يقدم الباحث والجامعي الألماني هنا تناولا جيوسياسيا شاملا لما يدور في المنطقة العربية منذ اندلاع الربيع العربي فيها، يأخذ في اعتباره مجموعة من العوامل المهمة في التغيرات الحتمية التي دارت في المنطقة، والتي يؤكد أنها ستبقى وتتفاقم، وأنه لا رجعة عنها مهما كانت آليات الحراك الراغب في وأدها أو حصارها. …إقرأ المزيد*
لا زالت الانتفاضة في العالم العربي ومناطق أخرى في الشرق الأوسط في بدايتها بعد عامين على سقوط الرئيس التونسي بن علي ونظيره الرئيس المصري حسني مبارك. يعيش العالم العربي منذ كانون الثاني/يناير 2011 ساعة تاريخية لم نر منها إلا مجرد دقائقها الأولى. إن التغيرات في المنطقة، خاصة إذا نظرنا إلى التحديات المحددة وكذلك إلى تجارب المناطق الأخرى في الدول التي خضعت للتحولات في النظام، قد تستغرق بالتأكيد عقداَ أو ربما ايضاً عقدين من الاضطرابات في المستقبل. ربما يكون “الاضطراب” أقرب توصيف للحراك (للديناميات) المتوقعة في المنطقة. تعطى بعض الدول الانطباع بأن رياح التغيير يمكن أن تتجاوزها على الأقل مؤقتاً، بينما يبدو البعض الآخر في وسطها ولكن لا توجد دولة في المنطقة – من المغرب حتى إيران – ستبقى بعيداً عن تأثير هذه الاضطرابات. ومن المرجح أن تصل آثارها إلى خارج المنطقة أيضاً. وكل من قد يعتقد اليوم، بأن بعض دول المنطقة التي استطاعت حتى الآن مقاومة العاصفة، ستكون في عشرة أو خمسة عشر عاما قادمة كما هي عليه اليوم، فهو- أو آخرون– يخدع نفسه على الأرجح خداعاً عظيماً. لايمكننا التنبؤ عن مستقبل أي بلد عربي منفرداً. ولكن يمكننا أن نلقي نظرة على الدوافع الرئيسية، والعوامل الحاسمة للاضطرابات الحالية والتي يجدر ملاحظتها، إذا أردنا على الأقل فهم التطورات المستقبلية والديناميات الإقليمية، أو على الأقل – كأوروبيين – إذا أردنا أن نتفاعل أيضا معها.
إنها التركيبة السكانية (الديموغرافيا)، ياغبي! “It´s the demography, stupid”
أولا: هنا لا بد من ذكر التطورات الاجتماعية والديمغرافية، كما يمكننا استدعاء أحد شعارات الحملة الانتخابية الامريكية “انها التركيبة السكانية.. ياغبي” بدأت الثورات في العالم العربي وحمل ثقلها إلى حد كبير جيل الشباب ما بين20 إلى 35 عاماً، هذه الفئة العمرية إلى جانب تزايد معدل الولادة في العالم العربي، هي الأكبر من الجيل الذي سبقها ومن سيليها. وهي تمتلك تعليما وشبكة تواصل أفضل من الجيل السابق، لكن لديها فرص أقل من الأجيال التي سبقتها والتي تليها في المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء. بعد انقضاء عامين على بدء أعمال الثورة والاحتجاجات في العالم العربي، ما زالت الحالة الاجتماعية والاقتصادية لهذا الجيل على حالها ولم تتحسن بعد. لا عجب إذن، من استمرار دعم النقابات للاحتجاجات اليوم في تونس في تلك المناطق ومن تلك الفئات الاجتماعية التي أطلقت ثورة كبرى ضد بن علي والنظام القديم. إن الأجيال الثورية بحكم التعريف لا صبر لديها. كما ان هذا الجيل ولهذا أهمية خاصة، لم يكن من كبار الفائزين حتى الآن أيضاً سياسياً من هذا التغيير. هكذا، ففي البلدان التي جرت فيها حتى هذا الحين انتخابات حرة أي في تونس ومصر والمغرب وليبيا، لم يكن أولئك الذين فازوا في الانتخابات هم من قاموا بالثورة، بل فازت الحركات السياسية التي قفزت وركبت موجتها بعد أن كانت الثورة بالفعل منطلقة على قدم وساق، ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من جماعات الإسلام السياسي. إن الجيل الثائر. ﻟ”2011″ ما يزال موجوداً وسوف يتحدى السلطات المنتخبة وغير المنتخبة ويكون لهم بالمرصاد إن لم يقدموا، أو إن اعطوا انطباعاً برغبتهم في اعادة عجلة التاريخ الى الوراء. وهذا تماماً ما تشهده مصر من جديد منذ خريف عام 2012.
مصر في الطليعة، المملكة العربية السعودية في الخلف
هذا الجيل، الذي يقف هيكلياُ في حالة قطيعة مع الظروف السياسية والاجتماعية التقليدية في معظم بلدان المنطقة، ومع ذلك، فهو ليس موجوداَ حيث بدأ التغيير في النظام السياسي فحسب، أو في الأنظمة التي تتعرض لضغوط خاصة في مصر وتونس وليبيا والمغرب واليمن أو سوريا، لا بل اكثر من ذلك هو الجيل الذي سوف يتقدم الصفوف في دول أخرى مع بعض الفارق الزمني.
ترسل المملكة العربية السعودية حاليا حوالي 110000 من الشباب، بما في ذلك 30000 امرأة، للدراسة في معظم الدول الغربية، والذين يعودون تدريجيا سوف لن يكونوا بالضرورة راضين عن ظروف الحياة والعمل التي يجدونها في وطنهم. ستصبح المجتمعات في جميع أنحاء المنطقة، حتى في دول الخليج الملكية المحافظة اجتماعيا؛ أكثر فردية وستخضع التسلسلات الهرمية التقليدية في الأسر وبالتالي في المجتمع والدولة للتساؤل. لدى الأسر عدد أقل من الأطفال، وبفضل تكنولوجيات الاتصال الجديدة فإن للفرد امكانيات أخرى مختلفة لتنظيم حقله المرجعي الاجتماعي، وللمرة الأولى في دول مثل المملكة العربية السعودية، يتم فيها تأهيل علمي للنساء الشابات ليس فقط أفضل من أمهاتهن، بل ومن آبائهن أيضاً.(1)
إن ما يطلق عليه فورة الشباب (youth bulge) في العالم العربي هو بطبيعة الحال عامل أرق بالدرجة الأولى، ومع ذلك فهو في نفس الوقت، يمثل أيضا ميزة اقتصادية ضخمة، وديناميات واعدة بالنمو، عندما يحصل هذا الجيل على فرصة المشاركة اقتصادياً واجتماعيا وسياسيا بشكل مناسب.
التعددية الجديدة للإسلام السياسي
إذا نظرنا إلى الفاعلين الحقيقيين والحركات السياسية التي ستحسم تشكيل مستقبل العالم العربي، سوف يتركز النظر بحق وبشكل رئيسي على الإسلام السياسي. كان من المتوقع في عام 2011، بعد بداية الثورة، بأن الدول العربية سوف تذهب أكثر نحو التعددية والديمقراطية، وفي نفس الوقت ستكون أكثر محافظة أيضا. أظهرت الانتخابات في تونس ومصر والمغرب أن الإسلام السياسي أو الأحزاب السياسية الإسلامية لديها قاعدة اجتماعية واسعة. وبإمكان هذا أن يبقى، حتى إذا خسر حزب الحرية والعدالة للأخوان المسلمين في مصر أو حزب النهضة في تونس أصواتا في الانتخابات القادمة لأن خصومهم السياسيين كانوا أفضل تنظيما منهم وكذلك عندما تفقد الأحزاب الإسلامية الحاكمة تألقها. فهذا الطيف الحزبي ووفقا للبلد على أي حال، لوحده أو بالائتلاف مع جماعات سياسية أخرى، لديه الفرصة ويواجه تحدياً بنفس الوقت لإظهار أنه يمكن أن يحكم أفضل ممن سبقوه.
ومثير للاهتمام سياسيا – التطور على المدى المتوسط للهياكل التعددية ومجدٍ أيضا – متابعة المتغيرات داخل الإسلام السياسي. أصبح الإسلام السياسي المنظم أيضا أكثر تعددية مع انفتاح النظم السياسية. التيار الرئيسي السائد للإسلام السياسي، كما يمثله الإخوان المسلمون، هو الآن تحت ضغط المنافسة من الجماعات الإسلامية الأخرى التي تقف إما على “يساره” أو على “يمينه” ويشكل لا سيما الأصوليون المتزمتون بعضاً منها، و البعض الآخر السلفيون الذين يعتمدون على نموذج الاسلام السعودي وهم ينظمون أنفسهم لأول مرة كأحزاب سياسية.
من يحكم، عليه الانجاز : مصر نموذجاً
إن الاحزاب الاسلامية التي تتحمل المسؤولية السياسية، يجب ان تقدم إنجازاً. في مصر مع الرئيس القادم من الأخوان المسلمين والفائز بفارق بسيط بانتخابات حرة والذي يشكل فوزه حالة اختبار (سابقة) كبيرة. الرئيس مرسي وحكومته يجب أن يظهروا النجاح في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، يجب عليهم اتخاذ إجراءات ضد الجهاديين والقوى الإرهابية التي تدعي العمل باسم الإسلام، عليهم التعامل مع العلاقات الدولية، بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل، التعامل مع الجيش والنخب القديمة، كما يجب عليهم أن يثبتوا في نفس الوقت القدرة على اتخاذ القرارات وخلق توافق اجتماعي كما أنهم يريدون الفوز في الانتخابات المقبلة. مصر بالذات هي التي سوف تُظهر بأي اتجاه سوف يتطور ويسير الإسلام السياسي. تطور قد يؤدي نحو براغماتية محافظة والتي تعمل على الاستقرار والتوازن والتطوير في السياسات الداخلية والخارجية، وآخر يعمل في اتجاه حكم الحزب الاستبدادي، على نفس النموذج السابق الذي قدمته القومية العربية التقليدية في استبعاد فئات هامة من المجتمع. وعلاوة على ذلك يجازف بعزل نفسه دوليا.
يوجد الآن بالفعل عدة نماذج مختلفة من الإسلام السياسي الحاكم – الإخوان المسلمون في مصر، الوهابية السعودية، النموذج الإيراني أو حتى حزب العدالة والتنمية في تركيا، الكل في حالة منافسة شديدة، ليس فحسب في دول منفردة مثل تونس، مصر، المغرب وليبيا وفلسطين، ولكن أيضا كجزء من الصراعات الإقليمية على النفوذ والهيمنة.
تركيا مقابل مصر، المملكة العربية السعودية مقابل إيران: توازن جديد ومنافسة للقوى الجيوسياسية
الجغرافيا السياسية الإقليمية أو ديناميات الصراع والتعاون بين دول المنطقة هي في حد ذاتها قوة دافعة رئيسية للاضطرابات. يمكن التسليم عموماً هنا برسم خطوط عريضة لثلاث ظواهر:
أولاً: تغيير في أصل الانتفاضات المحلية، وتغيير الثورات والاضطرابات في ميزان القوى بالمنطقة وفي السياسات الإقليمية. إن المتغيرات السياسية والضغوط الاجتماعية من أجل التغيير في كل دولة على حدة أدت الى نشوء تنافس جديد على النفوذ والمكانة في النظام الإقليمي. وهذا يشمل ايضاً المحاولات من الجهات الخارجية الفاعلة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، والتي لا تزال تبحث بصعوبة لتحديد توجهها في هذه المنطقة، وسعيها للتدخل في النزاعات الإقليمية، وفي كثير من الأحيان، كما يظهر على سبيل المثال في الأنموذج السوري، يقفون فيها ضد غريزتهم السياسية، التي تشير إلى حد ما بعدم التورط في حروب جديدة وحروب أهلية في الشرق الأوسط.
تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية كما ايران يصبحون اللاعبين الرئيسيين في المنطقة. ولدى أنقرة بلا أدنى شك فرصة لتأثير كبير في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، إن لم تبالغ في تقدير قوتها الخاصة. لدى تركيا صلات اجتماعية واقتصادية جيدة مع الدول العربية وسياسياً خاصة مع حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامية اللون من حيث المبدأ، ان يكون الوضع جيداً لإقامة شراكات جديدة. تركيا ومسار التنمية التركي هو أنموذج لكثير من الجهات الفاعلة في العالم العربي، كما ترى بلا شك قوى اجتماعية وسياسية مختلفة – حول الجيش، الأحزاب الإسلامية ورجال الأعمال-. بلا أدنى شك سوف يزداد النفوذ التركي في المنطقة لا سيما إذا نجحت تركيا بالمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية في سوريا بشكل خاص، وساهمت هناك بعملية الانتقال السلمي وإعادة الإعمار.
ما زالت وستبقى المملكة العربية السعودية بالفعل بسبب موقفها المهيمن في شبه الجزيرة العربية ووزنها الاقتصادي لاعبا رئيسيا في المنطقة بأسرها. ومع ذلك، ينبغي للمملكة العربية السعودية وينتظر منها، على عكس العقد الأول من هذا القرن، على الأقل القيام ببعض المبادرات الخلاقة للمنطقة أو لتسوية النزاعات الإقليمية. تسعى الرياض حاليا للحد من ديناميات التغيير السياسي والاجتماعي، وعلى وجه الخصوص لتعزيز الأنظمة الملكية في شبه الجزيرة وكذلك في الأردن. مشاكل المصداقية تبقى قائمة، إذا كانت في سوريا مع تغيير النظام، ولكنها في البحرين مع توطيد الوضع الراهن حتى بالوسائل العسكرية إذا لزم الأمر. إن النفوذ الاقليمي للمملكة العربية السعودية يمكن ان ينكمش عموماً بدرجة كبيرة في السنوات المقبلة. التحديات في السياسة الداخلية التي تواجه النظام الملكي ستكون أكبر، وذلك على وجه الخصوص في مجال وضع معقد لتغيير الأجيال في سدة الحكم، التي تتجاوز مسألة خلافة الملك عبد الله، وتوقع قيود للحد من السياسة الخارجية للطاقة وحرية التبادل التجاري.
إن قدرة المملكة العربية السعودية على ممارسة نفوذها في المنطقة، ستبقى قائمة دائما بالنسبة إلى الدول الأخرى. لكن وعلى وجه الخصوص، فإن تجربة ناجحة لمصر من قبل الإخوان المسلمين ستكون تحديا كبيرا بالنسبة للرياض في المنطقة، وعلى مجتمعها أيضاً. وستُظهر أنه حتى ضمن إطار المرجعية الإسلامية ستكون التعددية السياسية والانفتاح الاجتماعي والثقافي ممكناً أكثر مما في المملكة العربية السعودية.
مصر في دور الفائز، والخاسر إيران؟
مصر، هي أكبر البلدان العربية سكاناً وعموما مركز السياسة العربية أيضا، ولديها كل الفرص كي تصبح مرة أخرى زعيمة للسياسة الإقليمية ولكي تلعب دوراً قيادياً أيضاً. وهذا يشترط أن يتم التغلب على الاستقطاب السياسي الداخلي بين الإخوان المسلمين وخصومهم. فقط عندما تتخذ الحكومة المصرية القرارات وتنفذها، وفي نفس الوقت عندما يمكنها بناء أساس للتوافق الاجتماعي، عندها ستكون مصر أيضا قادرة على التعامل مع شركائها الإقليميين والدوليين. وقد أظهرت المفاوضات المصرية الصعبة مع صندوق النقد الدولي بوضوح: بأن الحكومة المصرية أرادت أن تفعل الشيء الصحيح- الحد من الإعانات غير الفعالة وغير الاجتماعية – لكن نظراً للاستقطاب السياسي في البلاد لم تكن قادرة على ذلك. لكن من المتوقع أن مصر سوف تحاول أن تلعب دورا فاعلا وواثقاً على الصعيد الإقليمي لإثبات المزيد من الاستقلال عما كان عليه الحال في العقد الأخير من حكم حسني مبارك. هذا ممكن،- دون المساس بمعاهدة السلام وجعلها موضع تساؤل أو التخلي عنها – في مقابل إسرائيل وكذلك العلاقة فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية أو إيران. كما ينطبق الشيء نفسه، أيضا على الولايات المتحدة أو أوروبا، حيث يعتقدون بأن معرفتهم أفضل من القاهرة بكيفية معالجة الصراعات الإقليمية. كما أن هناك بعض أمثلة توضح الاستقلالية في الشراكة مع الولايات المتحدة، التي ما تزال تحتاجها هي ايضاً من حكومة تقودها جماعة الإخوان المسلمين، وقد يكون المقترح المصري مؤشراً ببناء فريق اتصال إقليمي يتعلق بسوريا، يضم ليس تركيا والمملكة العربية السعودية فحسب بل أيضا إيران، بالرغم من محاولة واشنطن والرياض عزلها.
لا تنتمي إيران في نهاية المطاف إلى الطرف الفائز من الاضطرابات الإقليمية في العالم العربي، على الرغم من صخب طهران وترحيبها بفوز الأحزاب الإسلامية. بدلا من ذلك، يخوض هذا البلد معركة من أجل الحفاظ على نفوذه الإقليمي الخاص، والذي لا يحصل بالضرورة على اعتراف من الأوروبيين والأميركيين به كشريك، ولكنه يعمل من أجل البقاء كقوة إقليمية لا غنى عنها ويحافظ على استمرار نظامه حياً. على الرغم من كل الصعوبات، التي أصبح النظام الإيراني يواجهها، في العالم العربي بسبب دعمه لبشار الأسد في سوريا، إلا انه سيكون من الخطأ تجاهل إيران كعامل فاعل في الديناميات الإقليمية. في حين يبدو ان طهران تلعب دورأ معرقلا، أكثر منه قوة صانعة. مع ذلك فإن لدى البلد القدرة على ممارسة نفوذ هائل، عندما تطور سياسة أكثر انفتاحا وأقل تقييدا للنظام السياسي ستكون وقتها قادرة على تحريك أكثر لعناصر الإبداع والنشاط في المجتمع، وليس آخرها في تحرك جيل الشباب المتعلم جداً ومشاركته الفعالة في بناء بلدهم – بدلا من دفعهم للهجرة خارجا.
إسرائيل وسوريا – كلاهما لنزاع محتمل
من الملفت للنظر أن إسرائيل وعلى خلفية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والتهديدات، والتصعيد الحقيقي جزئياً في المواجهة بين إسرائيل وإيران – قد أصبحت تلعب دوراً اقل شأناً على المستوى الإقليمي وأصغر بكثير مما كانت عليه في السنوات الماضية. لقد تقبل المجتمع العربي وجود إسرائيل منذ وقت طويل كحقيقة، وبقي الجمهور العربي بارداً تجاه الدوله اليهودية كما في الماضي، وتسوية سلمية بين اسرائيل والدول العربية، التي لم توقع حتى الان معاهدة سلام مع إسرائيل، ستبقى في جميع الاحتمالات خارجها لفترة طويلة، لحين انجاز تسوية سلام دائمة بين إسرائيل والفلسطينيين.
لقد أثرت الانتفاضات العربية على الأقل بعدم نجاح اتهام الخارج بمسؤوليته عن الصراعات الداخلية والتي لطالما استعملتها الأنظمة العربية. فبقدر التضامن الذي ما زال يظهره شعب تونس والمغرب ومصر أو سوريا مع الفلسطينيين، لكنهم أصبحوا أقل استعداداً لتأخير مطالبهم الخاصة بالإنسان وكرامته والعدالة والحرية والحكم الرشيد وتجاهلها باسم الصراع العربي الوطني أو الإسلامي من أجل فلسطين.
إن السياسة الإقليمية والتنافس على السلطة هي في المقابل، الظاهرة الثانية، التي تؤثر مباشرة على التطورات السياسية في كل دولة على حدة. وهي أكثر وضوحا في حالة سوريا. إن الحرب الأهلية المستعرة تماما منذ منتصف عام 2011، لم تعد مجرد صراع على السلطة المحلية، لكنها في الوقت نفسه أصبحت صراعاً على سوريا والذي تقوم بشكل رئيسي كل من تركيا والمملكة العربية السعودية وإيران وقطر بالعمل على متابعة أجندتها الجيوسياسية. وجميع البلدان الإقليمية الأخرى تقريباً، كما أن روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية تحاول أيضا الحفاظ علي أو تكريس مصالحها الإقليمية في سوريا، ومع ذلك ليسوا كلهم لاعبين استباقيين على حد سواء. يجري في هذا النزاع الإقليمي في أحسن الأحوال الاستفادة من الأطراف المحلية، ودورها بشكل محدد في مواجهة امتداد النفوذ الإيراني في بلاد الشام، لهذا فإن الأطراف الإقليمية التي تتوقع سقوط الأسد فهي تنتظر حصولها على نفوذ أكبر في دمشق، نظرا للأهمية الجغرافية الاستراتيجية لسوريا في منطقة الشرق الأوسط ومن اجل الهيمنة الإقليمية.
في حين يغامر اللاعبون الإقليميون أيضا، بكثير من الوعي في الخوض بالصراعات الطائفية في دول كل على حده. بالطبع لا يقوم الصراع في الواقع لا في سوريا ولا في البحرين بصفته بين السنة والشيعة – أو العلويين -، لكن هناك صراع على الحقوق والموارد المادية والسياسية والسلطة. لكن “تطييف” الصراعات السياسية والجيوسياسية، يساعد بلا شك في التعبئة وفي تفاقم هذه الصراعات وفقا لذلك.
الشعور السائد: انعدام الأمن وعدم اليقين
ثالثاً ليس مستغرباً، استمرار هيمنة التوتر على السياسة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط منذ بداية الثورات العربية، وليس أقلها شعور مستمر بعدم الأمان وعدم اليقين. إسرائيل تشعر بعدم الأمان من موجة التغيرات الإقليمية، التي جرفت الحلفاء القدامى وأتت بمجهولين، ولكن كما هو معلوم عدم وجود ود للقوى الفاعلة التي استلمت السلطة مع إسرائيل. ترى إيران بشكل جيد للغاية تضافر جهود الدول الإقليمية والدولية للحد من نفوذها في الشرق الأوسط، وتراه أيضا يشكل تهديداً لنظامها. الكل يعلم في طهران أن تحويل النزاع الإقليمي الى صراع طائفي يضر ايران فقط، ففي نهاية المطاف يشكل الشيعة الغالبية في إيران، ولكنهم عبارة عن أقلية في المنطقة بشكل عام. المملكة العربية السعودية وغيرها من الممالك في شبه الجزيرة والأردن لا يشعرون بالإطمئنان ليس فقط من حيث وضعهم الداخلي، ولكن يبقي التساؤل نفسه أيضا كم سيطول أمد المصالح الجيوستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية في استقرار هذه الأنظمة؟ والى متى ستبقى ضماناتها لهم؟ بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم الثقة بين القادة السياسيين في المنطقة اليوم أكبر من أي وقت مضى. المعرفة المتبادلة أقل، والجهات السياسية الجديدة الفاعلة هي أقل خبرة من الحكام السابقين المتمرسين في إدارة الأزمات التي تمر منذ فترة طويلة على حكام الشرق الأوسط، والذين كانوا يستطيعون التفاهم على طريقتهم الساخرة الخاصة، ويتمكنون من الحفاظ على التوازن الهش، ومنع الانهيارات الكارثية للنظام الإقليمي.
نحن ننسى أحيانا أن الحروب بين دول الشرق الأدنى والأوسط منذ نهاية الحرب بين إيران والعراق (1980 – 1988) – وفيما عدا هذه الحرب- كانت قصيرة نسبيا. على الرغم من استمرار الحروب الأهلية مثلاً في لبنان والجزائر والعراق والسودان لسنوات عديدة، ولكن جرى العمل على ضبطها كي لا تمتد أكثر إلى الدول المجاورة. كما ساهمت سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية وغيرها بنفوذها في الحرب الأهلية بالعراق والتي كانت مستعرة هناك تحت الاحتلال الأميركي، قاتل الإسرائيليون والسوريون بعضهم طوعا في لبنان و”حتى آخر لبناني”، لكنهم تجنبوا المواجهات المباشرة على خط الجبهة المشترك. تفتقر اليوم هذه التجارب في الصراع الذي طال أمده مع كل الخبرة المكتسبة، وخاصة مع عدم وجود مؤسسات إقليمية تعمل على منع الأزمات وإدارتها، أو الأدوات والحوارات الثنائية من أجل بناء الثقة أو على الأقل لتجنب التصعيد غير المقصود – بين الولايات المتحدة وإيران، وبين إيران وإسرائيل. لذلك هناك ما يبعث على القلق خاصة عندما تتحدث الجهات الإقليمية الفاعلة عن حتمية مزعومة للصراعات العسكرية.
البرنامج النووي الايراني هو الأخطر هنا على المدى القصير، وخطر حرب أهلية طويلة في سوريا، والتي تتورط القوى الإقليمية والدولية في المشاركة العسكرية فيها شيئاً فشيئاً، كما ان اليأس الذي قد ينفجر في الأراضي الفلسطينية، عندما يصبح جلياً بأن جهودهم الى الآن من أجل إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل لم تثمر. على الأقل فإن الجهات الدولية الفاعلة، كالإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لديهما دور ليلعباه بلا شك، كما ان عليهم واجب، على الأقل فيما يتعلق بالإتحاد الأوروبي – وبناء على مصلحتهم الذاتية القوية، المساهمة في التوصل إلى حل سلمي للصراعات. يمكن أن يتكلل هذا العمل بالنجاح فقط إذا كانت القوى الفاعلة على بينة بحدود تأثيرها على الديناميات الإقليمية.
الآن، وكما كتب عدد كبير من المراقبين الأجانب، ما يسمى بالربيع العربي، الذي يتبعه سابقا لأوانه بداية فصل الشتاء؟ في الواقع، لا تساعد هذه الاستعارات الموسمية (أنا نفسي حاولت دائما تجنب مصطلح “الربيع العربي”، إذا كان ذلك ممكنا). فهي قصيرة النفس جدا. في النتائج والتوقعات بأن التطورات ستستكمل في غضون موسم واحد ولا تشجع بالتالي على ما هو مطلوب وضروري في مواجهة التحول الاجتماعي والسياسي والثقافي والجيوسياسي المعقد: الصبر الاستراتيجي، وخاصة من الشركاء في الدول والمجتمعات المعنية.
إن التطورات السياسية في العالم العربي وعلى نطاق واسع من الشرق الأوسط تتأثر بعناصر كثيرة عابرة للوطنية. وما لا ينبغي علينا إغفاله أن خبرة الدول التاريخية ولوازم مواردها الطبيعية يجعلها تتعامل بطرق مختلفة مع موجة التغيير الإقليمية العاصفة. التطورات هي أيضا لا تسير على خط مستقيم: الانتكاسات والطرق الملتوية هي القاعدة وليس الاستثناء. ليس هناك سببا لافتراض بأن مصر، تونس أو بلدان أخرى في العالم العربي هم أكثر حصانة ضد ذلك من أوكرانيا على سبيل المثال. الاضطراب والصحوة في العالم العربي حتى الآن لا رجعة فيها، والعودة إلى شروط الدولة الأمنية الإستبدادية العربية لم يعد يبدو ممكنا. لا شيء يعبر عن هذا أفضل من شعار “الشعب يريد” فهو بالنسبة لنا و ليس من قبيل الصدفة فهو يذكرنا بشعار “نحن الشعب” لعام 1989، الذي عبر على امتداد المنطقة بوضوح بأن المواطنين والمواطنات لا يريدون أن يعاملوا كأتباع، وانكار أي حق لكل السلطات السياسية القديمة والجديدة في النظر الى الدولة باعتبارها ملكية خاصة موسعة لها. والناس على حد تعبير صديق إماراتي “أصبحوا أكبر والقادة السياسيون أصغر – وفي جميع دول المنطقة”. لذلك فالتوقع بأن الصراعات- حول توزيع الموارد وتكافؤ الفرص، تعريف الحرية وحسن النظام وتنظيم العلاقات الإقليمية – ستقل في الحال يعني بلا شك الاستهانة بالتاريخ.
ترجمة: حامد فضل الله وفادية فضة
—————————-
إشارات:
*. نشرت هذه الدراسة في أوراق في السياسية الألمانية والدولية،
Blätter für deutsche und internationale Politik، 2/2013, siehe hier
ونشرت في المجلمة الشهرية الكلمة العدد 73 مايو 2013، ISSN 2050-6856
*. أ. د. فولكر بيرتس Volker Perthes، مدير المعهد الألماني للسياسية الدولية والأمن، والمدير التنفيذي لمؤسسة العلم والسياسة في برلين. من مواليد عام 1958، درس العلوم السياسية وعمل باحثا في دمشق (1986- 1987) ثم مساعد أستاذ في الجامعة الأمريكية في بيروت (1991- 1993) له العديد من الكتب والمقالات في الدوريات و المجلات المتخصصة
*. د. حامد فضل الله طبيب اختصاصي، مقيم في المانيا، يهتم بالثقافة وعضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الانسان في القاهرة.
*. فادية فضة، ناشطة في قضايا الهجرة واللاجئين، عضو الهيئة الإدارية لمؤسسة ابن رشد للفكر الحر – ألمانيا.
* انظر. لمزيد من التفاصيل: Philippe Faruges, Demography, Migration and Revolt in the Southern Mediterranean, in: Cesare Merlini und Oliver Roy (Hg), Arab Society in Revolt, Washington D.C. 2012, S. 17-46.