د. محمد أحمد الزعبي
1. تتفق غالبية الأدبيات المتعلقة بالفكر العربي الحديث ، على اعتبار أن مرحلة ماقبل الحرب العالمية الأولى تمثل مرحلة اليقظة/النهضة/البعث/عصر التنوير العربي ، وإن كانت تختلف على بداية هذه الحقبة التاريخية ( يؤرخها فاروق ابوزيد بـ 1828 الذي هو تاريخ نشأة الصحافة العربية ،ويؤرخها حليم بركات بـ 1798 وهو تاريخ الثورة الفرنسية ويطلق عليها تسمية المرحلة التأسيسية ، ويؤرخها البعض بظهور الوهابية على يد محمد بن عبد الوهاب[1703 ـ 1792] وشقيقتيها السنوسية والمهدية ،ويؤرخها البعض بتأسيس الجامعة الإسلاميةعلى يد جمال الدين الأفغاني [1838-1897] ، ويبدؤها العديدون بدخول نابليون إلى مصر 1803 ، ويقرنها آخرون بظهور محمد علي باشا في مصر …الخ ) 2. يمكن إجمال الملامح الإجتماعية والاقتصادية للمجتمعات العربية في ظل المرحلة العثمانية ، والتي مثلت الخلفية التاريخية الموضوعية لظهور عصر التنوير العربي في االقرن التاسع عشر بالآتي : ـ سيادة العلاقات الإقطاعية على مستوى البنائين التحتي والفوقي، ـ هيمنة القطاع الزراعي في ثوبه المتخلف على الحياة الإقتصادية والاجتماعية ( 80 ــ 85 % )، ـ لم تكن القطاعات الإقتصادية الحديثة ( تجارة ، صناعة / الـ 15 % الباقية ) بيد العرب المسلمين ، بل ولا حتى العثمانيين المسلمين ، وإنما كانت بيد الأقليات القومية والأوروبية ( أوربيون ، يونانيون ، أرمن ، يهود … ) ، ـ تعايش العلاقات الرأسمالية الأوروبية الوافدة ، مع العلاقات ماقبل الرأسمالية ( القطاع القديم مع القطاع الحديث ) ، ـ أدت هذه الإزدواجية إلى خراب الإقتصاد الفلاحي والحرفي ، حيث ترك الفلاحون أراضيهم هربا من الضرائب التي زاد عددها على المائة نوع (فمن أصل 3200 قرية في إيالة حلب ، لم يبق سوى 400 قرية في نهاية القرن الثامن عشر وفي القاهرة كان من بين 100 ألف رجل يمثلون قوة العمل في نهاية القرن 18 ، 25 ألفا يعملون كحرفيين ، و15 ألفا كعمال زراعيين وصناعيين وخدميين [ 40 % من قوة العمل ]، بينما كان الباقون [ 60 % ] يعملون في أعمال غير منتجة [ عساكر ، أصحاب عقارات ، رجال دين ، تجار ، خدم ] ) . ـ كانت القوى المنتجةبعناصرها المختلفة على غاية من التدني والتخلف، ـ كانت أصناف الملكية السائدة هي : × أملاك الدولة ( الميري ) وكان السلطان العثماني نفسه يعتبر المالك الحقيقي لها,ودائما ماكان يقطعها ويلزمها لأصحابه وأزلامه وأتباعه . × الأراضي الوقفية ( الرزق / الحبوسات ) وكانت تخضع عمليا لكبار رجال الدين الوثيقي الصلة بالسلطة وبالإقطاع × الملكية الفردية الخاصة الصغيرة ، والتي كانت تتلاشى تدريجيا لصالح الصنفين الآخرين. 3. لقد انعكس هذا الواقع الإحتماعي ـ الإقتصادي على الحياة الفكرية العربية كالتالي على حد وصف نقولا زيادة : “أتى على العرب حين من الدهر ، أخذته فيه سنة من النوم ، فانقطعت فاعليته ، وانعدم نشاطه ، وانكفأ على نفسه ، وقبع في جحره ، واكتفى بقوقعته . بدأت هذه الفترة في القرن 14 ، أو حتى قبل ذلك في بعض الأماكن ، واستمرت حتى مختتم القرن الثامن عشر أو مفتتح القرن 19 . وأصبحت مراكز العلم ، من مدرسة سيدي يوسف في مراكش إلى القرويين في فاس ، والزيتونة في تونس ،… والأزهر في القاهرة ، وغيرها تكتفي بأن تحتفظ بجذوة تحت الرماد ، لكن لالهيب لها يحرق ، ولا وهج يلفح ، واكتفى المشتغلون بالعلم بأن يقرأوا علوم الدين واللغة … وكأني بالمشتغلين بالأدب والعلم والدين والتاريخ وغيرها ، شعروا بقلة البضاعة ، فحاولوا تجويد الصناعة .” (قارن ، نقولا زيادة ، في : إشراف فؤاد صروف، الفكر العربي في مائة سنة ، بيروت 1967 ، ص1 ) . أما بطرس البستاني فيتساء ل متعجبا: ” أين الشعراء ،أين الأطباء ، أين لخطباء ، أين المدارس ، أين المكاتب ، أين الفلاسفة ، أين المهندسون ، أين المؤرخون ، أين الفلكيون ، أين كتب الفنون ، أين العلماء المحققون ، والأدباء المدققون ؟.” ( أنظر: نفس المرجع ، ص 85 ) 4. ولقد زاد طين هذه المآسي المادّية والفكرية بلّة ، سياسة التتريك ، التي شرعت تتبعها حكومة السلاطين العثمانيين ، ضاربةعرض الحائط ، بالعلاقة الحميمة والخاصة بين العرب والإسلام ، وبأنه لابد للمسلم الحقيقي أن يتعلم اللغة العربية التي هي لغة القرآن، ولابد بالتالي أن تكون لغة الدولة الإسلامية الرسمية هي اللغة العربية . 5. وبينما العرب على هذه الحال من القهر والتخلف ، وصلت أفكار الثورة الفرنسية ( الحرية ، الإخاء ، المساواة ) ، وانهزام النظام الإقطاعي ، وانتصار الثورة الصناعية بقيادة الطبقة البرجوازية الأوروبية الناشئة ، وظهور الفكر القومي ، وتلاشي الإمبراطورات الممتدة لصالح الدول القومية …الخ وذلك عبر منافذ متعددة أبرزها مصر ولبنان ، وذلك من خلال: – حملة نابليون على مصر ( 1798/1799 ) ، حيث أحضر معه أول مطبعة باللغة العربية ( مطبعة بولاق ) بالإضافة إلى بعثة من العلماء الفرنسيين قامت بدراسة الجوانب المختلفة للواقع الإجتماعي والاقتصادي والآثاري المصري . – البعثات العلمية التي ارسلها محمد علي باشا إلى أوروبا ، ولا سيما رفاعة الطهطاوي (1801 ـ 1873) الذي تعلم في الأزهر ، وأتم تكوينه الثقافي في فرنسا على يد كبار المستشرقين ، وقام بتعريب الكثير من الكتب العلمية الفرنسية ، وحرر جريدة ” الوقائع المصرية ” ، ونشر كتابيه : تخليص الإبريز في تلخيص باريز ، و الديوان النفيس بإيوان باريز – التعليم والرحلات والصحافة والجمعيات والبعثات والطباعة والترجمة …الخ ( أنظر: نفس المرجع السابق ص23 / ..) 6. أدى تضافر وتداخل الجانبين . السلبي ( غرس الإستبداد الرأسمالي الغربي فوق الإستبداد الإقطاعي التركي ) ، والإيجابي ( أفكار حركة التنوير الأوروبية في الحرية والإخاء والمساواة والليبرالية والديمقراطية ) إلى يقظة الأمة العربية ودخولها حلبة الحداثة ، عبر مجموعة من الحركات والثورات والشخصيات العلمانية و/أوالدينية . وحسب محمد عزّة دروزة ( نشأة الحركة العربية الحديثة ، بيروت 1971 ) فإن أبرز مظاهر اليقظة العربية في مرحلتها المبكرة ( قبل الحرب العالمية الأولى) قد تجلى بـ: – الحركة الإستقلالية عن الدولة العثمانية في كل من مصر وفلسطين ( محمد علي باشا ، ظاهر العمر ) – ثورة كتلة من زعماء مصر وقادتهم ضد الإحتلال الفرنسي لمصر، – الحركة الإستقلالية التي حمل لواءها الزيديون في اليمن لإجلاء العثمانيين . – الحركات الدينية الإصلاحية العربإسلامية ( الوهابية ، السنوسية ،المهدية ) . – ثورة الضباط المصريين بقيادة أحمد عرابي ضد الخديوي توفيق 1882 . – النهضة الأدبية والعلمية ( انتشار المدارس المختلفة : ابتدائية ، إعدادية ، عالية ) ، – الجمعيات الأدبية والدينية والسياسية ( العلنية منها والسرية ) في بعض الأقطار العربية ، والتي من أبرزها: – العلنية: رابطة الوطن العربي(1904) ، جمعية الإخاء العربي العثماني(1908) ، المنتدى الأدبي(1909) ، حزب اللامركزية (1912)، المؤتمر العربي في باريز(1913) ، – السرية: الجمعية القحطانية(1909) ، الجمعية الثورية العربية ، حزب العهد ، جمعية العلم الأخضر ، جمعية العلم (بكسر العين) ، جمعية العربية الفتاة(1911) ، جمعية النهضة اللبنانية . – اتساع نطاق الطباعة ، وبالتالي الثقافة ، ويبدو أنه قد فات الأستاذ دروزة أن يشير إلى التمردات الفلاحية التي قامت ضد الإقطاعيين والملتزمين الأتراك وأعوانهم في بعض الأقطار العربية ، مثل العاميّات الشعبية في لبنان ،والتي يأتي في طليعتها عاميات: طنوس شاهين ،وأنطلياس ، وعامية لحفد. 7. يصف ويقسّم حليم بركات الأستاذ في جامعة جورج تاون الأمريكية ، فكر المرحلة التأسيسية (1798 ـ 1914) كالتالي : – التيار الديني ، الذي انطلق في القرن ال19 من مقولة تقوية الخلافة الإسلامية في وجه الغزو الأوربي المسيحي . وقد ضم هذا التيار جماعتين متنافستين هما : – جماعة تقليدية ارتبطت بالخلافة العثمانية وحاربت كل دعوة للإصلاح ، وهي الجماعة التي ارتبطت باسم أبو الهدى الصيادي( ت 1900 م)الذي كان مستشارا للسلطان عبد الحميد ، والذي شارك في اضطهاد الأفغاني وعبده والكواكبي. – الجماعة السلفية الإصلاحية ، التي اهتمت بإحياء الدين الإسلامي والعودة به إلى نقاوته الأولى ،والتي انتقدت المؤسسة الدينية الرسمية ، وعارضت السلطة في كثير من الأحيان . أبرز ممثلي هذه الجماعة السلفية : جمال الدين الأفغاني ( 1839 ـ 1898 ) الذي حاول أن يزاوج بين الأخذ ببعض منجزات الحضارة الأوربية ( الحكم الدستوري ،العقلانية ، ..) ، وبين الدين الإسلامي ، على أن يظل الولاء الديني هو الولاء الأساسي ، الذي ينبغي أن تقوم على أساسه الجماعات البشرية ، وهو ماجعله يدعو إلى الجامعة الإسلامية .ويعتبر كل من الشيخ محمد عبده (1849-1905) ومحمد رشيد رضا (1865-1935) من تلاميذ وأتباع الأفغاني . تقوم آراء الأفغاني في التجديد الديني ، على أن السبب الأول في تدهور الحضارة الإسلامية هو ” إهمال ماكان سببا في النهوض .. ألا وهو ترك حكمة الدين ،والعمل بها ، وهي التي جمعت الأهواء المختلفة ، والكلمة المتفرقة ، وكانت للملك أقوى من عصبية الجنس وقوته ” ، وبالتالي فإن عوامل نهوض الأمم تقوم على: تحرير العقل من الخرافات والأوهام وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد ، وفتح باب الإجتهاد . فقد ذكر في مجلسه مرة قولا للقاضي عياض تعصب له بعضهم فقال الأفغاني : “ياسبحان الله ،إن القاضي قال ماقاله على قدر ماوسعه عقله ، وتناوله فهمه ،وناسب زمانه ، فهل لايحق لغيره أن يقول ماهو أقرب للحق .. وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال أناس هم أنفسهم لم يقفوا عند حد من تقدمهم ، فقد أطلقوا لعقولهم سراطها ، فاستنبطوا وقالوا وأدلوا دلوهم في الدلاء في ذلك البحر المحيط من العلم، وأتوا بما يناسب زمانهم ويتقارب مع عقولهم.” وحول مسألة الإجتهاد يقول الأفغاني “ما معنى باب الاجتهاد مسدود ؟ وبأي نص سد باب الاجتهاد ؟ أو أي إمام قال أنه لاينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين ، أو أن يهتدي بهدى القرآن وصحيح الحديث أو أن يجد ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما ، والاستنتاج بالقياس على ماينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه.” ( أنظر: علي المحافظه، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914، بيروت 1983, ص74) – التيار الليبرالي ( في سورية ومصر خاصة) ، حيث شدد هذا التيار على الهوية القومية كبديل للخلافة أو الجامعة الإسلامية ، وعلى العلمانية كبديل للسلطة الدينية ، وعلى العقلانية كبديل للإيمانية المطلقة ، وعلى التحرر الإجتماعي (وخاصة تحرر المرأة) كبديل للنزوع التقليدي ، وعلى التطلع نحو المستقبل كبديل للتطلع نحو الماضي ، وعلى الوعي القومي كبديل للوعي الطائفي والقبلي والمحلي ، كما ونادى بأفكار الإندماج الإجتماعي ، وضرورة إحياء اللغة العربية والإقبال على التعليم الحديث . أما أبرز ممثلي هذا التيار فهم: بطرس البستاني (1819 ـ1891 ) ، ابراهيم اليازجي (1847 ـ1906 ) ، يعقوب صروف(1852 ـ 1927) ، جرجي زيدان(1861 ـ 1914) ،قاسم أمين (1863 ـ1908) صدقي الزهاوي (1863 ـ 1936 ) ، محمد كرد علي(1876 ـ1953) ،رفيق العظم(1865 ـ 1924) ، شكيب أرسلان (1869 ـ 1945 ) ، أحمد لطفي السيد(1872 ـ 1936) ، ولي الدين يكن (1873 ـ 1921) ، معروف الرصافي (1875-1945) . – التيار التقدمي الثوري ، الذي التقى مع التيار الليبرالي في أفكار القومية والعلمانية والعقلانية والتحرر الإجتماعي ، ولكنه زاد عليه في أنه كان أكثر راديكالية ، وأنه كان على تماس مع قيم ومبادئ الإشتراكية ( العلمية والوطنية) . أبرز أعلام هذا التيار: عبد الرحمن الكواكبي(1845 ـ1902) ، شبلي شميل (1850 ـ 1917) ، فرح أنطون(1847 ـ1922) سلامة موسى(1887 ـ1958) الذي يمكن اعتباره مخضرما بسبب معايشته كل من مرحلة النشأة والمرحلة التالية لها ( مرحلة مابين الحربين ) . ويتبين من استعراض الأطروحات الأساسية عند كل من هذه التيارات الثلاثة السابقة ، أن إعطاء العقل ، وبالتالي الإجتهاد دوره في مسائل الدين والدنيا ، وضرورة أن يعتمد تقدم الأمة على جناحي البرهان والعرفان معا، كانت تمثل القاسم المشترك لهذه التيارات ، قبل أن تختلف بهذه الدرجة أو تلك ، بهذه الصورة أو تلك ، على المسائل الأخرى. 8. حدثت بعد الحرب العالية الأولى وبسببها جملة من التغيرات والأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية على المستويين العالمي والعربي ، ترتبت عليها جملة من النتائج السلبية ، التي مازلنا نحصد ثمارها المرّة ، ونعاني من آثارها المؤلمة حتى هذه اللحظة . أبرز هذه الأحداث والتغيرات : – انتقال الوطن العربي من تحت نير االعثمانيين المهترئ ، إلى تحت نير الإستعمار الرأسمالي الأوروبي الفتي والقوي . – تجزئة الوطن العربي إلى كيانات هجينة مفتعلة ، وتحويلها إلى مسنعمرات وظيفية ، وتقاسمها بين الدول الإستعمارية المنتصرة في هذه الحرب ، الأمر الذي حل معه الولاء القطري محل الولاء القومي ، والولاء العصبوي ( القبلي والديني والطائفي والجهوي والعصبوي ) محل الولاء الوطني . – إعطاء بلفور وعده المشؤوم المتعلق بإعطاء فلسطين وطنا قوميا للصهيونية العالمية، الأمرالذي ترتب عليه بداية انتداب بريطانيا العظمى على فلسطين، ولاحقا طرد الشعب الفلسطيني من وطنه و إحلال الكيان الصهيوني محله – نتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية في روسيا وقيام الاتحاد السوفياتي. 9. تابع الاستعمار الأوربي الجديد للوطن العربي سياسة التطويع والتخليف التركية ، ولاسيما : – المحافظة على علاقات الإنتاج الإقطاعية ، بعد تهجينها ببعض علاقات الإنتاج الراسمالية ، – محاصرة الصناعات الوطنية التقليدية وطردها من السوق لصالح الصناعات الرأسمالية الوافدة ، – تشويه الاقتصاد الزراعي الوطني وتحويله إلى ا قتصاد موجه ، وحيد الجانب والاتجاه بما فيه مصلحة الصناعة الغربية – المحافظة على الانقسام العمودي في المجتمع العربي (القبلية ، الطائفية ، الانقسام الديني ، الانقسام القومي ) وتوظيفه في خدمة سياسة فرق تسد الاستعمارية المعروفة ، – نشر وتعميق الفكر الإقليمي في الوطن العربي ( الفرعونية ، القومية السورية ، الآمازيغية) على حساب القومية العربية – محاولة تفكيك العروة الوثقى بين العروبة والإسلام ، بواسطة تشجيع كل من التطرف القومي والتطرف الديني. 10. ومع ذلك ، فقد شهدت مرحلة مابين الحربين عددا من التطورات الإيجابية ، على الصعيد العربي ، كان أبرزها : – اغتناء الوعي السياسي القومي بالمضمون الإجتماعي ( الديمقراطية ، العدالة الإجتماعية ) ، – الإنتشار النسبي للفكر العلمي على حساب الفكر الغيبي الميتافيزيقي والخرافي ، – تنامي عدد المثقفين ، ولا سيما ،الطلبة والعسكروالموظفين ، – ظهور العمال كقوة أساسية ذات أفق طبقي ، – ظهور الانقسام الأفقي ( الطبقي أساسا ) في المجتمع ، على حساب / إلى جانب الإنقسام العمودي ، – تراجع الإقتصاد الطبيعي ( الزراعي أساسا ) ـ جزئيا ـ لصالح أنماط الإنتاج الحديثة ( الإقتصاد الصناعي والخدمي) – نمو القطاع الحضري ، وظهور عدد من الصناعات المتوسطة والخفيفة ، وتطور الخدمات الصحية وما ترتب عليها من الإنفجار السكاني. 11. عندما استيقظ العقل العربي/الإنسان العربي على وهج الحضارة الغربية ،التي شرعت تلف العالم والعالمين في القرن التاسع عشر الميلادي ، وجد نفسه في وضع معقد وصعب ومتشاكل ، إنه مسحوق مرّتين ، مرة أمام المدفع ، ومرة أمام المصنع ، متخلف لأنه مسحوق ومسحوق لأنه متخلف ، وأيا كان الوضع والسبب ، فإنه بحلول القرن العشرين بات مدعوا إلى مغادرة ذلك الكهف الذي دامت إقامته فيه قرابة الخمسين عقدا من السنين . وقد كان السؤال المطروح على هذا العقل ولا سيما ونحن أمام المستجدات العالمية التي بدأت مع انتهاء الحرب العالمية الأولى : من أين ؟ ، وإلى أين؟ ، وكيف؟ وفي محاولة المثقفين المعنيين العرب الإجابة على هذه التساؤلات الإشكالية ، وبالإستناد إلى جملة من المعطيات الموضوعية والذاتية ، على المستويين القومي والدولي : – عاذ البعض بالماضي المجيد للأمة ، كمهرب من حاضرها ( نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20 ) المهين ، حيث ذهبوا إلى ” الأزمنة البعيدة التي كان فيها آباؤهم يثيرون رعب آباء الذين يحكمونهم اليوم ” (ج. بولان ، وجها لوجه مع القومية العربية، بيروت 1963 ، ص78 ). وحسب فرانك فانون ،فإن البحث المحموم ” عن حضارة قومية سابقة على العهد الإستعماري (ج. بولان ، وجها لوجه مع لقومية العربية، بيروت 1963 ، ص78 ) وحسب فرانك فانون ، فإن البحث المحموم ” عن حضارة قومية سابقة على العهد الإستعماري إ نما يستمد مشروعيته من حرص المثقفين االمستعمرين [ بفتح الميم ] على أن يبتعدوا قليلاً إلى الوراءأمام الحضارة الغربية التي يوشكوا أن يغوصوا فيها “ ( معذبو الأرض ، بيروت 1962 ص 200 ). إلاّ ان هذا العياذ بالماضي ـ على مايرى المرحوم صدقي اسماعيل ـ لم ينقذ إنسان البلدان المتخلفة من واقعه المظلم ، فهو سواء اكان في الماضي ” مغامرا فينيقيا ، أومشرّعا بابيليا ، أو عالما مصريا ، أو فارسا جاهليا ، أو مسيحيا يبشر برسالة الروح ، أو مجاهدا مسلما يغزو العالم ، فإنه في الواقع … نموذج للكائن البشري المعذب ، الذي يسحقه شقاء الحياة والقلق على المصير ، ويجلله عار الرضوخ للإرادات الأجنبية (العرب وتجربة المأساة ، بيروت 1963 ن ص126 ) ، وانظر أيضا حول هذا الموضوع : ( محمد الزعبي ، التغير الإجتماعي … ، دمشق ، مطبعة الروضة/ مطبوعات جامعة دمشق 1981 / 82 ، ص 161 / 63 ) . – عاذ البعض بالحضارة الغربية ، في صورة هروب إلى الأمام حيث الأيديولوجيات الجاهزة ولا سيما الأيديولوجيتين الرئيسيتين ، الرأسمالية والإشتراكية ، وحيث الطريق الليبرالية السالكة للانتقال من المجتمع الإقطاعي التقليدي إلى المجتمع الصناعي الحديث . – وهناك اتجاه ثالث عز عليه الهروب من المشكلة ، سواء إلى الوراء أو إلى الأمام ، إلى اليمين أو إلى اليسار ، وشرع يبحث لنفسه عن طريق خاصة/ثالثة ، تجنب الأمة الخيارات الخاطئة ، وتأخذ بيدها إلى برّ الأمان ، طريق تستحضر إيجابيات الماضي ( التراث ) وتمزجها بإيجابيات الحاضر( الحداثة ) ، وصولا إلى مجتمع عربي موحد قائم على إيجابيات أثافي عصر النهضة الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها (الحرية ، الإخاء ، المساواة) ، وعلى المزاوجة الخلاقة بين العقل والنقل، وبين القومية والاشتراكية … ، ولعل ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر قد ولدوا من رحم هذا التيار. 12. ومع انتهاء الحرب العالية الثانية ، بل وبسببها أيضا ، حصلت على المستويين القومي والدولي جملة من التغييرات التي كان للدول المنتصرة في هذه الحرب ( الدول الرأسمالية الغربية والولايات المتحدة ) اليد الطولى فيها. أبرزها : – حصول عدد من الأقطار العربية على الاستقلال السياسي ، وانضمامها إلى منظمة الأمم المتحدة – تأسيس جامعة الدول العربية (22 / 05 / 1945 ) ، وانضمام الدول العربية تباعا إليها . – ظهور ماسمي بالاستعمار الحديث ، بنتيجة صعود الولايات المتحدة الأمريكية ، وهبوط الدول الإستعمارية التقليدية والتي كانت تمثل ماعرف بالاستعمار القديم ( برطانيا العظمى ،فرنسا ، إسبانيا ، البرتغال ..) – اتساع رقعة ونفوذ المعسكر الإشتراكي ، وخاصة بعد تبني الصين للنظام الإشتراكي . – صدور قرار تقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة ( 29 / 11 / 1947 ) ، وتصويت الاتحاد السوفييتي إلى جانب هذا القرار ، وقبول بالتالي معظم الأحزاب الشيوعية العربية بهذا القرار ، الأمر الذي ترتب عليه انقسام حركة التحرر الوطني العربية (ح ت و ع ) منذئذ حول القضية الفلسطينية . – ترسيم الدول الإستعمارية ، ولا سيما بريطانيا ( العظمى ! ) لحدود دول اتفاقية سايكس بيكو العربية ، بما يجعل من هذه الحدود المصطنعة قنبلة موقوته يمكن أن تفجرها هذه الدول الإستعمارية في أي وقت تراه مناسبا لحماية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة ، كما هي حال الحدود العراقية ـ الكويتية ، وحدود مشيخات / الإمارات العربية المتحدة ، والحدود السورية ـ التركية ، والسورية ـ اللبنانية ، الخ الخ . – إقامة ” دول ! ” جديدة ، لم تكن موجودة أصلا , ذات وظائف استعمارية محددة ، يأتي في طليعتها حماية الكيان الصهيوني الذي كانت تشيد أسسه وركائزه الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية . أبرز هذه الدول الوظيفية المملكة الأردنية الهاشمية ، والكويت ، ومشيخات آبار النفط (دون استثناء) ، التي يرى الآن ، حتى العميان ، دورها المشبوه والمخجل في كل من فلسطين (الوقوف مع إسرائيل ضد الإنتفاضة والعراق (التعاون مع الإحتلال). – هزيمة الأنظمة العربية فيما سمي بعام النكبة (حرب 1948) ، والتي ترتب عليها ـ أي الهزيمة ـ تاسيس الكيان الصهيوني وتشرد الشعب العربي الفلسطيني في كل أرجاء المعمورة (الشتات) ، ولا سيما الدول العربية المجاورة لفلسطين (دول الطوق) . – ظهور مقولة التخلف والدول المتخلفة/النامية/التابعة/العالم الثالث ، كظهير ونظير للدول الصناعية (المتقدمة/العظمى) الرأسمالية منها والإشتراكية . 13. لقد ترتب على هذه المعطيات الجديدة : – تقلص النفوذ السياسي والأدبي للبرجوازية الوطنية ولأحزابها ، والتي هي أساسا عبارة عن مركب برجإقطاعي ، مقابل تزايد كم وكيف ونفوذ الفئات المتوسطة ، والبرجوازية الصغيرة الناشئة . – بروز دور الجيش على المسرح السياسي ، بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني من جهة ، ولكون شريحة الضباط وضباط الصف ، تعتبر فئة إجتماعية متطورة ، قياسا على الفئات الإجتماعية الأخرى ، ذلك أنها فئة متعلمة ، وعلى علاقة بالتقنية الحديثة المرتبطة بتكنولوجيا السلاح ، إضافة إلى كونها فئة مترابطة ومنضبطة وظيفيا . – تنامي الوعي الوطني والقومي ، الاجتماعي منه والسياسي ، بما في ذلك الوعي المعادي للإستعمار والإمبريالية – بروز ظاهرتين جديدتين على المسرح الدولي والقومي ، هما : ظاهرة الشعب الفلسطيني المشرد ، وظاهرة الدول النفطية واللتين سيكون لهما الأثر الكبير والبارز على عملية التطور والتغير الإجتماعي اللا حقة في المنطقة . – سقوط عدد من الأنظمة الملكية والتقليدية العربية ، لصالح أنظمة جمهورية جديدة ، وذلك على يد الجيش والقوات المسلحة( ، ثورة 23 يوليو 1952 في مصر،ثورة 14 تموز1958 في العراق ، ثورة 23 سبتمبر 1962 في اليمن ) – ظهور وتبلور التيارات السياسية الرئيسية في الوطن العربي ، والتي تمثلت بـ : – التيار الليبرالي ذو النزوع القومي ، والمتبني في بعض الحالات لشعار الإشتراكية ، – التيار الإسلامي بمختلف نزعاتة ومستوياته وانتماءاته ، – التيار الماركسي ـ اللينيني ، أيضا بمختلف انتماءاته وتفرعاته ، – التيار القومي العربي الذي كان يحاول إيجاد صياغة توفيقية لأيديولوجيا خاصة/طريق ثالثة ، تنطوي على كل الإيجابيات المفترضة في التيارات الثلاثة الأخرى. (عصبة العمل القومي، الكتلة الوطنية، حركة القوميين العرب، الاشتراكيون العرب، حزب البعث العربي، ولاحقا الحركة الناصرية) هذا مع العلم أن حالة الصراع بين هذه التيارات الأربعة وتفرعاتها ، كانت هي السائدة ، وذلك كانعكاس لتركيبها الإجتماعي والطبقي والأيديولوجي المتباين . وأيضا لأن التطور الفكري العربي في هذه المرحلة التاريخية قد تميز من جملة ماتميز به في أنه بات يتشكل في أقطار عربية ، تحولت وبفضل اتفاقية سايكس ـ بيكو سيئة الذكر إلى: ـ أقطار منفصلة عن بعضها بعضا ، سياسيا وقانونيا ، رغم انضوائها تحت عباءة جامعة الدول العربية ، ـ أقطار على درجات متفاوتة قليلا أو كثيرا ، في سلم التطور الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والسياسي ، وأيضا في الحجم السكاني والمساحة الجغرافية ، ـ أقطار على مسافات متفاوتة جغرافيا وسياسيا وأيديولوجيا وقوميا من القضية الفلسطينية ، ـ أقطارعلى درجات متفاوته من التجانس الإجتماعي والطبقي والديني والطائفي . ـ أقطارعلى درجات متفاوتة من النمو الإقتصادي ، ومن المستوى المعيشي ، ولا سيما بين الدول النفطية (الخليجية خاصة) والدول الأخرى غيرالنفطية ، بعد دخول عدد من الدول العربية المعروفة نادي الدول المنتجة للنفط (OPEC) ومما يؤسف له ، أن الفكر السياسي والاجتماعي العربي النهضوي ، بدلا من أن يعمل على تجاوز ورتق هذه المسافات بين الجماعات والأقطار العربية، فإنه ـ على العكس من ذلك ـ قد خضع لها ، وتكيف مع تمفصلاتها بل وعمل في كثير من الحالات علىتثبيتها وتعميقها، إلى درجة اتسع معها الرتق على الراتق الذي بات عاجزا عن إعادة المياه إلى مجاريها والأمورإلى نصابها ، حتى أن الجمهورية العربية المتحدة التي قامت عام 1958 ، إثر استفتاء شعبي ديمقراطي لامست نسبته حدود الإجماع ، لم تستطع الصمود لأكثر من ثلاث سنوات، حيث نخرتها، ومن ثم قضت عليها، تلك الخلافات والاختلافات بين وضمن الأطراف النهضوية بل والوحدوية في كل من سورية ومصر على حد سواء. 14 . تمثل هزيمة النظامين المصري والسوري ، أمام إسرائيل ، في حرب حزيران 1967 ، نقطة انعطاف حاسمة ، في تاريخ تشكل الفكر العربي الحديث والمعاصر ، ذلك أنها أسقطت القناع عن نقاط الضعف في مكونات هذا الفكر ، ولاسيما الفكر السلطوي الذي كان متربعا على عرش الحكم في عدد من الأقطار العربية عام 1967 ، والذي فقد مشروعيته الآن ، تماما كما سبق لفكر مرحلة النكبة ، أن فقد مشروعيته بعد حرب 1948، حيث أطاحت به ثورات/انقلابات 1952 في مصر، و1958 في لعراق، و1962 في اليمن ، و1963 في سورية الخ والتي عجزت بسبب طابعها العسكري غير الشعبي وغير الديمقراطي عن إحداث أية نقلة نوعية إيجابية في بنية هذا الفكر سواء قبل سقوط جدار برلين أو بعده. إن كلا من انتفاضة الحجارة ، وانتفاضة الأقصى ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والمقاومة الوطنية للاحتلال الأمريكي وأعوانه في العراق، قد وضع الفكر العربي، والمفكرين العرب أمام مخاض نظري وعملي معقد وعسير، مخاض يمكن أن يكون بداية النهاية لخروج الأمة العربية من عنق الزجاجة إلى فضاء الحرية والديمقراطية، اللذين زاد انتظارها لهما عن نصف الف من السنين. إن تململ هيئات المجتمع المدني ،ولجان حقوق الإنسان ، وظهور التيار الإسلامي الوسطي والمعتدل في معظم الأقطار العربية ،وهذا التأييد الشعبي الكاسح للمقاومة الوطنية في فلسطين والعراق ، إنما يمثل أكثر من خطوة كبيرة على طريق الألف ميل. |