الشاعر لا يموت في تذكـر الشاعر الفلسطيني سميح القاسم بقلم د. حامد فضل الله

رحل سميح لاحقاً بكوكبة شعراء المقاومة، توفيق زياد، فدوى وإبراهيم طوقان، معين بسيسو ومحمود درويش. جمعهم “شعر المقاومة الفلسطينية”   كخندق في معركة الصمود والبقاء والقضايا الوطنية، يخوضونها بصلابة الكلمة وسحرها. سميح القاسم ومحمود درويش التوأمان ربطهما الشعر الفلسطيني المعاصر وهموم الوطن المغتصب وافترقا، محمود الى المنفي ويعيش تجربة الغربة ويكتسب شعره بعداً جمالياً أرحب وعمقاً اسلوبياً تجريدياً متفرداً، وبقى سميح بالداخل مرتبطاً بأرضه وأهله وشعبه، يكتب شعراً ونثراً مدافعاً عن قضايا وطنه  وشعبه الذي يحاصره الواقع بأثقاله ومخاطباً الضمير الاِنساني بأسلوبه الجزل وتركيبه السهل ليصل به الى قلب ووجدان وفكر القارئ أو السامع  و مدافعاً عن الهُوية والعزة الفلسطينية :
أمشي!..
منتصب القامة
أمشيِ
مرفوع الهامة
أمشي
في كفي
قصفة زيتون،
وعلى كتفي
نعشي
وأنا.. أمشي
قلبي.. قمر أحمر
قلبي.. بستان
ومدافعاً عن القومية العربية وعن القيم الاِنسانية الرفيعة، فيقول:
آنذا الفلسطيني. شَد جراحَهُ
وطَناً يُضييء عتمةَ الأوطانِ
وأنا شاميُ. ومصريُ. ومن
شغفِ وصلتُ جزائري بعُماني
وغسلتُ في طُهرِ الفراتِ خطيئتي
وجعلت روحَ النيلِ من كُهاني
ومجّد الزعيم جمال عبدالناصر، مخالفاً الرفاق العرب.
ويكتب: حلم عبد الناصر:
ما طرحتْ زيتونة الذاكرة
ثمارها، إلا وراء الرحيل
يا موت !
فافتح شرفة الآخرة
وماشياً،
أخترقُ المستحيل
أراد أن يقول ” بأننا لم نقدر قيمة هذا القائد العظيم الا بعد رحيله مستخدما المجاز حتي الزيتونة طرحت ثمارها حزنا علي رحيل عبد الناصر “
ويكتب في احدى مداخلاته:، بعنوان :”ماركس- العقدة والحل”
” الخامس من حزيران 1967 هي المفجر الكبير لبركان الروح والعقل وكان علي أن أختار بين كهوف الصوفي وبين خندق جديد للمقاتل. وكان ماركس قريباً جداً ولم يحجبه عن عيني اية صورة عملاقة لأن زنازين السجون الاسرائيلية الضيقة لا تتسع للأوهام العريضة الشاهقة. وفي احد هذه السجون اعلنت قناعتي الماركسية. ولكن يختم مداخلته بعقلانية المفكر من  احتراز  وتنبيه مواصلاً:
” إن البديل الماركسي هو بحق البديل الوحيد، وحتى يظل بديلا وحيدا بحق، فأننا مدعوون الى اقصى درجات الجرأة والمسؤولية في المراجعة والمتابعة وتطوير الذات بما يكفل تغيير العالم – هدفنا الانساني الثوري العظيم”
وأيدولوجيته الماركسية لم تمنعه من التجريب في الشعر أو تدفعه الى التبسط الا لماما.
وكان وفياً لرفاق النضال الذين استشهدوا دفاعاً عن الحرية والكرامة.
مرثية لباتريس لوممبا2:
باتريس ! صوتك هز أسماعاً وفتح أعينا
فإذا عيون الشر جاحظة، وأجفان الخنا
وتسللت زمر الأفاعي نحو عشك مَوْهنا
يا ميتاً لكن صوتك خالد في صوتنا!
يا ميتاً لكن روحك خالد في روحنا!
يا ميتاً لكن دينك خالد في ديننا!
وعن عبد الخالق محجوب3:
الخبر الأخير
يارفيق الخصب والبذرة
يا همهمة الاجيال بالفجر القريب
فلا مجد يدوم
غير مجد السنبلة
فوق انقاض العصاة القتلة !!
يا رفيقي الميت الحي، كموتي وحياتي
لست ابكيك.. وأبكي..
رافعاً وجهي الى كل الجهاتِ
وأنا اسمع من كل الجهاتِ
صوتك الهادر :
آتِ :    يا رفاقي..
أنا آتِ !!
وفي قصيدة المستشفى:
الأما زيق والكرد والأرمن الهاربون من الموت
والشركس اللائذون بنخلتنا
اخوة في الخصوبة
فامسحي حزنهم واحضني حلمهم يا عروبة
انهم اخوة اخوة اخوة
هنا يكشف الشاعر عن تضامنه مع الأقليات المظلومة والمضطهدة والمهمشة كموقف مفكر أممي.
……..
زار سميح القاسم برلين قبل حوالى عشرين عاماً فرحنا به واحتفينا به نحن اتحاد الأطباء العرب ، واذكر انني في مداخلتي القصيرة، تعرضت لقصيدته  Persona Non Grata “شخص غير مرغوب فيه” التي يقول فيها:
سترجعُ من حيثُ جئت
 ينمُ عليك الحنينُ وتبرقُ عيناك بالسخط ما شأننا نحن يا صاحب الرعب والشهداء؟
سترجع من حيثُ جئت، لعلك زيفت أوراقَك، اجتنبتك البواخرُ والطائراتُ وعلقَ صورتك المخبرون على جُدُر الحافلات وفي الشاحنات وفي القاطرات جميعُ الخطوط تخافك،…
وقتها كان يعتبر الفلسطيني زوراً وبهتاناً بأنه  الارهابي الأول بدلا من المناضل من أجل حقه ووطنه المغتصب.
واذكر بأنه علق على مداخلتي، ضاحكاً وسارداً طرفة، قائلاً :”أثناء رحلتي الى أمريكا كان يجلس بجانبي على الطائرة امريكي ، سألني عن جنسيتي فقلت له بأنني فلسطيني، فانعقد لسانه وبدأ عليه الاضطراب قلت له يا سيدي الفاضل أنا لا أحمل متفجرات فأنا ليس الا شاعراً فسلاحي الوحيد هو القلم، فرد ضاحكا، أنه أخطر من القنبلة وانخرطنا في نقاشِ عميق بعد أن علمت بأنه ايضاً كاتب”.
وفي تلك الأمسية الرائعة قدم له الفنان التشكيلي السوري العالمي مروان قصاب باشي سفرِه النفيس بالاشتراك مع الروائي عبد الرحمن منيف ” رحلة الحياة والفن ” كهدية.
أمسية جمعت بين مبدعين بارزين قادمين من فنين مختلفين ظاهراً، متحدين جوهراً- أحدهما يرسم بالقلم والآخر بالريشة – إنه لقاء يجسد العلاقة العميقة بين الأدب والفن.
في مداخلة أخرى، كتب سميح  تلبية لطلب ناشرين فرنسيين حول الصراع العربي – اليهودي والفلسطيني- الاسرائيلي :
…مستشهداً بأبيات من الشاعر أبي العلاء المعري:
في القدس قامت ضجةُ         ما بين أحمد والمســـــيح
هذا  بناقوس  يـــــــدق        وذا بمئذنة يصــــــــــــــيح
كل يؤيد ديــــــــــــــــنه        يا ليت شعري ما الصحيح؟
ويواصل سميح:
“لقد اراد المعري بهذا انتزاع فتيل الفوضى لا اطفاء جذوة الايمان. فلا جدال في ان الخير المطلق هو جوهر الاديان والشرائع قاطبة انما الجدال هو حول استخدام الاديان والشرائع وتطويعها لتبرير الشر المطلق. أن يكون الاعتراف بعدالة قضيتي قرارا قانونيا لصالحي، بل قرار اخلاقي لصالح الجنس البشري لصالح نظام جديد في العلاقات بين البشر يعتمد حرية الفرد وكرامة الذات الانسانية، ويعمل على تركيب صورة جديدة لأفق جديد قبالة الحلم القديم الذي قرع من أجله الناقوس ورفع الآذان، ومن أجله كانت جميع الشرائع والمذاهب ومن أجله ذهب ملايين من الشهداء على مر العصور، الحلم القديم ابدا والجديد ابدا : الحرية، العدالة، السلام “
ومن أجل ذلك تنتفض الآن غزة ويثور الشعب الفلسطيني ضد البربرية والهمجية.
لا يكتمل الحديث عن سميح دون التطرق الى علاقته بمحمود درويش.
جمعتهما آلام وأحلام الشعب الفلسطيني وتجربة وعذاب السجون وكتابة الشعر الجميل.
وعندما خرج محمود من الأرض المحتلة عام 1972 أولا الى القاهرة ثم الى بيروت وما صاحب ذلك من التباس وتخوين وشرخ في العلاقة والنقد الجارح قبل أن يعود الصفاء وتعود المحبة ، فيكتب رائعته:
     تغريبة
    الى محمود درويش
لبيروت وجهان
وجهُ لحَيفا
ونحن صديقان
سجناً ومنفى
قطعنا بلاداً وراء بلاد
وها نحنُ، في تعتعاتِ الدوار
نعودُ
وزادُ المعاد
عناقُ سريعُ بباب مطار.
أكان اللقاءُ اعتذارا؟
أكان الوداعُ فرارا؟
بدون كلام نمد اليدين

يفرقنا العالم اليعربي
ويجمعنا العالم الأجنبي
ونبقى أجانبَ في العاَلمين !
    …
تُقبل في عُنُقي قلبَ أُمكْ
” وربُ أخ لك … “
ألقي بهمي على صدرِ هَمكْ
ونبكي ونضحكُ
.. في غربتينْ !
أتسألني كيف حالي
وأنت جوابُ السؤالِ
في القصيدة لا مواجهة ولا تبرير وإنما تفهم لموقف وقرار صديق العمر وتوسيع بؤرة النظر، فالنضال مستمر في الداخل و الخارج وإن اختلفت وسائلُه والفلسطيني منفي وغريب سواء في حيفا أو بيروت أو برلين أو باريس.
ولكن سؤال سميح الحارق لصديقه مختتماً به رائعته:
” أتسألني كيف حالي
وأنت جوابُ السؤالِ “

ولعلني أطرح بالتساؤل:

ألا يحاصرهما معاً وجع الاِجابة؟

وفي قصيدة المستشفى يكتب سميح :  


حياتي فضاءُ
ولا من حدود
وروحي يمامة
وعمري جناحان
لا ينكران الرحيل
ولا ينسيان الاقامة
يوم تغادر روحي فضائي
لشي يسمونه الموت
آمل أن لا تفارق
وجهي ابتسامة  
في هذه القصيدة يكشف الشاعر عن فلسفته وفهمه للحياة والموت. فهو لا يخاف الموت، لكن لا يعشقه و لا ينشده ويحب الحياة من أجل مواصلة دوره التنويري مدافعاً عن قضايا وطنه ومن أجل حياة كريمة وعادلة ومن أجل  انسانية الاِنسان وعندما تزِف الساعة تكسو وجهه الصبوح ابتسامة عريضة كما تمنى، لأنه ذهب راضياً مرضياً.
في التاسع عشر من آب / أغسطس 2014 أزِفت ساعةُ الرحيل فغيب الموتُ الشاعر الفلسطيني العروبي الأممي و اليساري النبيل سميح القاسم
رحل سميح السمح ولم يمت فالشاعر لا يموت.


1مداخلة قدمت بتاريخ 13 سبتمبر 2014 في لقاء تأبيني  وتكريمي لسميح القاسم بدعوة من منتدى الثقافة العربية \برلين
2تم اغتيال باتريس لوممبا بواسطة البلجيكيين في يناير 1961.
3 سكرتير الحزب الشيوعي السوداني، قتله النميري مع رفاقه في يوليو 1971.




مؤسسة ابن رشد للفكر الحر Copyright © 1999 – 2018

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial