الوجه الفلسفي لحقيقة الانتهاكات السياسية بالمغرب

محمد المصباحي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط

مقدمة

بالرغم من أن لفظة الحق والحقيقة تعني في معناها الرئيسي في اللغة العربية الثبات[1]، فقد تعددت صورها، وتطورت معانيها، إلى درجة يصعب معها الإحاطة بها وحصر المعاني التي تلازمها أو تقتضيها، كما تصعب الإلمام بكل النظريات والتيارات الفلسفية والعلمية التي ظهرت لتفسيرها وتأويلها.

إن الإحساس بتعدد صور الحقيقة وتطور النظر إليها، عبر رؤى العالم المختلفة أو عبر المذاهب والتيارات الفكرية، لم يكن ممكنا في الفلسفات الكلاسيكية والوسطوية[2]. وقد كان تكاثر مذاهب الحقيقة ومقتربات النظر إليها في الأزمنة الأخيرة نتيجة للتقدم الذي حصل في الميادين اللسانية والمنطقية والمعرفية والأخلاقية، ونتيجة للاختلاف بين التيارات الفلسفية في النظر إليها، من وضعية وتجريبية وتأويلية وبراجماتية وأونطولوجية[3].

إن وجود نظريات ومفاهيم متعددة مختلفة للحقيقة يعني أن ليس هناك إجماع بين الفلاسفة حول مضمونها، أو المعايير التي تقاس بها. هذا علاوة على الاتجاهات الفلسفية التي تشك في وجود الحقيقة أصلا، وفي مقدمتها فلسفة نيتشه والفلسفات المتفرعة عنها. لقد حصل تطور كبير في مفهوم الحقيقة، فبعد أن كانت تدل على الوجود أو على المطابقة معه، وعلى الذات والماهية، وبعد أن كانت الحقيقة وليدة الحد والبرهان في مقابل الجدل والخطابة، صارت حقيقة اليوم تنأى بنفسها عن شيئية الوجود وصرامة البرهان، مقتربة بذلك من الحقيقة الخطابية التي تعتمد على الحوار بين “الآراء”. لقد صار من الصعب الآن القول بأنه يمكن الوقوف على واقعة بريئة عن أي تأويل ذاتي، حقيقة في ذاتها بعيدة عن أي إضافات أو تكييفات ثقافية معينة. كما جرت إعادة النظر في مفهومي التماسك المنطقي والمطابقة الميتافيزيقية بين الذات والموضوع.

وبغض النظر عن الذين شكّوا في موضوعية الحقيقة، أو الذين رفعوا شعار موت الحقيقة، وبحثوا عن أصولها في الأساطير والخيالات والأوهام والكذب والرغبات والمصالح الفردية أو الاجتماعية، فإن الحقيقة تبقى لها قوة موضوعية، ولها قابلية للتواصل معها والاتفاق حولها. وبالرغم من أن معظم الفلسفات المعاصرة كفّت عن الإيمان بوجود حقيقة منزهة عن الأغراض والمصالح والإيديولوجيات والثقافات، بل وتوقفت حتى عن اعتبار الوجود الخارجي، مستند الحقيقة، عرَيّا عن التأويلات والثقافات، فإن تلك التيارات لم تنسف وجودها، وإنما عملت على تدقيق وتنويع الوسائل والطرائق للوصول إليها وتصورها.

وقد جرى تقسيم التصورات الكبرى لطبيعة الحقيقة في تاريخ الفكر الفلسفي إلى عدة تقسيمات ؛ فمنهم من ذهب إلى أن هناك ثلاثة تصورات أساسية للحقيقة: التصور الأونطولوجي، والتصور المعرفي، والتصور العملي التوافقي[4]. ومنهم من قسمها إلى تصور دلالي وتصور معرفي. ويتكلم هابرماس (J. Habermas) عن ثلاث تصورات للحقيقة، فالحق بالنسبة إليه هو القول الذي يمكن أن يُبَرَّر ضمن وضع قولي مثالي، وعند (H. Putnam) هو القول الذي يمكن أن يبرَّر ضمن شروط إبستيمولوجية مثالية، وعند أبل (Appel K.) هو الذي يكون موضوع اتفاق استدلالي داخل جماعة تواصلية مثالية، في حين اعترض (Ch. S. Peirce) على شروط التبرير المثالية لأن المسافة بين الحقيقة والقابلية للإثبات (assertabilité) المبرر مسافة كبيرة جداً[5]، وهناك من يرى بأن الحجاج هو السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة، لأننا لا نملك أي مدخل مباشر لشروط الحقيقة المجردة عن كل تأويل[6].

لن أهتم في هذه الورقة بتقديم تحليل مفصل للنظريات التي أنتجها تاريخ الفلسفة عن الحقيقة، ولا بتحليل إحدى تصوراتها الكبرى، وإنما سأعمل، في لحظة أولى، على إبراز أهم المعاني الأولية للحقيقة، والخصائص اللازمة لها أو التي تقتضيها، وذلك من أجل معاينة حضور تلك المعاني والخصائص في الحقيقة التي نحن بصددها، وهي حقيقة الانتهاكات في تاريخ المغرب المعاصر، في لحظة ثانية.


أولا: المعاني الأولية والخصائص الذاتية للحقيقة الفلسفية

في هذه الفقرة نود أن نفحص المعاني الأولية للحقيقة، واللوازم أو الخصائص الذاتية التي تترتب عنها.

  1. المعاني الأولية للحقيقة الفلسفية :
    أول أمر يصادفنا، عند النظر في ماهية الحقيقة، هو أن من طبيعتها الوحدة الموضوعية، وإلا لما كانت حقيقة، ولَمَا جرى الاتفاق عليها والتواصل بشأنها ؛ أما تعدد معانيها فهو فقط من باب اختلاف جهات النظر إليها. غير أنه مهما تعددت معاني الحقيقة عبر تاريخ الفلسفة، فإننا نستطيع أن نحصر ثلاثة معاني أساسية لها، هي الوجود والماهية والمطابقة :
  1. الحقيقة هي الوجود: منذ الحقبة اليونانية اعتُبرت الحقيقة مرادفة للوجود. فقد تصور كل من أفلاطون وأرسطو، وكذا معظم الفلاسفة المسلمين، أن الفلسفة هي معرفة الحقيقة، من حيث أن هذه الأخيرة مرادفةٌ للوجود[7]، في مقابل السفسطة التي كانت تبحث عن المنفعة والقوة، والجدل الذي كان يكتفي بالوقوف عند مرتبة الإقناع عن طريق الآراء والظنون. فقد عرّف ابن رشد الفلسفة بأنها العلم الذي « يفحص عن الحق بإطلاق »[8]، أي عن الوجود بما هو موجود، لا بجهة من جهاته، كما تفعل العلوم الجزئية التي تختص بحقيقة معينة، كالحقيقة الرياضية والطبيعية. ومن هنا يمكن ترجمة عبارة « محبة الحكمة » بمحبة الحقيقة غير المشروطة، أو بالمحبة غير المشروطة للحقيقة، أي أن محبة الفلسفة للحقيقة هي محبة مجردة ونزيهة لموضوع مجرد محايد.

إن دلالة الحقيقة على الوجود في الأعيان[9]، يعني أنها تطلق أولا في مقابل اللاحقيقة أي اللاوجود، وثانيا في مقابل الاستعارة والمحاكاة والخيال، بالرغم من ارتباطها، أي الحقيقة، بجملة من الاستعارات والأساطير المشهورة، كاستعارة النور، وأسطورة الكهف. غير أن الفلسفات الحديثة والمعاصرة، كما أشرنا، أضحت أميل إلى التخفيف من أواصر الصلة بين الحقيقة والوجود، في مقابل ربطها بالاستعارة والمحاكاة.

  1. الحقيقة هي الماهية: المعنى الأساسي الثاني للحقيقة هو الذي تكون به مرادفة للذات والماهية[10]. فحقيقة الشيء هو ذاته وماهيته، أي خصائصه الذاتية التي تجعله موجوداً[11]ً. والعبارة المتداولة بين الفلاسفة : “الأمر الذي يقال على الحقيقة” أو ” المعنى الحقيقي”، هو الأمر الذاتي، أو ما هو بذاته وثابت في الشيء[12]، في مقابل المعنى العرضي أو المجازي[13]. وبهذا النحو تكون الحقيقة هي معنى الشيء الذي به يكون وبمقتضاه يسير. إن ترادف الحقيقة والذات والماهية هو ما يفسر من جهة أخرى أن تكون التعاريف مرادفة للحقائق، من حيث أنها هي الأداة المنطقية للتعبير عنها[14].

ونشير في هذا الصدد إلى أن هيدجر نفسه ربط ربطاً ذاتيا بين الماهية والبحث الفلسفي عن الحقيقة. إذ ذهب إلى أن سؤال الفلسفة عن الحقيقة هو غير سؤال باقي العلوم والمباحث الأخرى، فالفلسفة لا تتساءل عن حقيقة هذا الفعل أو ذاك، عن حقيقة هذه اللوحة، أو هذا الرمز الديني، أو هذه الواقعة الاقتصادية، أو حقيقة هذا الفعل السياسي، أو القيمة الأخلاقية، الفلسفة تتساءل عن الحقيقة في ذاتها، الحقيقة بما هي حقيقة، أي عن ماهية الحقيقة، وهو المعنى الذي يصدق على كل الحقائق[15].

وقد حصر الفكر الفلسفي العربي القديم، المنتمي في عمقه للأفق اليوناني، طرق الوصول إلى الحقيقة في طريقين : طريق التعريف الذي يعطي ماهية الشيء وقوامه الداخلي، وطريق البرهان الذي يعطي لوازمه وأعراضه الذاتية. بعبارة أخرى يقود التعريف إلى تصور الحقيقة، في حين يُفضِي البرهان إلى التصديق بها. غير أن الأساس الذي يقوم عليه كل من الحد والبرهان واحد، وهو التطابق والموافقة بين القول والوجود.

وقد تعرّض هذا التصور لانتقادات كثيرة من قبل الفلسفة المعاصرة، وكان من نتائجها أن تعددت طرق التحقق من الشيء أو التعرف على حقيقته: كالطريق الدلالي، والبرجماتي، والمعرفي (cognitive)، والحواري… هكذا تتطور طرق الحقيقة من البرهان واليقين إلى الخطابة والإقناع.

  1. الحقيقة هي المطابقة: المعنى الرئيسي الثالث للحقيقة هو مطابقة القول – أو الحكم أو الاعتقاد – للشيء أو التجربة أو الحدث[16]. والحقيقة بهذا المعنى تقابل الحقيقةُ الكذبَ والخطأ لأنهما يتجاهلان عنصر المطابقة مع الواقع. وقد أثارت المطابقة انقساماً كبيرا بين الفلاسفة المعاصرين. فقد رأى البعض أن المطابقة تكون بين الشيء ومعناه، وتسمى مطابقة أونطولوجية، وذهب البعض الآخر إلى أنها تكون بين القول والشيء، وتسمى مطابقة معرفية. كما جرى الكلام عن مطابقة تقوم على التماسك المنطقي، ولذلك تسمى مطابقة منطقية، كما يمكن الكلام عن مطابقة دلالية، ومطابقة إثباتية ومبررة…[17]. إن تعدد جهات النظر إلى المطابقة يعبّر عن إرادة تجاوز مفهومها التقليدي. وعلى سبيل المثال نشير إلى أن برتراند رسل يميز بين نظريتين للتطابق، النظرية “الإبستيمولوجية ” والنظرية ” المنطقية[18] ؛ كما يفرق هابرماس بين المطابقة والموافقة، « فأن يكون الأمر موافقا (concordance) للوقائع لا يستتبع بالضرورة أن يكون مطابقا لها (correspondance) »[19]. كما تم ربط الحمل المنطقي بالتساوي، إذ عندما تكون الحقيقة هي ذلك المحمول الذي نحمله على الشيء أو الصفة التي نصف بها القول، فإننا نحدث نوعا من التساوي بين قول وشيء، أو بين محمول وموضوع. غير أن جل التيارات الفلسفية والفكرية المعاصرة، كما مر بنا، لم تعد تطمع في هذه المساواة، مفضِّلة، في مقابل ذلك، أن تنظر إلى الحقيقة باعتبارها ثمرة حوار قولي مستمر داخل جماعة علمية معينة، لا سيما وأن التطابق بين الواقع والفكر يتم في داخل الإنسان، ويقوم به الإنسان بفضل حواسه وعقله.

  1. الخصائص الذاتية للحقيقة
    إن المعاني الأساسية السابقة للحقيقة تقتضي خصائص أو لوازم ذاتية لا تنفك عنها، نذكر من بينها أربعة خصائص:
  1. الحقيقة والمعقولية. نعتقد أن المعقولية هي أبرز الخصائص الذاتية للحقيقة، فالقول بأن الحقيقة هي مطابَقة قول أو اعتقاد لشيء أو ظاهرة أو حدث، هو اعتراف بأن هذه الأمور الأخيرة معقولة، وبالتالي إقرار بأن العالَم يحمل معنى في داخله، يجعله قابلاً لأن تتواصل معه الذات البشرية، عبر اتباع قواعد وشروط منهجية صارمة. إن هذا التواصل يفترض نوعا من التوافق القبْلي بين العقل والواقع. لكن كانط قلب هذا التصور رأسا على عقب عندما أرجع المعقولية المشتركة بين الإنسان والعالم إلى الذات البشرية، التي تُملِي معقوليتها على الطبيعة، مما يجعل الإنسان لا يدرك من الطبيعة إلا ما يضعه فيها أو يشرِّعه لها، أو كما قال فيخته « إن هذا الشيء شفاف أمام عين عقلك، لأنه هو عقلك ». في حين رأت تيارات فلسفية أخرى بأن التماسك الاستدلالي هو الذي يضمن معقولية الحقيقة.

إن إدراك أهمية التلازم بين المعقولية والحقيقة يصبح واضحا عندما نقف على المخاطر التي تنجم عن فصل أحدهما عن الآخر. ذلك أن الحقيقة عندما تتخلى عن مسعى المعرفة وتتخذ لباس العقيدة، أي عندما تقوم الحقيقة على أساس عملي وذاتي، لا على أساس برهاني موضوعي، فقد تتحول إلى حقيقة خاصة بجماعة معينة، وليست حقيقة عامة للجميع. ومن شأن هذا التصور العقدي للحقيقة أن يجعلها أداة للإقصاء، ورفض الاختلاف، بل قد يكون سببا للعنف والحروب. إذ عندما يؤمن المرء بحقيقة خاصة به أو بجماعته التي يؤسسها، فإنه يلغي حقيقة الآخر، اعتقاداً منه بأن الفضاء الواحد لا يسع إلا لحقيقة واحدة. في حين، عندما تكون الحقيقة ثمرة حوار بين المعقولية والعقلانية، بين العالَم والإنسان، وبين الإنسان والإنسان، فإنها تكون حقيقة متسامحة في غالب الأحيان. هذا لا يعني أن الحقيقة عندما تتصف بالتسامح تتخلى عن صرامتها في مراعاة القواعد والشروط المنهجية والمعرفية للوصول إليها، وإنما يعني فسمح المجال لأن تكون للحقيقة عدة أصوات، وتسهيل الفرص للإنصات إليها والحوار معها[20]. إن الحقيقة التي تكون لصيقة بالعقل لا تقتل ولا تقصي، بل تحيي وتستقطب وتعطي الآخر حقه في التعبير عن أي رأي شاء في ظل الضوابط والقواعد المتوافق عليها. إن الحقيقة العقلية غالباً ما لا تكون منغلقة على نفسها، متشبثة بها، متشنجة حيال الغير، بل تكون حقيقة منفتحة حوارية متسامحة، لأنه، كما يقول أحد المفكرين « حينما لا توجد شراكة لا توجد حقيقة »[21].

ومن خلال ما سبق نفهم بأن كل عصر تميز بمعقولية ما، فالحقيقة عند اليونان كانت تدور حول معقولية الطبيعة، وفي العصور الوسطى حول معقولية الدين، أما في العصور الحديثة، وخصوصا بعد هيجل[22]، فقد وقع التركيز على معقولية التاريخ، وما يتصل به من مجتمع واقتصاد وسياسة. ومن الواضح أن الفكر المعاصر ركز نظره على الجانب المعقولي من الحقيقة، بدل جانبها الوجودي، عند النظر إلى إشكالية المطابقة.

موضوعية الحقيقة: إن قيام الحقيقة على الموضوعية معناه أن من شروطها أن تكون مستقلة عن آرائنا وظنوننا واعتقاداتنا وأهوائنا وانتماءاتنا الاجتماعية والعرقية، وإلا فإن أي ارتباط لها بعنصر من هذه العناصر يفقدها ماهيتها، ويقلبها إلى ضدها. وتعني الموضوعية كذلك أنه متى كان القول حقا، فهو حق دائما وبالنسبة للجميع[23]. بعبارة أخرى، إن كون الحقيقة موضوعية، أي مستقلة عن الشروط الخاصة لمدرِكِها، هو الذي يجعلها عامة وشاملة، حيث يدركها الجميع بنفس المضمون مهما اختلفت الثقافات والأزمنة. وهذا ما سبق أن عبر عنه ابن رشد بطريقته الخاصة عندما قال بأن الحق ليس من المضاف، أي ليس تابعا لمدركه. وحتى عندما يجري الكلام اليوم عن الشروط المثالية للبرهنة عليها وتبريرها، فإن هذه الشروط لا تنطلق بالضرورة من خصائص ثقافة ما، بل من شروط صورية وضوابط مسطرية عامة توجد في كل الثقافات، مما يضمن موضوعيتها[24]. من جهة أخرى، بالرغم أن الثورة الكانطية فتحت الباب واسعا أمام تكاثر التأويلات من النوع السفسطائي للحقيقة، أي التأويلات التي خففت من وطأة الموضوعية وقوّت جانبها الذاتي والنفعي والعملي، بردها إلى الشروط اللسانية والمعرفية والثقافية والرؤيوية للذات، فإنه لا يمكن نفي موضوعية الحقيقة تماما، وإلا لما جازت المحاورة والمقاولة بشأنها.

وحدة الحقيقة : إن الخصائص السابقة تقودنا إلى خاصية ذاتية أخرى للحقيقة، وهي استحالة أن تكون هناك حقيقتان أو أكثر لنفس الشيء الواحد، أو لنفس التجربة الواحدة. فالحقيقة من طبيعتها الوحدة لا للتعدد والاختلاف: فإذا كنا نختلف في الآراء والظنون، فإننا لا يمكن أن نختلف في الحقائق الحسابية والهندسية و الطبيعية. وتبعاً لذلك، لا يمكن الكلام عن ازدواج في الحقيقة، كأن تقول إن هناك حقيقة للعامة وحقيقة للخاصة، كما شاع عن ابن رشد، إذ لو تعددت الحقيقة لانقلبت إلى آراء وظنون.

الحقيقة أداة الحرية: من البيّن بنفسه أن الوقوف على الحقيقة يحررنا من الوهم والخطأ والضلال، من عماء الظلام وقهر التبعية للقوى الغامضة، وفي المقابل، لن نتمكن من البحث عن الحقيقة إلا إذا كنا أحراراً. إن هذا التبادل المتلازم بين الحقيقة والحرية هو بالضبط ما تشير إليه أسطورة الكهف الأفلاطونية. فمعرفة الحقيقة مشروط بفك القيود والخروج من الكهف. لكن الوقوف على الحقيقة هو تحرير للإنسان من قيوده وكهفه. وهذا ما يفسر أن الفلسفة والعلوم والفنون لا تزدهر إلا في أجواء الديموقراطية، كما أن الديمقراطية نفسها لا تتعزز إلا في رحاب التقدم المعرفي. « فالحقيقة والديمقراطية، كما يقول هابرماس، لا يشتركان فقط في الأصل الواحد، ولكن أيضا وبجهة ما، في افتقار كل واحد منهما إلى الآخر »[25]. ومن مفارقات الانتهاكات التي نحن بصددها أن ضحاياها مارسوا حريتهم بكل أبعادها بإعلانهم عن مواقف شجاعة، أو بقيامهم بأفعال جريئة، ففقدوا حريتهم من جراء ممارستهم لها[26]. فلماذا نفقد الحرية كلما مارسناها؟ هذا هو أحد الأسئلة الجوهرية التي نبحث عنها في هذه الندوة، لأن الإجابة عنها ضمانة لممارسة الحرية بكل أشكالها، حرية التفكير، والعقيدة، والعمل.

ثانيا : حقيقة الانتهاكات ودلالات البحث عنها

نود في هذه الفقرة، ولو بطريق غير مباشر، اختبار مدى انطباق أو صدقية معاني الحقيقة وصفاتها الذاتية، التي رأيناها في الفقرة السابقة، على حقيقة الانتهاكات والخروقات السياسية، عن طريق وصف هذه الظاهرة وتحليلها.

فقد وجدنا أن معظم معاني الحقيقة وخصائصها تصدق على حقيقة المحنة السياسية التي نحن بصددها، وإن بجهات مختلفة عن التي وقفنا عليها في الفقرة السابقة. فالانتهاكات هي حقائق موجودة، وبإمكاننا التعرف على طبيعتها، والتأكد من مطابقة أحكامنا عليها، مما يدل على أنها تتمتع بالموضوعية وبإجماع الناس حول فداحتها، وإن كانت تفتقر بجهة ما إلى المعقولية. وفضلاً عن ذلك، تتميز حقيقة الانتهاكات بخصائص ودلالات تنفرد بها بالنسبة لواقع بلادنا. وقبل أن نخوض في عرض هذه الخصائص، نود أن نقف على جملة من الأسباب التي كانت وراء الانتهاكات والتي تتصل بمفهوم الحقيقة ذاته.

أسباب الانتهاكات :

  1. أول الأسباب التي نعتقد أنها كانت وراء كل الانتهاكات والمحن التي غطّت تاريخ المغرب الحديث منذ الاستقلال إلى لحظة اعتراف الدولة بها في أواخر التسعينات من القرن الماضي، تعود في جوهرها إلى الكيفية التي كانت تتصور بها السلطة الحاكمة الحقيقة. ذلك أن هذه السلطة الحاكمة كانت تعتقد أن حقيقة هذا الوطن واحدة، وأن الحق في امتلاكها يعود لها وحدها فقط دون غيرها. والحال أن الوطن الذي له حقيقة واحدة، وزمن واحد، وطن ميت، لا قيمة له، ولا يعَوّل عليه. إن الوطن الحق هو الذي تكون لحقيقته عدة صور، وهي التصورات والبرامج السياسية والإيديولوجية للأحزاب والنقابات والمنظمات المدنية. نعم، ينبغي أن لا تكون هذه الصور متنافية، متصارعة إلى الأبد، بل يتعين عليها أن تتفاعل لتؤم صورة واحدة متفق عليها من لدن الجميع المرة تلو الأخرى. وهذا هو معنى وجوب أن تكون حقيقة الوطن نتيجة شراكة مع كل الفاعلين السياسيين، ثمرة حوار وتوافق، لا نتيجة إملاء من أي طرف كان. على الحقيقة التي نتكلم عنها ألا تكون في هذا الطرف الأقصى أو ذاك، بل يستحسن أن تكون في الوسط، في مكان محايد يجتمع عليه الجميع. وعندما نتصور الحقيقة على هذا النحو، تتلاشى مشروعية معاقبة صاحب الصورة الخاصة عن هذا الوطن بتعريضه لمحنة جهنمية، ذلك أنه لا يحق لأي أحد، ولا لأي جهة، أن تعتبر من يجتهد لصياغة صورة جديدة ومخالفة لهذا الوطن خائنا، أو خارجا عن الإجماع، بل يجب أن تنظر إليه بوصفه مواطنا مجتهداً فعالاً يُسهِم في تشكيل الصورة العامة لحقيقة المغرب. إذن إن نوع الوحدة التي نتبناها لحقيقة الوطن، وهي الوحدة المتعددة، هي خير وقاية من عودة الانتهاكات.
  2. كانت الحقيقة إذن، في هذه الفترة، حقيقة متصارع عليها : من يملك حقيقة هذا الوطن؟ كان كل واحد من الفاعلين السياسيين ينادي بحقيقته، ويلغي حقيقة الآخر بالعنف في غالب الأحيان. ولم يكن صراع الحقائق، أو بالأحرى، صراع التأويلات على الحقيقة، بين الدولة والمجتمع وحسب، بل وأيضا بين الأحزاب فيما بينها. لكن، وحتى لا نوسع البحث في الموضوع، نزعم أنه كانت تتصارع على الأقل حقيقتان أساسيتان، حقيقة ممتحِنة، وحقيقة ممتحنَة. والحال أن الحقيقة لا يمكن أن تتعدد كالآراء والعقائد، ولا يمكن بالأولى أن تَمتحِن وتَنتهِك حقيقة أخرى، مما يستوجب أن تكون إحدى “الحقيقتين” باطلة، والأخرى حقة. بيد أننا إذا أخذنا جانب الحكمة، ومحبة الحقيقة، فسيكون من الأجدر أن ننظر إلى المسألة من جهة تعدد صور الحقيقة لا تعدد الحقيقة نفسها، لغاية أن تلتئم صور الحقيقة في حقيقة يكون الإجماع عليها. وهذا ما غاب في زمن الرصاص، وكان سببا في انفلات جنون الانتهاكات.
  3. الأمر الثالث الذي نعتقد أنه كان وراء محنة الحقيقة في زمن الرصاص، هو وجود كثرة من الخطوط الحمراء أمام الأفراد والقوى السياسية. والخطوط الحمراء ليست، في الواقع، سوى حُجُب تخفي الحقيقة، حجب لا يجوز الكشف عنها وإلا كانت المحنة لها بالمرصاد. إذن معرفة الحقيقة كانت ممنوعة، أي كان على المجتمع أن يظل وراء الحجاب، وراء المعرفة، وحتى إذا عرف من وراء حجاب السلطة عليه أن لا ينشر معرفته بين الناس. ويترتب عن هذا الوضع الشاذ، انتشار وهمٍ غريب هو أن المجتمع (الجمهور أو العوام بلغة القدماء) غير مؤهل لكي يعرف وبالتالي لكي يراقب، لكي ينصح، لكي يقترح، وباختصار لكي يشارك في بناء الوطن. إن هذا الحرمان الشامل للإنسان لِحقّه في المعرفة والمراقبة والبناء، معناه حرمانه من أن يكون إنسانا، لأن الإنسان حيوان اجتماعي أو سياسي بالطبع، فلا يمكن أن يكون إنسانا حقا إلا إذا كان له رأي فيما يجري داخل المجتمع، ولا يمكن أن يكون له رأي إلا إذا كان له الحق في أن يعرف، أي الحق في أن يرفع الحجب التي تحجب الحقيقة.
  1. خصائص الانتهاكات ودلالاتها :
  1. . أول ما يلفت النظر في طبيعة حقيقة الانتهاكات هو أنها حقيقة سلبية، إنها حقيقة الشر الذي عانت منه البلاد، والذي وضع لها اسم عام مشترك لها هو “الانتهاكات”، والذي إذ يضم أجناساً من الممارسات الوحشية المتفاوتة في قوة عنفها وشراسة تعسفها : ابتداء من الرقابة والاعتقال والتعذيب والتنكيل وانتهاك الحرمات فإلي الاختطاف والاختفاء والقتل. ولأول تبدو الحقيقة كريهة، لأنها ارتبطت بإهانة الكرامة البشرية، حيث عومل الإنسان المضطهد كموضوع، لا كذات. لذلك، فإن شوقنا للوقوف على حقيقة الانتهاكات لا يعني أننا نريد تكرارها، كما نفعل حيال الحقائق العلمية والفلسفية، وإنما يعني أننا نريد الوقوف على آلية تشكلها وتفعيلها في الماضي عسانا أن نمنع وقوعها في المستقبل. بهذا الوجه يكون معنى البحث عن الحقيقة هو بحث عن حقيقة الإنسان، أي سعي لاسترداد كرامته بأن يُعامَل كذات، لا كموضوع. وهذا هو طريق حداثتنا في هذا اللحظة.
  2. الأمر الثاني الذي يميز حقيقة الانتهاكات هو خفاؤها. نعم، إن الخفاء هو صفة للحقيقة بصفة عامة، فهي لا تظهر لبادئ الرأي مباشرة، وإنما لمن يصرف جهدا كبيرا، وعناء شديدا، ويكون مستعدا لقضاء زمن طويل في التنقيب عنها، واستعمال أساليب ومناهج متعددة للوقوف عليها[27]. إن خفاء الحقيقة بالنسبة لانتهاكات زمن الرصاص في المغرب يعني أيضا أن الحقيقة في أزمة. وأعني بأزمة الحقيقة أن الكذب والغش والاحتيال والتضليل هي القيم التي تم نشرها في جميع مستويات المجتمع المغربي الاجتماعية والثقافية والروحية، من المدرسة إلى المعمل، مرورا بالمجالس المنتخبة والجمعيات الحرفية…

إن خفاء الحقيقة معناه أيضا أن للحقيقة مستويات مختلفة، وهذا هو السر في استمرارنا في السؤال عنها بالرغم من معرفتنا بوجودها. فبالنسبة لحقيقة الانتهاكات، كان المطروح، في بداية الأمر، الاعتراف بوجودها، لا البحث في تفاصيلها. ثم بعد ذلك، أي بعد أن اعترفت الدولة بوجودها وبمسئوليتها عنها، وتبعتها في ذلك الأحزاب السياسية، انتقل البحث عن ماهيتها، أي عن ملابساتها الذاتية وأسباب وجودها.

وقد يكون خفاء الحقيقة مقصودا، أي نتيجة نية مبيتة لطمس معالمها، ومحو آثارها. بل يمكننا أن نزعم بأن إخفاء الحقيقة، والتعتيم عليها وسترها، صفة ملازمة لوجودها، لا سيما إذا كانت الحقيقة سلبية، وهذا ما يفسر ارتباطها بالأسرار، والألغاز. لقد كان نيتشه يقول بأن « الحق والباطل مفهومان متضايفان »[28]، وبأن الحقيقة تقتضي بطبيعتها الكذب عليها، والتلاعب بها. وبالفعل، فإن المطالبة بالكشف عن الحقيقة معناه أن هناك لا-حقيقة، أو أن جزءً من وجودنا لا حقيقي، أي باطل وكاذب. ومن ثم، لا يمكن أن نؤسس حياة صحية، صادقة وخلاقة، إن لم نقضي على جو الكذب واللاحقيقة.

إن الخفاء الذاتي والمقصود للحقيقة يجعل معرفتها أمراً عويصاً، لكنه ليس مستحيلا، والدليل على ذلك هو ما يقوله ابن رشد من أننا فُطِرنا على محبتها والشوق لمعرفتها[29]، بل إننا نقول بأن مجرد الإعلان عن البحث عنها هو اعتراف بإمكانية الوصول إليها، وإن كان الطريق إليها صعبا ومحفوفا بالمخاطر.

  1. حقيقة الانتهاكات ذاتية : الأمر الثالث الذي يميز حقيقة الانتهاكات هو أنها تجربة ذاتية وفردية، لأنها ترتبط بأحداث عاشها أفراد بعينهم، بمعاناة كابدها مجموعة من المضطهدين عن غير حق. ولذلك فحقيقة الانتهاكات ليست شيئا مشارا إليه، ولا هي من باب الحقيقة المعرفية التي يمكن التحقق منها ببراهين قاطعة. بعبارة أخرى، الحقيقة التي نبحث عنها، ليست حقيقة خارجية، بل هي حقيقة داخلية، إنها ليست حقيقة ماثلة أمامنا هنا والآن، ولكنها حاضرة غائبة في عالم الذاكرة الفردية والجماعية على شكل صور حية، ولكنها أليمة.

وبالرغم من ذلك، تتمتع حقيقة الانتهاكات بالموضوعية ؛ فهي حدث تاريخي انعقد الإجماع على وجوده والتنديد به، ويمكن التحقق منه وإثباته بالشهادات والوثائق. نعم، تثير حقيقة الأحداث الأليمة كثيراً من الأسئلة والآراء والشبهات والتأويلات الذاتية، كما تتعدد طرق الوصول إليها، ولكنها تشير إلى أمر واحد، أمر واقعي معترف به من لدن الجميع. لكن ليس معنى ذلك أننا نستطيع أن نقطع فيها بقول نهائي، لأنها كما قلنا حقيقة ذاتية ومتشعبة الصور والمظاهر والأسباب. من هنا وجب الاعتراف بأن الاختلاف بشأنها هو أمر سليم ومطلوب.

  1. الحقيقة عامة: حقيقة الانتهاكات إذن موجودة، وهي ذات طبيعة فردية وذاتية، بحيث لا يمكن للآخر، مهما كانت قوة أدواته المنهجية ورهافة عواطفه ودقة حدسه، أن يدرك مدى فداحتها. إلا أن هذا الطابع الفردي والشخصي لحقيقة الانتهاكات ليس سوى مؤشر لحقيقة كلية وعامة، أو قل إن الجانب الذاتي ليس سوى المظهر الخارجي لحقيقة أعمق. فالفكر الذي يأمر بانتهاك حقوق وحرمات الأفراد والجماعات، هو نفس الفكر الذي كان يضطهد ويقمع كل من يجرأ على تأسيس جمعية لمحاربة الأمية، أو لنشر الثقافة المسرحية، أو حتى للعناية بالحي بتنظيفه وتزيينه، أو بالدوار لجلب الماء والنور إليه، أو بالمعاقين للتخفيف من معاناتهم. إنها حقيقة كبيرة: قتل الحس المدني عند الإنسان المغربي، والإجهاز على وازعه الأخلاقي، وإبادة روح الوطنية والمواطنة لديه، عن طريق منعه من حق المبادرة والتضامن مع أهله وذويه. في زمن الرصاص كان الإنسان يمنع من الانتماء لمدينته، لحيه، لدواره، لإقليمه، لجماعته، بل يُمنَع حتى من الانتماء لوطنه. إن نشر ثقافة الكراهية والعنف، ثقافة الاستخفاف بالقيم والاستهتار بكرامة الإنسان معناه تدمير الذات بالذات. وبالفعل، لقد كانت الدولة تحارب نفسها، ظنا منها أنها تحمي نفسها من خطر مواطنيها.

من أجل هذا، لا يمكن أن يكون البحث الفلسفي عن حقيقة الانتهاكات بحثا عن تطابق الشهادات والروايات المختلفة مع وقائع حصلت فعلا ولم تعد ماثلة أمامنا الآن، لا يمكن أن يكون بحثا عن ملابسات ضحايا الانتهاكات، أو عن آثارها الرهيبة على أجسادهم ونفوسهم، أو عن مجموع الانتهاكات التي نالت كل المضطهدين، بل إن البحث الفلسفي عن حقيقة هذه الانتهاكات هو بحث عن معناها بالنسبة لمصير المغرب. إن الفلسفة تبحث بالأحرى عن الدلالة المطلقة للانتهاكات بالنسبة لحقيقة الإنسان المغربي ككل، بالنسبة لحقيقة تاريخ المغرب المعاصر الذي نصنعه الآن، أو نتأهب لصنعه، لا عن الحقائق الجزئية والمظاهر الفردية.

والغاية من كل ذلك هو معالجة الذات المغربية من آثار عملية طويلة لإفسادها، وإنهاكها أخلاقيا. ولذلك تصبح معرفة الحقيقة شفاءً للذات من جروحها الظاهرة والخفية. إن الفلسفة لا تنشد الحقيقة في ذاتها، أو من أجل بضع أفراد نُكّل بهم، وإنما ننشد الحقيقة من أجل أن تكون ضمانة للجميع، ضمانة لأفعالنا وأفعال الدولة في المستقبل، ضمانة لقيم حقيقية تكون أساسا متيناً لتحقيق طفرة وجودية كبرى على حد تعبير هابرماس[30]. إن البحث عن حقيقة الانتهاكات التي تعرّض لها مجموعة من المضطهدين، هي مناسبة للبحث عن حقيقة التجاوزات التي اكتوى منها كل المغاربة، ومن خلالهم البلاد برمتها، إنسانها وأرضها. البحث عن حقيقة الانتهاكات، من الوجهة الفلسفية، يجب أن يغطي حقبة كاملة من تاريخنا، زمن بأكمله كان يعيش في اللاحقيقة، في البطلان. إن التنكيل بأفواج من المضطهدين من كل الأعمار وكل الفئات والطبقات الاجتماعية وكل جهات المغرب ومناطقه وعمالاته ومدنه[31] لا يعني فقط أن ظلما وقع بهم، إنه يعني بالأحرى إجهاض مشروع تاريخي كبير كان بإمكانه أن يحقق قفزة تاريخية كبرى لهذا البلد العظيم. باختصار، لحظة الحقيقة الفلسفية ليست لحظة منفعلة، لحظة إثبات وتحقيق الشواهد والبّينات على اقتراف الطغاة لانتهاكاتهم المشينة، ولكنها لحظة فعالة، لحظة بناءة، لحظة للإخبار والتنوير، إخبار الرأي العام بالحقيقة كما هي، من أجل أن تكون نورا يُهتدَى به في الطريق نحو المستقبل.

لكن الغاية القصوى من البحث عن حقيقة الانتهاكات ليس هو إدراكها وفهم معناها، ومعنى ماضينا وحاضرنا وحسب، بل هو تحقيق رهان الديمقراطية، رهان الحداثة والتنوير. وهذا هو ما يمكّن الذات من شفائها من عللها الحضارية، تمهيداً للاندفاع إلى الأمام.

إن شروع المغاربة في شق طريق الحقيقة يحملنا على القول بأن الزمن المغربي في هذه اللحظة التاريخية بالذات هو زمن الحقيقة، أي أنه زمن يحمل معنى في داخله، في مقابل الزمن الذي كنا نعيش فيه، والذي كان خاليا من المعنى والمعقولية، طافحا بالعنف والطغيان. وزمن الحقيقة هذا ينبغي أن لا يكون زمن الكشف عن حقيقة الماضي وحسب، بل يجب أن يكون أيضا زمن حقيقة المستقبل ؛ يجب أن لا يكون فقط زمن المعرفة الحق، ولكن أيضا زمن الأخلاق الفاضلة والقيم العليا.

ومن أجل ضمان استمرار هذا الزمن، يجب أن نعمل على إنشاء مجتمع الحقيقة المجتمعية، على غرار المجتمع العلمي، لكن لا من أجل العمل داخل نموذج نظري للحقيقة العلمية، بل من أجل العمل داخل نموذج من المثل والقواعد المتوافق عليها بالحوار، نموذج يمكّننا من التحقيق والتحقق في الحقيقة الضائعة، نموذج يكون بمثابة برزخ يكون حائلا بين زمنين وعهدين، حتى لا يعود الزمن القديم لدورة أخرى.

مهما يكن، علينا من جهة أن لا نخاف على الحقيقة، فهي قادرة على الدفاع عن نفسها، أولا لأنها من باب الواقع الذي لا يرتفع، من باب الوجود الذي لا يَفنَى ؛ وثانيا لأن لها أسباب قوتها ومقاومتها في ذاتها لكونها بطبيعتها غير قابلة للتدمير، غير قابلة الطمس والإخفاء إلى الأبد، بخلاف الباطل الذي يتميز بقابليته للفضح والتسفيه طال الزمن أم قصر. لكن، من جهة أخرى، ليس معنى ذلك أن الحقيقة غنية بنفسها عنّا، بل يجب أن نقف بجانبها، أن ندعمها، لا لأنها تحب الخفاء وحسب، ولكن لأن المستفيدين منها يلاحقونها بطمس معالمها والتعتيم على أسبابها وتمويه الطريق إليها. إن وجوب الوقوف بجانب الحقيقة يبرره أيضا أننا نريد أن نعيش حياة أصيلة، أي في جو الحقيقة، لأن العيش في البهتان والضلال مضاد للحياة، مضاد للوجود.

[1] . نشير إلى أن لفظ الحق يرد في اللغة العربية مقترنا بلفظتي الثبوت والإثبات، « الحقيقة هي… إما من “حَقَّ الشيء” إذا وجب وثبت… وإما من “حققت الشيء” إذا أثبتُه، فيكون معناها الثابتة والمثبتة في موضعها الأصلي ؛ وتحققتُ الشيء: تيقنته » وجعلته ثابتا لازما، وكلام محقق: أي رصين، وثوب محقق:: أي محكم النسج؛ كما تأتي الحقيقة بمعنى كمال الشيء الخاص به. انظر أبو البقاء الكفوي، الكليات، تح. عدنان درويش ومحمد المصري، بيروت، 1992، ص 362 ؛ « والحق، بالفتح، في اللغة الثابت، واللائق، والصحيح، والمستقيم، والواجب، والعمل الذي يحدث حتما، والصدق، واسم من أسماء الله تعالى، وصِدْق القول، والوفاء بالوعد » محمد على الفاروقي، كشاف اصطلاحات الفنون، تح. لطفي عبد البديع، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977، ج 2، ص 80-81.

[2] . Habermas, Jürgen, Profils philosophiques et politiques, Paris, Gallimard, 1987, p. 170.

[3] . وعلى سبيل المثال يشير برتراند رسل إلى أربعة نظريات في الحقيقة ظهرت في الحقبة القريبة منه هي : «1) النظرية التي عوضت “الحقيقة ” بالضمانة الإثباتية”. وهي التي دافع عنها الدكتور ديوي (Dewey) ومدرسته. 2) والنظرية التي استبدلت “الحقيقة” “بالاحتمالية”، وهي النظرية التي دافع عنها الأستاذ (Reichenbach). 3) والنظرية التي عرّفت الحقيقة “بالتماسك” (cohérence). وقد دافع عن هذه النظرية الهيجيليون وبعض المناطقة. 4) ثم نظرية الحقيقة-التطابق (correspondance)، وهي التي تقول بأن القضايا الأساسية تتوقف على توافقها مع واقع ما، وأن حقيقة القضايا الأخرى تتوقف على علاقاتها التركيبية (syntaxiques) مع القضايا الأساسية (préposition de base)»، انظر :

Bertrand Russel, Signification et vérité, Paris, Flamarion, 1959, p. 335.

[4] . التصوران الأولان يجتمعان في أنهما يرتكزان على البرهان لبناء الحقيقة أو الوصول إليها، بينما ينطلق الاتجاه الأخير من تصور خطابي للحقيقة، وهو تصور مضاد للتصور الاستدلالي، لأنه قائم على الحجاج والإقناع ضمن مجتمع منفتح، لا على البرهان الذي يقوم به فرد واحد.

[5] . Habermas, Jürgen, Vérité et justification, Paris, Gallimard, 1979, p. 189.

[6] . Id., p. 192.

[7] . Heidegger, De l’essence de la vérité, Gallimard, 2001, p 162.

[8] . ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، ، تح. ، م. بويج، ط2، بيروت ، دار المشرق، 1973. ص 3.

[9] . « والحق … يطلق على الوجود في الأعيان مطلقا، أي على كل موجود خارجي، وعلى الوجود الدائم، وهو الواجب الوجود لذاته » انظر الكليات، ص 391.

[10] . « وحقيقة الشيء … هو ذات الشيء، كالحيوان الناطق للإنسان » ويفرقون أحيانا بين الذاتية والماهية. فذاتية الإنسان هي الحيوانية، والناطقية تسمى ماهية. وبهذا يكون الوجود نفس الماهية، « فوجود الإنسان هو نفس كونه حيوانا ناطقا في الخارج »، الكليات 362؛ وقد تطلق الحقيقة ويراد بها ما يقال في جواب السؤال بما هو؟ وهو حقيقة نوعية إن كان السؤال عن جزئيات النوع بالاشتراك فقط، وحقيقة شخصية إن كان السؤال بالخصوصية…» ، الكليات 362؛ ومن معاني الحقيقة « الماهية بمعنى ما به الشيء هو هو، وتسمى بالذات أيضا. » محمد على الفاروقي، كشاف اصطلاحات الفنون، ج 2، ص 84-85.

[11] . يدل اسم الحق في الكتاب العزيز على معنى الشيء الذي خلق به والذي يسير بحسبه، وبهذا المعنى يكون الحق هو ما هو ذاتي وثابت في الشيء.

[12] . ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، ص، 358، 1468.

[13] . ابن رشد، نفسه، ص 1109-1110.

[14] . ابن رشد، تهافت التهافت تح. موريس بويج، ط2، بيروت، دار المشرق، 1987، ص 522، 153، 157.

[15] . Heidegger, De l’essence de la vérité, p 162.

[16] . ويطلق الحق « وعلى مطابقة الحكم وما يشتمل على الحكم للواقع، ومطابقة الواقع له »، أو هو مطابقة الوقع للاعتقاد، انظر الكليات، ص 391.

[17] . وفي هذا السياق يقول برتراند رسل « في اللحظة الحاضرة، أفترض أن “الحقيقة ” تحدد بالتطابق، وسأحلل شكلَيْ هذه النظرية، حسب الأمر الذي تتطابق معه الحقيقة: التجربة أو الواقعة. سأسمى هاتين النظريتين تباعا النظرية “الإبستيمولوجية ” والنظرية ” المنطقية “… وعلى قطاع واسع للغاية، النظريتان معا متطابقتان. كل ما هو حق حسب النظرية الإبستيملوجية هو حق أيضا حسب النظرية المنطقية، لكن ليس العكس. كل القضايا الأساسية للنظرية الإبستيمولوجية هي أيضا نظريات أساسية للنظرية المنطقية، لكن، من جديد، ليس العكس» رسل، المعنى والحقيقة، ص 336 ؛ ويضيف « ما سميناه بالنظرية الإبستيمولوجية، إذا أخذناها مأخذ الجد، تحصر الحقيقة في القضايا التي تثبت ما أُدرِكه الآن أو ما أتذَكره الآن… والقضية ” القابلة للتحقيق ” هي قضية تملك نوعا من التطابق مع تجربة ما ؛ القضية ” الحق ” هي التي تملك بالضبط نفس النوع من التطابق مع واقعة ما.» رسل 354 ؛ كما يقول « ” الحقيقة”… هي قبل كل شيء خاصية اعتقاداتنا، وبالوكالة خاصية أقوالنا» Russell, Bertrand, Signification et vérité, p. 272.

[18] . م.م.، ، ص 336 ؛ ويقول « ما سميناه بالنظرية الإبستيمولوجية، إذا أخذناها مأخذ الجد، تقصر الحقيقة على القضايا التي تثبت ما أدركه الآن أو ما أتذكره الآن… والقضية ” القابلة للتحقيق ” هي قضية تملك نوعا من التطابق مع تجربة ما ؛ القضية ” الحق ” هي التي تملك بالضبط نفس النوع من التطابق مع واقعة ما.» رسل 354.

[19] . Habermas, L’éthique de la discussion et la question de la vérité, Paris, 2003, p. 76.

[20] . id, p. 130.

[21] . M. Buber, in Quintas, Alfonso Lopez, La Tolerancia y la manipulacion, Madrid, 2001, p. 242.

[22] . cf. Vattimo, Gianni, El fin de la modernidad. Nihilismo y hermenéutica en la cultura posmoderna, tr. Alberto L. Bixio, Barcelona, gedisa, 1986, p. 117.

[23] . Habermas, L’éthique de la discussion et la question de la vérité, , Paris, 2003, p. 71.

[24] . Habermas, J., Vérité et justification 191.

[25] . Habermas, L’éthique de la discussion et la question de la vérité, p. 81.

[26] . نشير إلى أن هذه الدراسة ساهمنا بها في ندوة نظمتها هيئة الإنصاف والمصالحة في طنجة يومي 17 و 18/11/2004 تحت عنوان مفهوم الحقيقة.

[27] . يتكلم ابن رشد مثلا عن أن طلب الحق يتطلب طول الزمان ودقة الترتيب، انظر تهافت التهافت، ص 208.

[28] . Nietzsche, F., Sobre la verdad y mentira, tr. Luis M. Valdes y Teresa Orduña, 4ed. Madrid, tecnos, 2004, p. 45.

[29] . ويقيم على ذلك دلائل كثيرة من بينها دليل الشوق إلى الحق « ومن الدليل أيضا على ذلك ما نحن عليه من التشوق إلى معرفة الحق، فإنه لو كان إدراك الحق ممتنعا، لكان الشوق باطلاً، ومن المعترف به أنه ليس هاهنا شيء يكون في أصل الجبلة والخلقة وهو باطل »، تفسير ما بعد الطبيعة، ص5.

[30] . Habermas, Jürgen, Profils philosophiques et politiques, Paris, Gallimard, 1987, p. 133.

[31] . انظر في هذا الصدد البحث القيم الذي قدمه الأستاذ محمد الصديقي في الندوة المذكورة بعنوان ” الحقيقة والأحكام، جريدة الاتحاد الاشتراكي، الجمعة 15/10/2004.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial