خطاب الفائز بالجائزة

Deutsch

كلمة راشد الغنوشي في حفل فوزه بجائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2014

5 ديسمبر 2014

بسم الله الرحمن الرحيم

أحيي هذه المؤسسة – مؤسسة ابن رشد للفكر الحر – وأحيي السادة الديبلوماسيين والمفكرين وطلبة العلوم والصحافيين وأحيي الدولة الألمانية التي تحتضن هذه الجائزة وتحتضن هذه الجمعية المبدعة أشكر لهذه الجمعية أن شرفتني بهذا التكريم الذي أعتبره ليس تكريماً فقط لشخصي وإنما هو تكريم لتونس التي انبثقت منها شرارة الربيع العربي هو تكريم لشهداء هذه الثورة وعلى رأسهم الشهيد البوعزيزي الذي أوقد النار أشعل النار ليس في بدنه فحسب وإنما في أنظمة الاستبداد والقهر في العالم العربي. أحييكم جميعاً أيها السادة والسيدات على هذا التكريم وهو تكريمٌ للفكر العربي الذي برهن السادة الذين كُرموا قبلي أن العرب لا يزالون جزءاً من التاريخ وأن ابن رشد له أحفاد وله مريدون في بلاد العرب وليس في بلاد الغرب فقط. ابن رشد سليل حضارة الأندلس التي أشعت بنورها على العالم – عالم القرون الوسطى – ومثلت جسراً كبيراً لتوصيل أنوار الحضارة العربية والاسلامية إلى أوروبا – اوروبا القرون الوسطى – … ابن رشد، العلامة الموسوعي، الفيلسوف الحكيم، الفقيه والاصولي، الذي لاقى فكره الحر ضروباً من العنت ولكنه صمد، واستطاع أن يمتد في التاريخ، وأحسب أن الثورة التونسية هي امتدادٌ على نحو أو آخر للفكر الحر، فكر ابن رشد وفكر ابن خلدون،… ابن رشد أكد في فكره الفلسفي وفي رسائله على معانٍ أساسية، نحن اليوم في البناء الديمقراطي التونسي نحرص عليها أشد الحرص… ابن رشد أكد على معنى التوافق، قيمة التوافق، بين الدين والعلم، بين الفلسفة وبين الدين. أكد أن الشريعة، أن الدين، شقيق للعقل، شقيق للحكمة وللدين. في رسالته الشهيرة التي مثلت عنصراً أساسياً من عناصر تكويننا الفكري نحن في الاسلام ما يسمى الاسلام السياسي التونسي، رسالته اللامعة: “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”. أكد الفيلسوف في هذه الرسالة أن الوحدة صميمة بين الدين وبين العلم. بين الدين والفلسفة، حيث كانت الفلسفة تُكفَّر لدى بعض المتعصبين. كان ابن رشد يعتبر أن الفلسفة طريق إلى الله لأن الفلسفة، لأن العلم، يحث على العلم بالكون على معرفة هذا الكون. ابن رشد يؤكد أن زيادة العلم بالصنعة يزيد علماً بالصانع. كلما تقدمنا في العلوم أكثر كلما تعرفنا على الابداع، على ما في هذا الكون من إبداع ومن خلال ذلك نتعرف على المبدِع، على الله سبحانه. ولذلك رفض ابن رشد الدعاوى التي كانت توجه للفلسفة على أنها تضل الشباب وعلى أنها تقود إلى الكفر. كان يقول ربما يحصل ذلك أن بعض من يتعلم الفلسفة يقع في الضلال ولكن ليس ذلك عيب الفلسفة لأنه إذا حصل أن شرب أحدٌ الماء فشرق وحتى مات هل نمنع من شرب الماء لأن بعض الناس شرقوا بالماء ولذلك ابن رشد أكد على معنى الوحدة في الكون، أن الكون يقوم على معنى من التناغم، على نوع من الوحدة ولذلك لا ينبغى أن يُضربَ الدين بالعلم ولا العلم بالدين ولا ينبغي أن تضرب العلمانية بالدين ولا الدين بالعلمانية. ينبغي أن ننظر إلى ما في هذا الكون من تناغم، وإلى ما في هذا الكون من حكمة.

مفكرون في تونس، مصلحون في القرن التاسع عشر، تنبهوا إلى البون الشاسع بين الحضارة الاسلامية التي وقعت في التخلف وبين التقدم الغربي. فدرسوا. نفضوا الغبار عن فكر ابن خلدون وعن فكر ابن رشد وأعادوا الاعتبار لأهمية العقل ولأهمية العلم وانطلقوا من أن الاسلام لا يمكن أن يكون نقيضاً للعلم وللتقدم وللحرية وإنما هي فهوم خاطئة للإسلام والتي لا تزال حتى اليوم تَربط الاسلام بالإرهاب وتَربط الاسلام بظلم المرأة وتَربط الاسلام بمحاربة الفنون والآداب الجميلة ولذلك عمل المفكرون هؤلاء إلى وضع ثقافة صالحة، ثقافة تنطلق من الجمع بين التقدم العلمي الذي حصل عليه الغرب وبين مبادئ الاسلام لأن الاسلام حرب على الجهل، والإسلام حرب على التخلف وحرب على الظلم وعلى الفساد. ولذلك انطلقت الحركة الوطنية في تونس في الحقيقة في عشرينات القرن… انطلت من هذا التراث الإصلاحي. صحيح، بعد ذلك تفرعت فروع. فرع برقيبي وفرع يوسفي ومجموعة من المدارس ولكنها كلها تنطلق من الحركة الإصلاحية. اليوم تونس تعيش فيها ثلاث مدارس أساسية – المدرسة الدستورية والمدرسة اليسارية والمدرسة الإسلامية. هذه المدارس في الحقيقة كلها امتداد لفكر ابن خلدون وفكر ابن رشد، لهذا الفكر الإصلاحي. وهنا يمكن الإلماع إلى أحد المكرمين في هذه المؤسسة الذي هو أستاذنا محمد عابد الجابري الذي اهتم بفكر ابن رشد وأبرز العقلانية في هذا الفكر لدرجة أنه وسم الفكر المغاربي – المغرب الاسلامي ومنه الأندلس – بأنه عقلاني وبأن الفكر المشرقي فكرٌ عرفاني. بقطع النظر عن مدى الفصل بين مشرقٍ ومغربٍ فإن فكر ابن خلدون وفكر ابن رشد فعلا كان لهما تأثير كبير على هذه المنطقة، منطقة الأندلس ومنطقة المغرب العربي. قلت هذه المدارس التي هي امتداد في الحقيقة للحركة الاصلاحية والتي بدورها امتداد لفكر ابن رشد، فكر العلم والتقدم والعقل، فكر التوافق والتوحيد، هذه المدارس بعضها أكد على معنى الهُوية مثل الحركة الاسلامية وبعضها أكد على معنى الدولة وعلى التنمية العلمية والتنمية الصحية وبعضها أكد على الجانب الاجتماعي، فكرة العدالة. تناقضت هذه المدارس ولكنها اليوم تعود إلى نفس الجذور الخلدونية والرشدية تعود إلى فكر الاصلاح. والثورة التونسية وهي امتدادٌ لهذا الفكر برهنت على أن التونسيين على اختلاف مدارسهم يمكنوا أن يتوافقوا، أن التونسيين على اخلاف فكرهم يمكنوا أن يصنعوا دستوراً مشتركاً، دستوراً تقدمياً … دستوراً لا يُحدث التصادم، لا يؤمن بالتصادم بين الاسلام وبين العلمانية وبين الاسلام والعقل وبين الاسلام والحرية والديمقراطية وإنما يقوم على معنى التوافق. فالدستور التونسي في الحقيقة هو تجسيدٌ لهذا التوافق الذي ناشده ابن رشد وابن خلدون وناشدته الحركة الإصلاحية، فكر التوافق وليس فكر التناقض وفكر التصادم.

الربيع التونسي هو شجرة اليوم التي لا تزال واقفة، شجرة قد حطمها فكر التناقض والتصادم بين إسلاميين وعلمانيين، بين مجتمعٍ سياسي ومجتمعٍ ديني، تونس أكدت على معنى التوافق وعلى معنى التوحيد وأن المراحل الانتقالية مثل التي نعيشها اليوم في العالم العربي – أن المراحل الانتقالية لا تتسع، لا تتحمل التصادم. في ظل الديمقراطية العادية 51 % كافية للحكم ولكن في الديمقراطية الانتقالية كالتي نعيشها، يعيشها الربيع العربي،
51 % غير كافية لأن 49 % منذ الغد سيعملون على إفشال أصحاب الـ 51 %. وهذا الذي حصل لنا السنة الماضية والتي قبلها بما هدد الربيع التونسي لولا أننا رجعنا إلى فكر ابن رشد، فكر التوافق. ولذلك قبلنا نحن في حركة النهضة أن ننسحبَ من السلطة التي هي مستحقة لنا بالانتخاب لأننا رأينا أن البيت سيسقط فوق رؤوس الجميع. واستعضنا عن ذلك بفكر التوافق ودخلنا في حوارٍ وطني شمل 22 حزب مع أهم منظمات المجتمع المدني. وبعد أشهر من الحوار الذي لم يقصِ أحداً توصلنا إلى هذا الدستور التوافقي وتوصلنا إلى هيئة انتخابية مستقلة تدير الانتخابات. لأول مرة في العالم العربي تجري انتخابات ليست تحت ظل وزارة الداخلية وإنما تحت إشراف هيئة وطنية منتخبة مستقلة عن الجميع. أصبحت لنا هيئة للعدالة الانتقالية وأصبحت لنا هيئة للإشراف على الإعلام لم تبق عندنا وزارة إعلام ولا الإعلام تشرف عليه الوزارة الداخلية وإنما الاعلام تشرف عليه هيئة وطنية مستقلة أيضاً. ما كان ليحدث هذا لولا استعاضتنا عن فكر المغالبة بفكر التوافق. هذا الفكر استطاع أن ينقذ الربيع التونسي وأن يحميَ الشجرة تونس في هذه الغابة المحطمة، أن يحميها من الانهيار.

نحن… اليوم الحديث كثير… أيها السادة والسيدات، الحديث كثير عن خريف عربي وليس عن ربيع عربي. أحياناً هناك نوعٌ من الشماتة، هناك نوع من ترذيل للعرب وللمسلمين على أنهم لا يصلحون للديمقراطية. كأن في جيناتهم مغروس شيء ضد الحرية وضد الديمقراطية. بينما العرب بذلوا من أجل الحرية ما بذله بل أكثر مما بذله غيرهم. ولكن لأسباب كثيرة تعود للتاريخ والجغرافيا والدين وأهمية الموقع ووجود الثروات في هذه المنطقة فإن كواهل العرب مثقلة ولذلك دفعوا أثماناً باهظة من أجل الحرية ولما يصلوها بعد.

أنا على يقين من أن الثورة التونسية أدخلت العالم العربي في عصر جديد، عصر الحرية كما فعلت الثورة الفرنسية بأوروبا والثورة الانجليزية والثورة الأمريكية . دخلت أوروبا في عالم جديد. عالم الحرية. ولكن… إلى أن تفرز الحرية نظاماً ديمقراطياً هناك مسافة وهناك أرواح ستسقط ودماء ستسيل وتضحيات ولكن في النهاية كما نقول في العالم العربي “العفريت خرج من القمقم” – هذه ما أدري المترجم كيف سيترجمها. بالثورة التونسية سقطت فكرة الخوف ومهابة المستبد. كان يظن بأن المستبد هذا لا يُقهر. ولكن العرب رأوا حاكماً دكتاتوراً مستبداً يهرب بليلٍ ورأوا حاكماً آخراً يُحمل إلى المحكمة في قفص، فرعون يُحمل على قفص، لعدة أشهر ورأوا حاكماً آخر يقطع إرباً إرباً. ورأوا ديكتاتوراً آخرا محاصراً في قصر. وهكذا سقط الرعب. هذا الحاكم المرعب لم يعد مرعباً. الشعوب اكتشفت ذاتها. تذوقت طعم الحرية. ولذلك لا عودة للاستبداد في العالم العربي. والمسألة مسألة وقت حتى يلتحق العالم العربي بالعالم حتى تعُمَ الديمقراطية هذه المنطقة التي بقيت ثقبٌ أسود ولكن اليوم الديمقراطية المستقبل أمامها. والمسألة مسألة وقت حتى يتحرر العالم العربي من الديكتاتوريات وسيجد إن لم يعي ذلك الطغاة العرب اليوم أنه لا مصير، لا مستقبل للاستبداد وأنهم سيكونون بين أحد رجلين: مستبد عاقل، حاكم عاقل، يدرك ان بعد هذه الثورات، بعد هذه الروح الجديدة التي انبثت في العالم العربي، روح التحرر، لا بقاء للدكتاتوريات. هناك حكام مستبدون عاقلون يدركون بأن “الحكم بيدي لا بيد عمرو” يقدمون من أنفسهم على إصلاحات حقيقية مثلما فعلت كثير من الأنظمة الملوكية في أوروبا التي قامت بإصلاحات داخلية. في بريطانيا كانت التطور تدريجياً لم يكن تطوراً بالثورة. نحن نتمنى لحكامنا الديكتاتوريين أن يعوا ذلك وأن يقوموا بأنفسهم بإصلاحات حقيقة. ملك المغرب مثلاً قام بإصلاحات جيدة قابلة لأن تتطور نحو الديمقراطية. الحاكم يتمتع بقدر من الذكاء. نتمنى على الآخرين أن يبادروا بإصلاحات. إن لم يبادروا فموجة الحرية متواصلة. ولن يعود العالم العربي إلى الوراء. لأن الديمقراطية ليست مستقبلاً في تونس فقط وإنما هي مستقبل للعالم كله… في عالم أصبح قرية صغيرة يتجول فيها الخبر في لحظات ويطلع الناس على ما يجري في كل مكان. ولذلك نحن مستيقنون أن المستقبل للحرية وأنه لا مستقبل للاستبداد.

نحن أيها السادة والسيدات ننتمي إلى بلدٍ صغير اسمه تونس. ما عندناش مشروع لتصدير الثورة في إلى أي بلد في العالم. الثورة التونسية هي المادة للاستهلاك المحلي مش للتصدير. ولكننا إذا استطعنا أن ننمّي في تونس نموذجاً للانتقال الديمقراطي السلس حيث يتوافق الاسلام مع الديمقراطية وحيث يتوافق الاسلاميون مع العلمانيين هذان التياران اللذان تصارعا خلال نصف قرن تونس برهنت أنهما قادران على أن يتعايشا. وبالأمس لعلكم رأيتم مشهداً بديعاً في البرلمان التونسي الذي ضم كل الطيف الذي أثمرته الانتخابات. كان مشهداً بديعاً أن الاسلاميين يصوتون لصالح رئيسٍ للبرلمان ليس من حزبهم وأن الحزب الأول يصوت للإسلاميين حتى يكون لهم النائب. وأن نائب رئيس الحركة وهو نائب رئيس البرلمان اليوم يأتي لمنافسته – وهي امرأة شهيد – ويقبل رأسها إكباراً لجهود ومكانة زوجها مبرهناً على أن التونسيين مهما اختلفت اتجاهاتهم هم ينتمون إلى وطن واحد لأن الوطنية هي الأساس الذي ينبغي أن توزع على أساس الحقوق بقطع النظر عن عقيدتك، عن لونك فأنت مواطن. مفهوم المواطنة هو مفهوم أساسي في النظام الديمقراطي وهو مفهومٌ أساسي في الإسلام. نبي الإسلام صنع دولة قامت على مبدأ المواطنة. دولة المدينة المنورة قام فيها دستور اسمه الصحيفة أعطى حقوق المواطنة لكل سكان المدينة بما فيها القبائل اليهودية التي كانت في المدينة. ولذلك اليهود لم يعرفوا الاضطهاد في تاريخ الحضارة الاسلامية لأن الاسلام أسس لمعنى المواطنة أن الحقوق توزع على أساس الانتماء إلى الأرض وليس على أساس الانتماء إلى العقيدة. نحن في تونس هذا البلد الصغير بحجمه قادر على أن يشعل نوراً يضيء سماء العالم العربي ويؤسس لعلاقات صحيحة .. يؤسس لمحاربة كل لون من ألوان الطغيان والإرهاب. اللذين ينفقون الأموال الطائلة على محاربة الإرهاب لو أنفقوا شيئاً قليلاً منها على نشر الديمقراطية لكانوا فائزين في الحقيقة.

الإرهاب مرض يصيب كل الديانات. هو ثمرة للاستبداد وللتعفن السياسي والاجتماعي ولذلك من يزرع الاستبداد يحصد داعش. والاسلام يكفر بالاثنين معاً. اليوم هناك مرض الارهاب ولكن الارهاب لا يحارَب بالصواريخ والطائرات. هذا جانب من الموضوع. لا تكفي فيه الصواريخ والطائرات وأجهزة الأمن والقضاء كل هذا ينبغي أن تعمل ضد الارهاب ولكنها لن تقضي عليه ما لم تقضي على أسبابه وجذوره في المجتمع. وجذره الفساد. جذر الارهاب هو فساد الاقتصاد وهو فساد السياسة بالاستبداد وهو التأويل السيئ للإسلام لأن الاسلام يُعلي كما قدم إخواني المقدمون لمعنى “لا إكراه في الدين”. يُعلي الاسلام من معنى الحرية، الحرية للمسلم ولغير المسلم.

ونحن أسسنا منذ انطلقنا إلى السياسة في سنة 1981… انطلقنا بمبدأ واحدٍ، قيمة واحدة طالبنا بها: طالبنا بقيمة الحرية لنا وللجميع. ولذلك ونحن نعلن عن حزبنا سنة 1981 سألنا صحفي: “أنتم عقائديون إسلاميون. ما رأيكم لو أن الشعب التونسي انتخب الحزب الشيوعي ماذا تُراكم فاعلون؟ تخرجون للجبال؟ تعلنون الإرهاب؟” قلنا: “سنحييهم باعتبار أن الشعب التونسي انتخبهم وليس علينا إلا أن نتجه إلى الشعب التونسي، أن نغير رأيه في انتخابات قادمة. لأن الديمقراطية ليس فيها منتصر أبدي وليس فيها منهزم أبدي أيضاً وإنما هو مبدأ التداول.” أنا لا أستاء كثيراً عندما … لم أستاء عندما لم يصوت الشعب. كنت الحزب الأول فأصبحت الحزب الثاني هنأت الفائزين. لأن الذي يهمني ليس أن أكون دائماً في السلطة وإنما يهمني عندما أخرج من السلطة أن لا أذهب إلى السجن ولا أذهب إلى القبر. صحيح أن هناك بعض الشعراء المتطرفين – والشعر عادة متطرف يعني – يقول “لنا الصدرُ دون العالمين أو القبر” إما الصدر أو القبر. قلت بين الصدر والقبر هنالك مسافة واسعة يعني. لماذا إما أن تكون في الصدر أو في القبر؟ هناك مسافة بحيث ليس من الضرورة أن تكون في السجن أو على كرسي الحكم. هناك مكان للمعارضة. ولذلك نحن عندما أسسنا دستوراً وكنا في السلطة تركنا مكاناً للمعارضة. قلنا اللجنة المالية في البرلمان ينبغي أن تكون للمعارضة. نحن نهيئ مكاناً للمعارضة. ولقد جئناه الآن وأدركنا الحكمة في ذلك. حيث منذ سنة 1981 ونحن نرسخ لثقافة الحرية في ثقافتنا الاسلامية. والحرية ليست مجرد شعاراً. أسسنا للحرية في الاعتقاد. فالإسلام لا يأتي الناس إليه مكرهين ولا يبقون فيه مكرهين أيضاً. الناس يأتونه بحرية ويبقون فيه بحرية لأنه لا قيمة لدين، لا قيمة لايمان لا يقوم على القناعة. ولذلك أكدنا في دستورنا على حرية الضمير. وجرّمنا – كما قال أخونا فضل الله – جرمنا التكفير في دستورنا وأكدنا على التعددية والحرية وحقوق الأقليات. وأكدنا بأنه لا معنى لإيمانٍ يقوم على الإكراه. نحن أسسنا في ثقافتنا للمساواة بين الجنسين. ولذلك في المجلس التأسيسي السابق أكدنا على معنى التناصف بين الذكور والإناث في البرلمان وكان من نتيجة ذلك أن كتلتنا هي الوحيدة التي كان فيها تناصف. من بين 89 عضو برلماني كان من بينهم 42 امرأة. ولذلك… ليس أن معنى ذلك أن أقول نحن وصلنا مرحلة الكمال. نحن نتعلم. نتعلم. وتعودنا على أن نقيم مساراتنا وكثيراً ما وقفنا على أخطاء لنا من أجل تجاوزها. لأن الديمقراطية ليست هي جرعة نحتسيها كأساً، نحتسيها مباشرة وإنما هي مسار نتعلمه ونوطّن أنفسنا عليه. ولذلك نحن نقبل النقد. نمارس النقد داخلنا ونقبل النقد من خارجنا. ونعتبر أننا مبتدؤون وأننا ينبغي أن نتعلم من بعضنا البعض وهذا هو الدرس الرشدي الذي تركه في الناس. ينبغي أن يُتعلم. وهذا هو الدرس الإسلامي: العلم، “طلب العلم من المهد إلى اللحد”.

نحن نشكر هذا الجمع الكريم الذي كرمنا وكرم في الثورة التونسية. كرمنا هذا التكريم. نشكركم أيها السادة ونقدر جهدكم ونقدر عملكم ونؤمن بأن مستقبلنا واحد… نحن جميعاً من أبٍ وأمٍ، من أسرة واحدة. يا أيها الناس “إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا ليقتل بعضنا بعضاً. لم يخلقنا ليحارب بعضنا بعضاً، وإنما خلقنا لنتعارف، لنتبادل المعرفة، لنتبادل المنافع، لنتبادل العلم. وهذا هو فكر ابن رشد، وهذه هي العلمانية الصحيحة وهي حرية العقل، حرية العلم، حرية التفكير، حرية الاختيار. وهذه الحداثة الحقيقية. ونحن على هذا الطريق سائرون. شكراً لكم. وألف شكر لكم.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial