضادّ الحق ، بل يوافقه ويشهد عليه ” (أبو الوليد ابن رشد ، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ، دار المعارف بمصر ، القاهرة 1972، ص 31/32). وبحسب الدكتور محمد عمارة فإن المعتزلة هم الروّاد الأوائل للاتجاه العقلاني في الحضارة العرب ـ إسلامية الوسيطة ، والذي تمثّل في محولاتهم الجادّة والدؤوبة للتوفيق بين الدين والفلسفة (التيار الثالث) حيث كانوا ” يرفضون أن تكون مصادر الاستدلال هي فقط الكتاب والسنة والإجماع ، و يرون إضافة العقل إليها حتى تكون أربعة لاثلاثة . بل ويقولون بتقديم العقل عليها جميعا وجعله الحكم والحاكم الذي تعرض عليه بقية المصادر كي يسبر غور نصوصها ويحدد المراد من دلالاتها حتى يتم التوفيق ـ لاالتلفبق ـ بينها ، إذا حدث وظهر التضادّ بين ظواهر النصوص وبين برهان العقل ” (محمد عمارة ، الإسلام وقضايا العصر ،بيروت 1984 ص 132 ـ 134) .
10.
ينبغي عدم الخلط بين مفهوم الفقه الذي هو معرفة أحكام الله في أعمال المكلّفين البالغين بالوجوب والحظر والكراهية والإباحة وذلك من خلال استنباط الأحكام من أدلّتها التفصيلية (أنظر: صبحي الصالح ، نفس المرجع السابق، ص205)
وعلم الكلام الذي هو” علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانيةبالأدلة العقلية “(ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص821) ،
والفلسفة التي هي الجدل حول العقائد الدينية وغير الدينية ، وبالتالي فهي ” البحث العقلي في مبادئ الوجود المطلقة وفي حقائقه الواقعة في الإجتماع الإنساني ـ بحسب منهج متسق شامل ـ مع الإحاطة بالمعارف العامة وبفنون العلم المتصلة بتلك المعارف على أساس من المنطق المقيّد بالتجربة الإنسانية ، وذلك كلّه لفهم مجرى العالم الطبيعي ولبناء نظام عام للحياة الإنسانية ” (عمر فرّوخ ، بحوث ومقارنات في تاريخ العلم وتاريخ الفلسفة في الإسلام ، دار الطليعة، بيروت 1986، ص 5). هذا مع العلم أن ماأوجب ظهور علم الكلام الإسلامي كان بصورة أساسية هو:
ــ التلاقح الثقافي مع وبين الأمم والشعوب التي دخلت في الإسلام في مرحلة الفتوحات والتوسع الجغرافي،
ــ الخلافات السياسية حول مسالة الإمامة،
ــ الآيات المتشابهات،
ــ تطور الوعي الاجتماعي العام وبالتالي الوعي الفردي في المجتمعات الإسلامية في العصر الوسيط.
ولاريب في أن علم الكلام قد استفاد في مراحله الأخيرة ، أي في مراحله العلميّة ، من الفلسفة اليونانية ، ومن غير الفلسفة اليونانية ، كما يقول الدكتور عمر فرّوخ (عبقرية العرب في العلم والفلسفة ، بيروت 1969 ط3 ، ص 55).
هذا مع العلم أن حركة النقل والترجمة التي ابتدات مع خالد بن يزيد ( 90هـ /708م) ، والتي جعلت الفلسفة اليونانية ـ وخاصة أرسطو ـ في متناول الحياة الفكرية العربية ، ولا سيما في عصر المأمون (786 ـ 833 م) لاحقاً كانت عاملاً مساعداً ومحرّضاً على ظهور التيار الفلسفي الذي ارتفع بعلم الكلام الذي كان يدور أساسا حول مسائل : التوحيد (قدم العالم أو حدوثه ، خلق القرأن، الصفات) ، العدل والفعل الإلهي ( الجبر والاختيار ، الصلاح ، الوحي والنبوة ، يوم القيامة ، عالم الأرواح/الملائكة ، الجن، الشيطان) إلى مستوى الجدل الفلسفي العام ( المذهب الذرّي ، التوفيق بين العقل والنقل …الخ).
11.
إن النقل والعقل كانا حاضرين معاً في جميع الآثار الفكرية العرب ـ إسلامية الوسيطة ، مع اختلاف كبير أو صغير في درجة وفي شدة هذا الحضور تبعاً لظروف الزمان والمكان والجهة المعنية بالأمر . هذا مع العلم أن فعل ” عقل ” يدل في اللغة العربية استنادا إلى استخداماته المختلفة التي بلغت 49 استخداماً في القرآن الكريم على فعالية غير مجزّأة تستخدم الأذن والعين والعاطفة والذكرى والتعرف والاستبطان والنفاذ معاً ، الأمر الذي يتضح معه أن ثمة مجالاً لقيام نظريات متوسعة متعارضة بحسب الإلحاح إمّا على إدراك حسّي ليقين إيماني ، أو على تفهّم حقيقةيبرهن عليها بالعقل الكلامي . (أنظر : محمد أركون ، الفكر العربي ، بيروت ـ باريس 1985 ، ط3 ، ص 98 ـ 100) وبحسب ابن رشد فإنه إذا
” تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها ، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم واستخراجه منه ، وهذاهو القياس.. فواجبٌ أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي” (مرجع سابق ص23)
12.
وفيما يخص مسالة الشيعة ، فإن الكاتب يتفق مع الدكتور عمر فرّوخ في أن” الشيعي ، أو المتشيع دينيّاً ، هو المسلم الذي يعتقد أن الإمامة ركن من أركان الإيمان ، وأن الرسول نصّ على أن تكون في عليّ وأولاده. أمّا المتشيع أدبيّاً فهو الذي يبدي عطفاً على أفراد آل البيت الذين نالهم الأمويون بسوء ، ثم يجعل هذا الشعور موضوعاً من موضوعات إنتاجه الأدبي ” (عمر فروخ، نفس المرجع السابق ، ص 59) . ويصف المرحوم صبحي الصالح نشوء المذهب الشيعي على النحو التالي : ” في وسعنا أن نتصور أن الفكرة بدأت محبة (محبة الإمام عليّ)، وأن المحبة أصبحت هياماً ، والهيام استحال عشقاً ، والعشق غلوّاً وتقديساً.. ومن خلال هذه المعاني بدأت الأفكار العاشقة الولهى تتخذ صورا حزبية وعصبية!” ولا سيما بعد تلك السنّة السيئة التي استنّها معاوية، ألا وهي أمره بلعن الإمام عليّ على المنابر، وايضا بعد قتل كل من الحسن والحسين في عهد يزيد، وهما سيدا شباب أهل الجنة ، وبعد أن أخذت بنات الحسين وعلي سبايا إلى يزيد. (انظر: صبحي الصالح، مرجع سابق، ص 96). وبدوره فإن محمد عمارة يرى أن التشيع إنما بدأ بمولاة أهل البيت من منطلق أحقيتهم بالإمامة ، والانتصار لهم بعد أن ظُلموا .. ثم أصبح فرقة ذات نظرية متميزة في الفكر السياسي الإسلامي، عندما تبلورت نظرية ” النص والوصيّة ” ثم بدأ طور الإنقسام إلى: الزيدية، والاسماعيلية، والإثني عشرية. (أنظر: محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، مرجع سابق، ص 199).
13.
وأيّاً كانت الأطروحات النظرية لكل من المعتزلة والشيعة ،فإن هؤلاء عندما وصلوا إلى السلطة في بعض الأوقات وفي بعض الولايات الإسلامية، لم يكونوا أقل تشدداً وتعصباً من خصومهم ، مبتعدين على صعيد الممارسة عن أطروحاتهم الفكرية والدينية في الحرية والتسامح. إن مثل هذا التبادل في أدوار رفض “الرأي الآخر” في بعض حقب التاريخ الإسلامي بل واستخدام العنف الفكري والجسدي ضد هذا الآخر هو ماوقف وراء محنة ابن حنبل وغيره من العلماء والفقهاء على يد المعتزلة خلال فترة مادعي بـ “محنة خلق القرآن ” التي استمرت طوال عهد المأمون والمعتصم والواثق (170 ــ 233 هـ) ، وكذلك محنة المعتزلة، بعد أن غير الخليفة المتوكل (233 ـ 247 هـ) موقفه من مسالة خلق القرآن وانتقل إلى الجانب الآخر، ناهيك عن محنة الحلاج التي انتهت باتهامه بالزندقة والخروج عن الإسلام وبالتالي الحكم عليه بالإعدام عام 309 هـ. إن الموقف من المتصوّفين عامة وبغض النظر عن الشبهات والمآخذ الدينية والدنيوية على سلوك وممارسات العديد منهم، وبالذات على انسحابهم المدان من الحياة العامة السياسية والاجتماعية، بل وأيضا على الأطروحات النظرية للعديد من رموزهم، إنما تدخل بدورها في إطار ماذكرناه أعلاه عن غياب الحرية والتسامح، وعدم احترام الرأي الآخر.
14.
مع مرور الزمن ومع الابتعاد عن الأصول والينابيع ، فقدت الدولة الإسلامية حيويتها ووحدتها ، وضعف الوازع الديني ، وشرعت الدولة الواحدة اعتباراً من عام 800 م تتشرذم إلى عدد من ” دويلات الطوائف ” التي كان يغلب عليها التعصب العرقي و/أو التطرف الديني الأمر الذي معه ظهرت تيارات من التطرف المضاد التي زادت طين الخلافة العباسية بلّة . ” ومنذ القرن الهجري الرابع (العاشر الميلادي) أخذت الحاجة إلى الجدل بين أصحاب المذاهب والتيارات تتضاءل وتنكمش .. وهكذا انقلب المتكلمون علماء، ثم انقلب العلماء فلاسفة ، وبذلك تجلّت ناحية جديدة من عبقرية العرب حسب الدكتور عمر فرّوخ (مرجع سابق ص 66).
ويوضح ابن خلدون هذا التحول عن علم الكلام بالذات على النحو التالي : “وعلى الجملة فينبغي أن يُعلم ، ان هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طلب العلم إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا والأئمة من أهل السنّة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا. والأدلّة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا. وأمّا الآن فلم يبق منها إلاّ كلام تنزه الباري عن كثير من إيهاماته وإطلاقاته… لكن فائدته لاتزال في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة، إذ لايحسن بحامل السنّة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها ، والله وليّ المؤمنين”( ابن خلدون ، مرجع سابق ، ص 837/838)
ــــــ انتهى ـــــ