بقلم محمد عادل مطيمط
1- طرح المشكل: (مفارقة المشهد السياسي العربي المعاصر)
من البديهي أن يكون الشرط الأوّلي للديمقراطية هو احترام حرّية الفرد Individu . ولكن السؤال الأول الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو السؤال حول ماهية هذا الفرد وحول نطاق تلك الحرية الفردية الذي ترتكز عليه الديمقراطية. ولنتفق على أن ذلك السؤال هو سؤال مركزي في الفكر السياسي ونظريات الدولة قديما وحديثا.
بيد أن المقصود بالحرية الفردية واضح هنا، وهو محلّ اتفاق واسع:
فلا يقصد في هذا السياق بالحرية الفردية حريّة طبيعية Liberté naturelle أو حيوانية لا حدود لها سوى الطبيعة (ما توجبه قوانين الطبيعة: الغريزة، الفطرة)، بل المقصود حرية مدنية Liberté civile يحدّها الحساب والعقل ويقودها القانون المدني في الإطار العام للمصالح المشتركة بين الأفراد. لقد تبيّن ذلك منذ فلسفة العقد الاجتماعي (هوبزHobbes ، سبينوزا Spinoza، رسّو Rousseau …) في القرن السابع عشر من خلال نظريات أصبحت اليوم مرجعيّة رغم النقد والمراجعات التي تمّت: فالانتقال من حالة الطبيعة الافتراضيةétat de nature إلى الحالة المدنية أو السياسيةétat politique في فلسفات العقد الاجتماعي (Philosophies du contrat social)لا ينفي فردية الفرد بل يهذّبها ويجعل لها أُطرا مقننة لتصبح منسجمة مع الوجود المشترك. ولذلك فان الفرد الذي نتحدث عنه هنا بمناسبة التطرّق إلى الديمقراطية ليس الفرد الأناني أنانية مطلقة، بمعنى ذلك الكائن الذي لا ينظر إلى مصلحته الخاصة إلاّ من المنظور الضيق لتلك المصلحة الخاصة، بل هو الفرد الذي ينظر إلى مصلحته في ارتباطها العضوي بالمصلحة العامة. فلا تتحدد الفردية من منظور سياسي وأخلاقي باعتبارها ضربا من العزلة أو الانفراد المطلق الذي يفضي إلى تذْريرAtomisation المجتمع، ولكن باعتبارها جزءا من المنظومة العامة للمصلحة المشتركة. ذلك هو ما يرشح عن تعريف “رسّو” الشهير للحرية المدنية في العقد الاجتماعي (1762) Du Contrat socialعندما بيّن أن ما يخسره الفرد بسبب العقد الاجتماعي هو الحرية الطبيعية وحق مطلق في كل ما يستطيع أن يحققه، في حين أن ما يغنمه هو الحرّية المدنية وملكيته لكل ما يكتسبه. ولذلك يجب التمييز بين الحرية الطبيعية التي لا حدود لها سوى قوّة الفرد والحرية المدنية التي تحددها الإرادة العامة.
“Ce que l’homme perd par le contrat social, c’est sa liberté naturelle et un droit illimité à tout ce qui le tente et qu’il peut atteindre ; ce qu’il gagne, c’est la liberté civile et la propriété de tout ce qu’il possède. Pour ne pas se tromper dans ces compensations, il faut bien distinguer la liberté naturelle qui n’a pour bornes que les forces de l’individu, de la liberté civile qui est limitée par la volonté générale, et la possession qui n’est que l’effet de la force ou le droit du premier occupant, de la propriété qui ne peut être fondée que sur un titre positif’.
On pourrait sur ce qui précède ajouter à l’acquis de l’état civil la liberté morale, qui seule rend l’homme vraiment maître de lui ; car l’impulsion du seul appétit est esclavage, et l’obéissance à la loi qu’on s’est prescrite est liberté (1)
إن الفرضية التي ننطلق منها هنا هي أن هذا التصور للفرد وللحرية الفردية هو أساس الديمقراطية في الغرب اليوم وهو يمثل ثمرة لمسار من التطور الفكري والثقافي والسياسي تحقق في الغرب، وأنه ليس هناك ما يشهد على أن الثقافة العربية قد استكملت هذا الانجاز. وهو ما يقود إلى القول إن الدعوات السياسية لإنشاء أنظمة ديمقراطية للحكم في المجتمعات العربية لا أساس ثقافي لها. أي أن ما يجب على مفكري وسياسيّ هذه المنطقة من العالم أن يتطلّعوا إليه ليس الديمقراطية باعتبارها نتيجة لمسار وإنما هو قبل ذلك استكمال شروط ممارستها. نحن نرى أنه من الأهمية بمكان أن نتوقف عند هذه النقطة على بساطتها لان الانطلاق من مسلّمات خاطئة يقود إلى ممارسات خاطئة وكارثية. إذ ما عساها تكون الديمقراطية السياسية في مجتمعات لا تقبل أصلا بمسلّماتها الأساسية؟
أرجو أن يتمّ فهمي: لست هنا في معرض الدفاع عن الأنظمة السياسية النافية للحرّية، لست نصيرا للاستبداد أو الطغيان ولكنني ابتغي التوقّف عند مسألة خطيرة ولكنها مهملة هي مسألة شروط الديمقراطيّة. والفرق واضح.
فالمطروح أمام الفكر العربي المعاصر وقبل ذلك أمام المجتمعات العربية التي يعبّر عنها هذا الفكر بوجه ما أو بآخر هو أن تتحسّس شروط إمكان الديمقراطية الأخلاقية والفكرية قبل أن يندفع السياسيون والمثقفون فيها دون وضوح رؤية إلى المطالبة بقيام أنظمة ديمقراطية.
إن الحقيقة التي يجب أن ندركها اليوم، الحقيقة التي آن الأوان كي تكون موضوع اعتراف صريح بين المفكرين والسياسيين في العالم العربي تتمثل في أن الثقافة العربية لم تشمل بأي وجه من الوجوه ما يشهد على استيعابها لمقولة الفرد في دلالتها السياسية والأخلاقية، أي في دلالتها التي ارتكزت عليها تجربة النظم السياسية الديمقراطية في الغرب انطلاقا من الثورة الانجليزية الأولى (English Civil War ) ( 1642- 1651) ثم الثورة الفرنسية (1789) وما تلاهما بعد ذلك من توسّع للنموذج الديمقراطي في أوروبا وأمريكا. وإذا كان أغلبنا يقرّ (عن صدق أو عن مجرّد ادّعاء) بان نموذج النظام الجمهوري الموروث عن التجربة الرومانية قبل نشأة إمبراطورية روما الغربية L’empire romain de l’Occident، وكذلك نموذج النظام الديمقراطي الأثيني ثمّ نموذج الديمقراطية الحديثة هي نماذج مثالية يجب استعارة آلياتها لإصلاح أو لتغيير الحالة السياسية للعالم العربي نحو الأفضل، فانه علينا الإقرار في الوقت نفسه بان هذه الاستعارة لا تستقيم دون أن تكون منسجمة انسجاما داخليا، أي دون استعارة المقولات التي يتركب منها الجهاز المفهومي المنسجم للديمقراطية. فالديمقراطية كلّ يؤخذ بأكمله أو يتمّ رفضه بأكمله. أن نأخذ من الديمقراطية آليّة الانتخاب مثلا ونرفض منها المساواة بين الرجل والمرأة أو احترام حقوق الفرد الكونية، فان ذلك لا يفضي بنا إلى الديمقراطية في معناها المنسجم بل إلى صورة مشوّهة عنها قد تتخذ شكل ما سمّي بالديمقراطية الشعبية Démocratie populaire(2) التي هي ليست شيئا آخر سوى الشموليةTotalitarisme أو حتّى شكل انزلاق نحو الثيوقراطيةThéocratie حسب ما تميل إليه الأغلبية السياسية التي تأتي بها صناديق الاقتراع.
اللائيكية باعتبارها تصوّرا ملازما لحرية الفرد وللديمقراطية السياسية:
بل نرى في بعض التحليلات أن الديمقراطية لا تستقيم إلا باستكمال نتيجتها القصوى متمثلة في اللائيكية Laïcité باعتبارها نظاما سياسيا يتعامل مع الفرد على أساس فرديته المجرّدة وليس على قاعدة انتمائه إلى جماعة ذات عقيدة متجانسة. فاللائيكية تشترط حسب تعبير “كاترين كنزلار”Catherine Kintzler منظومة الفئة المفارقيّة (Classe Paradoxale paradoxical class)(2)، أي الفئة التي تمثّل مجالا ينتمي إليه الفرد ويكون مستقلا عنه في الوقت نفسه. إن الفرد الذي يحافظ على استقلاليته في انتمائه إلى مجموعة بعينها يتمتع بحرّية المعتقد وليس من حق تلك الفئة أو السلطة السياسية النابعة من الأغلبية في تلك الفئة أن تفرض عليه معتقدا بعينه: ذلك هو معنى الانتماء المفارقيّAppartenance paradoxale(3) الذي جعلت منه المفكرة الفرنسية “كاترين كنزلار” أساسا للديمقراطية واللائيكية معا. وهي تعرّف هذا المفهوم على الوجه التالي:
«Former une république, dans laquelle la dépendance à l’égard de l’autorité politique a pour motif et pour effet de rendre chaque citoyen indépendant de tout autre et libre de toute autre association, c’est souscrire au régime d’une classe paradoxale. Les droits définis pour tous ont pour effet que chacun pourra les exercer d’une manière radicalement dissemblable de tout autre(4)»
“يتمثل تكوين جمهورية – تجعل من استقلال كل فرد عن الآخرين ومن تحرره من كل قيد جماعيّ دافع ونتيجة الخضوع للسلطة السياسية – في إثبات نظام الفئة المفارقيّة. في هذا النظام ينتج عن الحقوق الممنوحة للجميع أن يكون كل فرد قادرا على التمتع بها بطريقة مختلفة جذريا عن الجميع”
وبهذا الوجه يكون المبدأ المقوّم لوجود الفرد داخل المجتمع اللائيكي هو حقّه في أن يكون مختلفا:
Prise à la dimension du citoyen, la question de l’inscription au régime de la classe paradoxale pourrait se formuler ainsi : dans une cité laïque, la proposition « je ne suis pas comme le reste des hommes » non seulement est possible, mais il faut la placer au fondement de l’association. En entrant dans l’association, je vous demande de m’assurer que je pourrai être comme ne sont pas les autres, pourvu que je respecte les lois, lesquelles ne peuvent avoir d’autre fin ultime que de m’assurer ce droit(5)
فالقضية القائلة “لست كبقيّة الناس” ليست فقط قضيّة ممكنة في إطار المجتمع المبني على الانتماء المفارقيّ بل يجب أن نجعل منها القضية المركزية في تصوّر هذا المجتمع. أي أن الفرد الذي يهمّ بالدخول إلى ذلك المجتمع ليكون عضوا فيه، يطلب أوّلا من ذلك المجتمع أن يضمن له حقه في أن لا يكون مماثلا للآخرين بشرط أن يحترم القانون الذي ليس له من هدف في حقيقة الأمر سوى ضمان ذلك الحق.
إن حرّية المعتقد مثلا حق يمنح في الإطار الجمهوري والديمقراطي لكل فرد وكل فرد يمارسه بطريقته الخاصة.
هذا الشكل من الانتماء لا يتوفر، أو لم يتوفر إلى حد اليوم، في المجتمعات العربية التي يحكمها إما منطق الصلة الدموية القبلي أو منطق الانتماء إلى الجماعة الدينية المغلقة (مسلم، شيعي، سني..). فكيف لمجتمعات لم تتخلّص بعد، أو هي لا تريد أن تتخلص، مما يمكن أن نسمّيه نمط الانتماء التامّAppartenance totale إلى الجماعة أن تطمح في الوقت نفسه إلى بناء نظم ديمقراطية؟ كيف يسمح سياسيو وإعلاميو هذه المجتمعات لأنفسهم بان يتحدثوا عن الديمقراطية والحال أن مجتمعاتهم منقوصة من شرطها الأساسي: أي من فردية الفرد المنتمي انتماء مفارقيّا إلى مجتمع منفتح؟ أي من استقلالية الفرد رغم انتمائه إلى المجموعة التي يعيش في إطارها؟ أليست هذه الوضعيّة المفارقيّة هي الشرط الأوّل لكلّ حرّية مدنية ولكلّ حياد قانونيّ ومن ثمّة لكلّ ديمقراطيّة؟
فإمّا أن الأمر ينطوى على جهل بمبادئ الديمقراطية وإمّا أن الديمقراطية مجرّد مطيّة للغلبة أو هي شعار يرفع للمساومة واستدراج الناس إلى المناصرة. ولكن الواقع هو أن شروطها السوسيو-ثقافية لا وجود لها. وتطرح هذه المفارقة نفسها بحدّة في المشهد السياسي العربي حتّى أننا نجد أحزابا دينية ترتكز إيديولوجياتها على منطق الجماعة ( أي على منطق الانتماء التام) تطالب بممارسة الديمقراطية. والواضح أن هذه الأحزاب لا تستقي من الديمقراطية سوى بعض آلياتها متمثلة في آلية الانتخاب للوصول بعد ذلك السلطة وفرض منطق الغلبة.
2- الفرد في الثقافة الغربية باعتباره أساسا للديمقراطية:
رغم كل النقد الموجّه إلى النظام الديمقراطي، ورغم انحرافاته الخطيرة بعد الثورة الفرنسية خاصّة في صورة الديمقراطيّة التوتاليتاريّة حسب تعبير “تالمون”، لا يزال العالم بأسره يمجّد الديمقراطية ويتحدث عنها باعتبارها النظام السياسي الأنسب لإدارة العلاقات بين الأفراد أفقيا وبين الأفراد والسلطة السياسية عموديّا. فرغم كلّ الانحرافات التي شهدتها الديمقراطيّة، لا أحد يمتلك اليوم مشروعيّة المطالبة بإقامة نظام سياسي يصادر حرّيات الناس، وحتّى الأنظمة الاستبدادية أو الحركات السياسية الحاملة لمشاريع توتاليتارية أو استبدادية –خاصة في عالمنا العربي اليوم – تجدها ترفع أمام الملأ شعار الديمقراطية: الكلّ يتغنى بالديمقراطية وينصّب نفسه نصيرا لها سواء ممّن يطالبون بها حقّا أو ممّن يرفعونها شعارا زائفا.
لماذا؟
لان الجميع يفترض أو يعترف ضمنيا أن الهدف من النظام السياسي هو هدف أخلاقي يتمثل في حماية الإنسان وتوفير شروط سعادته. والجميع يعي بوجه ما أن هذا الإنسان يتجسد في صورته الأولى والأساسية باعتباره فردا أو جملة من الحقوق الفردية. ثم إنه ليس هناك في تصنيف أنظمة الحكم قديما وحديثا أي نظام يكون اقرب إلى احترام تلك الحقوق الفردية من النظام الديمقراطي. لذلك فان الديمقراطية ستبقى مطلبا للجميع ولن نجد أبدا من يجرؤ على المطالبة بممارسة الطغيان على الناس. ستبقى الديمقراطية هي الأفضل وليس على أعداء الحقوق الفردية من مناهضي التنوير من قدرة على الدفاع عن وجهة نظرهم أمام أناس يجعلون من حرية الفرد واحترام كرامته هدفا أوليا وأساسيا.
غير ان الفرد في الغرب لم ينشأ فجأة ومن لا شيء. لقد كان هناك مسار تشكل تاريخي أدى إلى بروز الفرد حقيقةً اجتماعية أساسية جعلت المجتمعات الغربية تختار الديمقراطية نظاما سياسيا لا بديل عنه. ويمكننا أن نجمل اللحظات الأساسية لهذا المسار كالتالي:
أوّلا: ثورة علمية أدت إلى قلب صورة الكون في الثقافة الغربية منذ القرن السابع عشر. لقد كانت نتيجة هذه الثورة هي ما يمكن وصفه بالقرار استقلالية الكون المادي ( الميكانيكي) عن كل سببية خارجية Autonomisation de l’univers . ولقد أبدع مؤرخو العلم الحديث (“بيار دوهام”؛, P. Duhem، “ألكسندر كويري”. A. Koyré…) في وصف الأثر الميتافيزيقي والأخلاقي ثم السياسي العميق لهذه الثورة. ونحيل الدارس في هذا السياق إلى الدراسات الرائعة التي قام بها المفكر السويسري “جان ماريجكو”Jan Marejko ونشرها طيلة التسعينات حول الأثر الثقافي للثورة العلمية الحديثة (كنا قد ترجمنا إحدى هذه الدراسات إلى العربية ونشرناها في مجلة مدارات التونسية: وهي دراسة بعنوان: الاستتباعات الفلسفية لمبدأ العطالة « Les Conséquences philosophiques du principe d’inertie »). ثم إن استقلالية الكون كوسمولوجيّا ارتبطت فيزيائيا بالحقيقة التي فرضها مبدأ العطالة principe d’inertie الغاليلي والديكارتي والمتمثلة في الفصل بين المحرّك والمتحرك خلافا للتلازم الذي كانت المشائية منذ أرسطو تقرّه بينهما.
ثانيا: هذه الثورة العلمية التي فصلت المحرك عن المتحرك وجسمت فكرة استقلالية الكائن من خلال إثبات استقلالية الكون والفصل بين المحرك والمتحرك قامت أيضا بإقرار مبدأ لا ينتبه الكثيرون إلى أهمية أثره الثقافي وعمقه: هو مبدأ النسبية الغاليلي. (شخصيا أقوم باستمرار بتجربة طريفة مع طلبتي بسؤالهم عن صورة حركة الجسم المتحرك فوق جسم آخر ، جسم يسقط من اعلي برج سفينة تتحرك حركة منتظمة على سطح الماء… وكنت ألاحظ دائما أن فهمهم للحركة لا يزال فهما أرسطيا رغم دروس الفيزياء التي تلقوها على مقاعد الدراسة…)… وربّما كانت الفكرة الأساسية في هذا المبدأ هي فكرة الملاحظ الذي لا تتحدد الحركة إلاّ بالنسبة إليه…
ثالثا: وهي نقطة تحول مرتبطة بالعناصر السابقة وتتمثل في الثورة الفلسفية التي تبعت تلك الثورة العلمية والمتمثلة في تحرير العقل من سلطة الأحكام المسبقة ومن سلطة المصادر الخارجية للمعرفة. لقد كان للفيلسوف الفرنسي دورا رياديا في هذه الحركة من خلال منهج الشك الشهير … ذلك المنهج الذي بيّن بفضله قدرة العقل البشري على إدراك الحقائق الأساسية دونما حاجة إلى سلطة معرفية متعالية.
رابعا: ولكن قبل تبلور التصور العلمي الجديد للعالم وقبل الثورة الفلسفية الديكارتية كان هناك لحظة تاريخية فاصلة ربما كانت دافعا كبيرا للحظتين السابقتين هي لحظة الإصلاح اللوثري في ألمانيا. يمكننا أن نطلق على هذه اللحظة اسم لحظة تحرير الإيمان أو دمقرطة الإيمان عبر دحض موقف السلطة الروحية الكاثوليكية: فاستبعاد دور الوسيط ( الرقيب) بين المؤمن والله وجعل المؤمن قادرا على قراءة وتأويل النص بمفرده مكّن الفرد من حرّية معتقدية لم يسبق له أن تمتع بها في السابق وجعل من مجال الإيمان مجالا متحررا وفرديا ومفتوحا.
خامسا: لحظة التنوير: l’Aufklärung التي جسّمها كانطKant بشكل خاص من خلال مجمل كتاباته النقدية وخاصة من خلال مقال 1784 الشهير “ماهي الأنوار” Was ist Aufklärung ? . ولنذكر هنا أن الفكرة الأساسية التي قادت هذا النص الشهير هي فكرة التمييز بين ال Mündigkeit وال Unmündigkeit ، أي بين الإنسان الخاضع بسبب عجزه عن بناء موقفه بنفسه والإنسان الراشد أو الناضج الذي تحرر من سلطة الغير عليه وأصبح قادرا على بناء موقفه بنفسه. ذلك هو شرط الرقيّ والحرّية حسب كانط.
لنذكّر بان هذا المسار التحرري الذي طبع الوعي والثقافة في الغرب ابستومولوجيا وفلسفيا وأخلاقيا وسياسيا كان له أعداء منذ تلك الفترة (القرن الثامن عشر والتاسع عشر خاصة) (انظر في هذا السياق ذلك البحث المعمّق الذي قام به الباحث الإسرائيلي “زاعيف ستارنهال”Zeev Sternhell مؤخرا ونشره تحت عنوان:Les Anti-Lumières, édition Fayard, Paris, 2006) ) ولكنه انتصر في النهاية وهو لا يزال يفرض نفسه بكل قوة حتى اليوم رغم كل المراجعات للحداثة ورغم النقد الذي تعرّضت له الديمقراطية الليبرالية. فالمطالبون بالمساواة وبالحقوق الاجتماعية اليوم لا يطالبون بشيء آخر سوى بترسيخ نفس مبادئ التنوير والحداثة التي ترتكز على مبدأ حرية الإنسان الفرد.
3- أين الثقافة العربية من ذلك؟
يمكننا القول دون تجنّْ إنه لا شيء من ذلك تمّ استيعابه في الثقافة العربية:
فرغم محاولات التحديث القسري التي قامت بها مشاريع الدولة الحديثة بعد الاستقلال، لا يزال منطق الانتماء القبلي والديني هو الذي يتحكم في وعي الأفراد في المجتمعات العربية. وفي قراءة قامت بها الباحثة “مانويلا إ. ب. جيولفو” Manuela E. B. Giolfo لكتاب السوسيولوجي الألماني “نوربار إلياس” Norbert Elias “مجتمع الأفرادLa société des individus 1933 (6) بعنوان “هل من وجود للفرد في المجتمع العربي المسلم؟” يمكننا أن نسجّل تركيز الباحثة على غياب المفهوم بشكل أساسي في السجلّ الثقافي العربي: إن كلمة فرد في اللغة العربية تعني أولا العيّنة التي يمكن انتزاعها من مجموع ولا تعني بالضبط ما يعنيه الفرد في الثقافة الغربية باعتباره ذلك الكائن المتميز بالإرادة والوعي بالذات. وتركّز الكاتبة على إبراز غياب الدلالة السوسيو-ألسنية Socio-linguistique للفرد في كل الكلمات التي تنتمي إلى نفس الحقل الدلالي ملاحظة أنه لا توجد أيّة كلمة تدلّ على ما تعنيه كلمة الفرد في السجل” الغربي.(8)
ويمكننا أن نعتبر تحليل المفكر الراحل غالي شكري لوضعية المفكر والمثقّف في المجتمع العربي شهادة حيّة على المسافة التي تفصل الوعي الاجتماعي العربي عن فهم اختلاف الفرد وحرّيته خاصة إذا تعلق الأمر بالحرّية الفكرية. نحيل القارئ إلى الفصل الأول من كتابه “مذكرات ثقافة تحتضر”: حرية الفكر: من الحلم الليبرالي إلى نظرية الثورة”. يقول غالي شكري في هذا الاتجاه:
“نلاحظ منذ البداية أن الفرد هو محور ما أدعوه بنظرية حرّية الرأي, ذلك أن الضمير الشخصي – مصدر الرّأي الحرّ – هو قدس أقداس الذات الإنسانية، الذات التي تصطدم بمنتهى فرديّتها مع السلطة والمجتمع والعقيدة الشائعة”(9)
وفي عمق المسألة يبيّن المفكر المصري الراحل ان المسالة لا تتعلق بالتصادم بين الفرد والسلطة السياسية فقط بل بتصادمه أيضا مع المجتمع المحكوم بمنطق التكرار والتجانس: يقول: ” مشكلة الفرد هنا ليست مع السلطة التي تبدو في غالب الأحيان بعيدة عن التحيّز إلى جانب الأكثرية. مشكلة الفرد ليست أيضا مع العقيدة الشائعة. وإنما في اتخاذه موقفا فرديّا شديد الخصوصيّة من السلطة والجماهير والعقيدة السائدة على السواء. اللاإنتماء ( أي ما أسميناه مع “كاترين كنزلار” بالانتماء المفارقيّ) في حدّ ذاته هو محور الأزمة بين الفرد والمجموع”
ونعتقد من جهتنا أن هناك دقة بالغة في هذه الملاحظة التي ساقها الدكتور غالي شكري حول علاقة الفرد بالمجموع. لان هذه العلاقة تبدو الأكثر خطورة في المجتمعات العربية من العلاقة بين الفرد والسلطة السياسية خاصة أن هذه السلطة تمظهرت في حالات كثيرة في شكل سلطة تحديثيّة من شأنها تخفيف وطأة المجموع على الفرد (التجربة التونسية مثالا).
خلاصة القول ان ما تتطلبه الحالة السياسية العربيّة الراهنة ليس تغييرا سياسيا يركّز أنظمة حكم ديمقراطية معلّقة في فراغ تاريخيّ (اجتماعي وأخلاقي وفكريّ) بل التفكير في زعزعة أركان ثقافة تقليدية تمنع الفرد من ان يكون محورا للديناميكية الاجتماعية. ما نحتاجه هو ثورة أخلاقيّة وليس ثورة سياسيّة.
———————–
1) Du contrat social,I, 8.
2) انظر في ذلك: Jacob Talmon, The Origins of Totalitarian Democracy, Londres, 1952. Édition française : Les Origines de la démocratie totalitaire, Paris, Calmann-Lévy, 1966.
3) Catherine Kintzler Qu’est-ce que la laïcité ?, Vrin, coll. « Chemins philosophiques », 2007, 128 p.
4) Catherine Kintzler, Laïcité et philosophie, (publié dans Archives de philosophie du droit « La Laïcité », tome 48, Paris : Dalloz, 2005, p. 43-56), texte en ligne (http://disciplines.ac-montpellier.fr/philosophie/sites/philosophie/files/fichiers/2008/kintzler_laicite_03.pdf)
5) Ibid.
6) La Société des individus (en allemand Die Gesellschaft der Individuen) est un ouvrage du sociologue allemand Norbert Elias, paru en allemand en 1983 puis en français en 1991 (avec un avant-propos de Roger Chartier).
7) “L’INDIVIDU EXISTE-T-IL DANS LA SOCIETE
ARABO-MUSULMANE? PARCOURS INDIVIDUELS
ET INSERTION SOCIETALE:
UNE LECTURE DE N. ELIAS, DIE GESELLSCHAFT DER INDIVIDUEN,
SUHRKAMP, FRANKFURT 1987” (texte en ligne : www.ojs.unito.it/index.php/kervan/article/view/962).
8) ” Les mots par lesquels on désigne en langue arabe un seul homme dans sa réalité individuelle dans le sens général, sont nombreux: wâïid, ƒaïad, šaðñ, maðlûq, ƒað. Le premier terme en révèle la singularité, le second le caractère indéfini, le troisième la complexité psychologique, le quatrième ses limites comme créature, le cinquième son être égal à tous les autres (“Le croyant est le frère du croyant”1). ‘Abd est un sixième terme pour désigner un homme parmi les autres comme un sujet determiné seulement par sa soumission à Allah.
Aucun terme ne fait référence à l’individu comme à quelque chose en soi, quelque chose d’absolu, mais il rapporte immédiatement l’individu à un terme plus général par lequel il obtient sa détermination: wâïid désigne l’un parmi beaucoup d’autres, la singularité opposée à la pluralité; ƒaïad désigne une singularité indéfinie qui s’oppose à l’Unité comme Unicité de la Divinité:
l’indéfinition de la réalité multiple du singulier humain opposé à l’absolu de l’Unité-Unicité divine.
Šaðñ réprésente la complexité, la contradiction, la vulnérabilité et l’inconsistance de la personne
humaine face à la densité parfaite et l’indestructibilité de l’essence divine (ñamad).”. Ibid.
9) غالي شكري، مذكرات ثقافة تحتضر، الدار العربية للكتاب، 1984، ص. 19