أسس الحداثة ومعوّقاتها في العالم العربي المعاصر(*)

الدكتور عبدالله تركماني

تشغل الحداثة حيزا مهما من الخطاب العربي المعاصر، حيث تختلف وجهات النظر، وتتعارض المفاهيم والمصطلحات، وتتنوع المقدمات والنتائج . ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الارتكاس بالوعي العربي إلى مقولات قرون سابقة، تدور حول الغرب وحضارته وثقافته وفكره وموقعنا من هذه الحضارة والثقافة والفكر، حيث يستعاد الموقف القائل بـ ” عدوانية الغرب ” و ” بربرية حضارته “، إلى جانب مقولة التفوق الروحي والإنساني الذي اختصت به حضارتنا وفاقت فيه مادية الغرب ووحشيته . هكذا يتم التخلي عن مقولات النهضة العربية الحديثة لا بالتقدم إلى ما بعدها بل بالارتكاس إلي ما قبلها، ما يشكل في حد ذاته تعبيرا مأسويا عن إحباط التنوير والحداثة في عالمنا العربي المعاصر .

وأمام هذا الارتكاس إلى عصور التأخر نتساءل : إذا كان المشروع التحديثي العربي قد فشل ولم يتمكن من بلوغ أهدافه، فهل لا تزال الحاجة قائمة إليه، في عصر تجاوز العالم حقبة الحداثة ذاتها، ودخل إلى أفق جديد مختلف السمات والقسمات ؟ وهل يتسنى للعرب ولوج العصر الجديد، عصر العولمة وما بعد الحداثة، دون المرور بمرحلة الحداثة التي فشلوا في الوصول إليها ؟ .

باختصار، وفي كل الأحوال، نحن بحاجة إلى معرفة دقيقة بأشياء كثيرة أصبحت تطرح نفسها علينا بإلحاح . ولكن قبل أن أدخل في تفاصيلها أود أن أنوه إلى أننا أصبحنا – على الأقل – نطرق موضوعات ما كنا نتجرأ على الخوض فيها قبل بضع سنوات فقط . وانطلاقا من تقديري لجهود بعض المفكرين المغاربة ( عبدالله العروي، هشام جعيّط، محمد أركـــون .. ) الذين انخرطوا في مشروع نقدي لثقافتنا العربية، فإني سأتناول أهم أسس الحداثة ومعوّقاتها في العالم العربي المعاصر .

لقد تعطلت محاولات التحديث المتكررة في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر، وتعود تلك العطالة إلى جملة عوامل بنيوية تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، ولكنّ العامل الأهم تمثل – على الخصوص – في اعتقاد من تنطحوا لقيادة عملية التحديث أنها مجرد توطين المنتجات والمنجزات المادية للحداثة في البيئة العربية، دون الاهتمام الكافي بإعادة بناء المجتمعات العربية بالاستفادة من معطيات الحداثة ومكوّناتها العقلانية، التي تضمن توطين قيم الحداثة في التربة العربية .

وإزاء كل ذلك يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص الواقع العربي، ومن ثم الانخراط بتغييره في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحولات العالم المعاصر، وبما ينسجم مع المصالح العليا للأمة العربيـة .

إنّ القضايا التي ينبغي أن تكون محور تفكيرنا اليوم كثيرة جدا، وتكاد تحتل جميعها مرتبة الأولوية : ما هي الدروس التي ينبغي استخلاصها من سقوط ” جدار بغداد ” ؟ وهل تتوافر شروط حقيقية لصياغة مشاريع ديموقراطية للتغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع شعبوية ظلامية تغرق بلداننا في المزيد من التأخر والمزيد من الأزمات ؟ وما هي إمكانات عالمنا العربي، حكومات وشعوبا وحركات سياسية وثقافية، للالتحاق بالحركة العالمية المناهضة للحرب وللهيمنة الأمريكية والصهيونية، من أجل أن يكون لبلداننا مكان في صياغة مستقبل العالم ؟

يبدو لنا أنّ المنهج العقلاني النقدي، المستوعِب لحصاد التجربة العالمية، والمنفتح على كل التيارات الفكرية والسياسية العربية، يمكنه أن يتجاوز الصعوبات التي يمكن أن تعترض إمكانية التعاطي المجدي مع مثل هذه الأسئلة المصيرية . وفي الحقيقة إننا أمام صعوبة كبيرة في اكتشاف قواعد اللعبة المعقدة، التي حكمت التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية، لما آلت إليه الحالة العربية . خاصة وأنّ الفكر السياسي العربي اعتاد على تحميل الاستعمار كل بلايا التأخر العربي، وأطلق العنان لديماغوجية رنانة تجعل من العداء للامبريالية والصهيونية ( وهو عداء مبرر تاريخيا وواقعيا ) وسيلة للتنفيس عن الغضب، وصبه على العامل الخارجي الذي أصبح ” شيطان العرب “، ليعفي العامل الداخلي من النقد، ويتستـــر – بالتالي- على آليات وأدوات الهيمنة الإمبريالية، أو يجهلها، مما جعله عرضة لسياساتها، بقصد أو بدون قصد .

ومن أجل كل ذلك، فإني أتناول موضوع ورقتي ” أسس الحداثة ومعوّقاتها في العالم العربي المعاصر ” طبقا للمنهجية التالية : الأسس النظرية للحداثة ومكوّناتها، وتجليات الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة، ومعوّقات الحداثة في العالم العربي المعاصر ( التاريخية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية )، العرب وما بعد الحداثة، وخاتمة تتضمن أهم الاستنتاجات المفيدة للمستقبل .

1 – الأسس النظرية للحداثة ومكوّناتها

يشير مصطلح الحداثة‏‏ إلى مرحلة تاريخية طويلة نسبيا‏،‏ بدأت في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن السادس عشر وتميزت في القرن السابع عشر بسلسلة من التغيّرات الكبيرة والعميقة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية‏،‏ وشملت بشكل متداخل ومتفاعل عمليا مجالات البحث والمعرفة العلميين والتطبيق التكنولوجي وأشكال ومؤسسات الحكم السياسية والمدنية والتشريعية والقانون والمعاملات التجارية، وذلك في إطار عمليات بناء الدول القومية وتزايد سلطاتها مع تزايد مساحات الحرية والمسؤولية الفردية أيضا‏ .‏

وفي هذا السياق تكفي الإشارة إلى المحطات الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث، التي هي فكر ديكارت الذي دشن نظريا عصر الحداثة، وفكر كانط الذي بلور نقديا ديناميكية الأنوار، وفكر هيغل الذي صاغ مفهوميا لحظة اكتمال الحداثة في نموذج الدولة القومية الحديثة.

إنّ الحداثة ليست ترفا فكريا، بل هي تطبيق منهجية عامة للتحليل وطريقة في التفكير، وهي لا تحضر وتغيب بحسب أنواع الأحداث أو علاقاتنا العاطفية بها . وعصر الأنوار يحيل إلى هذه الظاهرة الفكرية، الواسعة الانتشار، التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، حين تم التأكيد على أولوية الإنسان ودعم استقلاله وإرادته، ورفعه إلى مستوى يكون فيه مرجع سلوكه، والقاعدة المعيارية لممارسته الاجتماعية.

      لقد شكل عصر الأنوار قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ أنه الفضاء الذي يقوم على أربعة محددات :

1 – العقلانية، باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ،   وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته .

2 – التاريخانية، أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحوّل، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحلا لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم .

3 – الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد .

4 – العلمانية، أي فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية، وفي مقابل ذلك الانطلاق من الإنسان كمفهوم مرجعي للممارسة النظرية والسلوك الأخلاقي والسياسي . وهي تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانيا وتنويريا، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها . وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها أقرب لأن تكون مفهوما سياسيا، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة .

إنّ الكثيرين في العالم العربي لا يدركون تماما ماهية العلمانية هذه ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر . ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون مرادفا لمعاداة الدين، على أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أنّ العلمانية من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له .

ويبدو أنّ كثرة الحديث عن التحديث والحداثة في مجتمعاتنا العربية تؤدي إلى ضبابية مفهوم التحديث نفسه، والخلط بين بعض مظاهره وجوهر العمليات الفاعلة المقترنة به، ولذلك فإنه بالقدر الذي لابد من تأكيد تلازم التحديث المادي مع الحداثة المعنوية، لابد من تأكيد أنّ استكمال عمليات التحديث وتطويرها يعتمد على المبادئ التالية :

(1) – إنّ عملية التحديث لا تتجسد إلا في إرادة مشتركة تشمل كل فئات المجتمع ومجالاته، بلا تمييز بين فئة وأخرى . فلا ينجح التحديث، أو يكتمل، إذا تحول إلى مهمة ينهض بها فريق على حساب غيره، أو اقتصرت فوائده على شريحة اجتماعية قادرة على حرمان غيرها من الشرائح غير القادرة، فالتحديث عملية لابد أن يسهم فيها الجميع كي يعود نفعها على الجميع .

(2) – إنّ شمول عمليات التحديث والحداثة في تعدد جوانبها المادية والمعنوية ينبغي أن يجعل منها عملية متفاعلة العناصر والمجالات، التي تشمل التعليم والثقافة في موازاة الاقتصاد والسياسة مع العلاقات الاجتماعية وأدوات الإنتاج المعرفي .

(3) – إنّ خصوصية عالمنا العربي في علاقته بتاريخه الموغل في القدم وحاضره الذي لا يمكن إغلاقه عن العالم المعاصر تجعل عمليات التحديث والحداثة في أقطارنا العربية عملية مركبة، تهدف إلى تحقيق أهداف ثلاثة في وقت واحد : أولها، إزاحة المعوّقات الموروثة عن سلبيات الماضي . وثانيها، المواجهة الجسورة لمشكلات الحاضر في كل المجالات . وثالثها، تسريع إيقاع العمل لتدارك الهوة التي تفصل بين عالمنا العربي وعالم التقدم الذي أضحى يعيش أزمنة ما بعد الحداثة .

(4) – إنّ الخبرة التاريخية تقول لنا : إنّ بداية التحديث المادي هي الفكر الذي ينبغي أن يتجدد في كل مجال، سواء في التعليم كونه قاطرة المستقبل، أو في الإطار السياسي الذي ينبغي أن يتجدد ليستجيب إلى رغبة التطور عند المواطنين ويغذيها بما يجعل الدافع إلى التحديث دافعا وطنيا عاما، أو في الوعي المدني الذي ينبغي أن يتحرر من الخرافات التي تعرقل تقدمه .

(5) – في عصر ثورة المعلومات، أصبحت التحولات على الصعيد الثقافي حاسمة في إنجاز التطور المنشود، فالمعرفة هي كلمة السر التي تفتح الأبواب المغلقة في زماننا، والثقافة أصبحت منتجا استراتيجيا . مما يتطلب : أولا، إطلاق طاقات الابتكار والإبداع الفكري والفني والعلمي لدى الإنسان العربي . وثانيا، الشفافية الكاملة في المجتمع، وحرية تداول المعلومات، والقضاء نهائيا على أي شكل من أشكال الفساد أو العبث أو التساهل في حياة الناس وأرواحهـم . وهنا تأتي مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، فعليها يقع عبء تطوير مرافق المعلومات، وتغيير البنية التشريعية بما يحقق التدفق المرن واليسير للمعلومات، وتطهير أجهزة الدولة من كل ما يعوق عمليات تحديثها، أو يجعل منها عمليات مظهرية.

إنّ الحداثة أكثر من أن تكون نتاجا لمرحلة تاريخية منقضية‏،‏ وإنما هي أقرب لأن تكون برنامجا لم يكتمل بعد ولا يزال قادرا على أن يلعب دورا إيجابيا في المجتمعات المعاصرة‏،‏ فالحداثة تتضمن انفتاحا على مستقبل غير مغلق‏ وبلا نهاية، يتميز بإمكانية تحقيق التقدم المادي والاستقرار الاجتماعي والتحقق الذاتي‏ .‏ على أنّ الحداثة كل لا يقبل القسمة، أو التجزئة، فلا يمكن أن نقبل على الحداثة في المجال الاقتصادي والتقني ونهمل الحداثة في الفكر والسياسة . وقد يتخذ إنجاز المشروع الحداثي أساليب متنوعة في عالم الممارسة، ولكنّ الأهداف والأسس النظرية لم تتغير .

2 – تجليات الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة

تتجلى الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة بمظاهر ثلاثة هي : فوقية العقل، وكرامة الإنسان، ونسبية المصالح . فالحداثة، كمرجعية عليا تسود المجتمعات المعاصرة، لا تعتبر نفسها مرجعية مطلقة أو معصومة عن الخطأ، إنها تسمح بالعودة النقدية على ذاتها كلما قطعت شوطا ما لمعرفة أين أصابت وأين أخطأت وكيف يمكن تصحيح الخطأ ومواصلة المسيرة من جديد . وربما لهذا السبب أصبحت هذه المجتمعات ديناميكية، تحقق التقدم باستمرار في كافة المجالات، فهي لم تعد ملجومة من قبل ثوابت مطلقة لا حيلة للإنسان فيها، ثوابت لا تخضع للنقاش العقلاني أو المنطقي .

ولا شك أنّ الحضارة الغربية، وان كانت أول حضارة في التاريخ لا تتأسس على العامل الديني، ولا يشكل هذا العامل حتى مرتكزا أساسيا في أنظمتها القيمية والسلوكية، ولو كان لا يزال المقوم الأساس في المعتقدات الفردية، إلا أنها مع ذلك لم تتخلص، حسب الصديق الدكتور السيد ولد أباه، من مرجعيتها التراثية في مناحٍ متعددة . إذ أنّ التاريخانية الغائية، أي فكرة حركة التاريخ وفق منطق متصل، غايته تحقيق حرية الإنسان وتجسيد مراميه، وهو المفهوم الذي تستند إليه أيديولوجيا التقدم التي شكلت محور العقل السياسي الحديث . حيث لا يخفى ما لهذه المقولة من صلة بالتصور المسيحي، حتى ولو بدت في شكل علماني، أو لا ديني . كما أنّ التصور العلماني للشأن السياسي كشف للعيان أنّ جذور العلمانية متضمنة في التراث المسيحي نفسه الذي يؤسس لفكرة ثنائية السلطة السياسية والدينية، ومن ثم فإنّ الدولة المدنية الحديثة هي مجرد قلب لموازين كانت قائمة ( المرور من تحكم السلطة الدينية في الدولة إلى استقلال السلطتين عن بعضهما البعض ) .

3 – معوّقات الحداثة في العالم العربي المعاصر

باتت مؤشرات المأزق العربي جلية وواضحة اليوم، فوفقا لتقرير ” برنامج الأمم المتحدة للتنمية المستدامة ” للعام 2002، فإنّ العالم العربي مشلول بسبب عجز ثلاثي : عجز عن تحقيق الحرية، وعجز في المعرفة، وعجز في تمكين المرأة . أما النتائج على صعيد المجتمعات العربية فمخيفة :

– إنّ إجمالي الناتج القومي للعالم العربي هو أقل من إجمالي الناتج القومي في أسبانيا .

– حوالي 40 % من الراشدين العرب هم أميون ( أي 65 مليون نسمة ) وثلثاهم من النساء .

– 50 مليون شاب وشابة سيدخلون سوق العمل مع حلول العام 2010، أي ثمة 6 ملايين وظيفة يجب أن تتوافر كل عام لاستيعاب هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل .

– يعيش ثلث السكان العرب عند حدود خط الفقر ( أقل من 2 دولار لليوم الواحد ) . ويجب بالتالي أن يتضاعف النمو الاقتصادي في المنطقة من أجل تحسين الأوضاع المعيشية ومستوياتها .

– 51 % من الشباب العربي يسعون للهجرة إلى بلدان أخرى، وأكثر من 15 ألف طبيب هاجروا إلى الخارج بين العامين 1998 و  2000 .

والمشهد السياسي في العالم العربي ليس أفضل مما سبق : أنظمة الحزب الواحد، أنظمة انتخابية ملتبسة وغير عادلة تؤدي إلى نتائج غالبا ما تصل إلى 99 %، سيطرة الأجهزة الأمنية وتدخلها في الشؤون الحياتية اليومية وفي الحياة المدنية، جهل بأحكام القانون، قضاء غير مستقل تتحكم فيه السلطة التنفيذية لأغراض فئوية، غياب حرية التعبير والتجمع السلمي، التعدي على الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع، انعدام الشفافية في الإدارة والاقتصاد .

وهكذا، يبدو واضحا أنّ العالم العربي يعيش حالة من التأخر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وتختلف الآراء حول أسباب هذا التأخر : فهل العرب مسؤولون عنه أم أنّ أعداءهم في إسرائيل والغرب يتحملون مسؤوليته ؟ . ومن البديهي أنّ هذا السؤال الأساسي قد تعقد وتشعب مع دخول ديناميكية التحديث منعرجا حاسما في العقد الأخير من القرن المنصرم، بانبثاق ظاهرة العولمة الاقتصادية وانعكاساتها الثقافية والمجتمعية وتأثيراتها على الرهان السياسي وطبيعة المنظومة السلطوية وشكل الدولة .

 ومن جهتنا فإننا – بداية – نعتقد أنّ الأسباب متداخلة بين الخارج والداخل، إلا أنّ استبداد الحكومات العربية وهيمنة الجانب السلفي من تراثنا على الفكر العربي كانا من العوامل الأهم في هذا التأخر . ويبقى السؤال : لماذا حصلت كل تلك الهوة السحيقة التي تفصل العالم العربي عن معطيات العالم المعاصر والتي لا نستطيع ردمها أو تقليصها في المدى المنظور ؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي ينبغي أن يطرح الآن .

وفي الواقع، فإنّ إخفاق المشاريع التحديثية العربية واستمرار التأخر يعود إلى جملة معوّقات تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية.

3 – 1 : المعوّقات التاريخية

تكونت بنية العالم العربي المعاصر خلال ثلاث مراحل : المرحلة العثمانية، ومرحلة الاستعمار الغربي، ومرحلة العهد الاستقلالي . ففي المرحلة العثمانية ازداد تفكك المجتمع العربي إلى إمارات ومشيخات وإقطاعيات، خاصة منذ أواخر القرن الثامن عشر . حيث جاءت التشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية نتيجة نظم الامتيازات التي فرضت على الإمبراطورية العثمانية، وهي تشكيلات مختلطة، تلاقى فيها الإقطاع العسكري والملاكون العقاريون وكبار التجار وشيوخ القبائل بالرأسمالية الأوروبية الحديثة . وقد تعايشت هذه الأنماط كلها في ظل الإمبراطورية، وخاصة في القرن التاسع عشر. وكانت هنالك عائلات من كبار الملاك، وعائلات تجارية، وخاصة في المدن التجارية وفي الموانئ المعروفة . وكان هنالك أمراء وشيوخ قبائل ووجهاء، وخاصة في الأرياف والبوادي .

وفي المرحلة الكولونيالية، فرض الاحتلال نظمه بالقوة العسكرية، وأخضع اقتصاد الأقطار العربية لشبكة علاقاته . ولكنّ القوى الاستعمارية احتفظت بمخلفات المرحلة السابقة، فظل نظام الملل، وظلت الأسر الحاكمة السابقة، وظل النظام شبه الإقطاعي . إلا أنّ العهد الإمبريالي أدى إلى زيادة دور الفئة التجارية الوسيطة والمصرفية من البورجوازية، بسبب اتساع نطاق الاستيراد والتصدير، واتساع العمليات المصرفية . كما أنّ البورجوازية الصغيرة المدنية انتعشت واتسعت، نتيجة نشوء المدن الجديدة واتساعها .

وجاءت مرحلة الاستقلال الوطني للأقطار العربية نتيجة للتطورات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى تنامي فعالية الوعي والكفاح الوطنيين . وأدى ذلك إلى تسريع الانتقال من صيغة الانتداب إلى منح الاستقلال الوطني بتدرج . الأمر الذي أدى إلى نشوء شكل من أشكال الاستقلال الوطني، المرتبط بمعاهدات واتفاقيات ثنائية، ترتكز على المساواة الشكلية والشراكة الاسمية المتبادلة، ولكنه حمل مضامين إيجابية تمثلت في تبلور وتشكل الهوية الوطنية/القطرية .

وخلال هذه المرحلة ساعدت التطورات الدولية وتصاعد حركات التحرر الوطني على تعزيز مكانة السلطات الوطنية، واغتنائها بمحتوى جديد يمكن تلمسه من خلال مؤشرين : الاستقلالية – النسبية – في اتخاذ القرار السياسي، وزيادة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية . وقد تعمقت هذه الاتجاهات بعد وصول قوى راديكالية إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية . وفي هذا العهد سقطت أسر تقليدية حاكمة، وبقيت أسر تقليدية أخرى حاكمة في الأقطار العربية الأخرى . كما قامت أنظمة جديدة قادتها شرائح من البورجوازية الصغيرة، حقق بعضها إصلاحا زراعيا وتأميمات واسعة، واحتفظ بعضها الآخر باقتصاد حر .

لقد بدأ العرب مشروع نهضتهم الفكرية والسياسية مبكرا نسبيا قبل الأتراك والإيرانيين والصينيين، وفي الوقت نفسه الذي انطلقت فيه النهضة اليابانية، حين أدركوا المغزى العميق لحملة بونابارت على مصر في العام 1798 واحتلال الجزائر في العام 1830 : نهاية مدنية وبداية أخرى . ولم يتأخروا في الرد على تحدي ذلك التحول الجديد الذي أحدثه قيام المدنية الأوروبية الحديثة، فجاء الرد استجابة . نعم، قاوموا الغزوة الكولونيالية بإباء، لكنهم تنبهوا إلى ما في أوروبا من مصادر قوة : العلم والصناعة والتنظيم العقلاني للإدارة والدولة والقوة العسكرية الحديثة… الخ، واجتهدوا في الأخذ بأسبابها وفي تأصيلها .

بدأ محمد علي باشا، منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، تجربته في الإصلاحات متأثرا بفرنسا . كان ذلك قبل أن تبدأ الدولة العثمانية تجربة ” التنظيمات ” بعقود. وكان لهذا المشروع النهضوي وجه فكري رافق المشروع السياسي وأسس له شرعيته، وهو كناية عن التراث الفكري الإصلاحي الإسلامي والتراث التنويري الحداثي في القرن التاسع عشر: التراث الذي دارت موضوعاته حول الترقي والتمدن والإصلاح والحرية، وساهم في صوغ نصوصه الكبرى مفكرون كثر من التيارين الإسلامي والليبرالي ( الطهطاوي، خير الدين التونسي، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، عبدالله النديم، أحمد فارس الشدياق، أديب إسحاق، فرح أنطون.. ) وليس من شك في أنّ وجود مشروع سياسي نهضوي حينها وفر شرطا تاريخيا لنمو هذا التراث الفكري النهضوي .

وتعرض المشروع النهضوي العربي لانتكاسة كبيرة بدءا من العقد الثاني من القرن العشرين، وتوقفت اندفاعته أو كادت لأسباب سياسية وفكرية مختلفة، يمكن رصدها كما يلي :

(1)             – فشل الثورة العربية الكبرى وتجربتها، واصطدامها بزيف الوعود البريطانية بدعم قيام الدولة العربية في حال تحالفت الحركة العربية مع بريطانيا في الحرب ضد الدولة العثمانية . وبدل أن تقوم الدولة العربية سقطت الأقاليم العربية في المشرق العربي ـ الواحدة تلو الأخرى ـ في قبضة الاحتلال الاستعماري : البريطاني والفرنسي . قبلها كانت أقطار عربية كبيرة قد سقطت تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي : مصر وتونس في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وليبيا في عام 1911، والمغرب في عام 1912 .

(2)             – ما أعقب سقوط المنطقة في قبضة الاحتلال الأجنبي من عملية تمزيق كياني لأوصالها الجغرافية والبشرية على نحو قاد إلى تجزئتها وإلى استيلاد دويلات قطرية قوامها تكوينات عصبوية، طائفية ومذهبية وعشائرية، إضافة إلى ” وعد بلفور ” الذي مهد الطريق أمام قيام دولة اليهود في فلسطين . وهكذا انتقلت المنطقة من طوبى النهضة والتقدم، التي بدأتها في القرن التاسع عشر، إلى حيث تعيش مسألة كيانية أسوأ حتى من تلك التي عاشتها مع سياسة التتريك حين انفلتت النزعة الطورانية من عقالها .

(3)             – تراجع الفكر الاجتهادي الإصلاحي، منذ مطلع القرن العشرين، بعد غياب محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وانقلاب محمد رشيد رضا على الإصلاحية الإسلامية، في عشرينيات القرن الماضي، مع بداية تنظيره لدولة الخلافة على حساب الدولة الوطنية . ولقد طال هذا التراجع الفكر الليبرالي ذاته أمام هجوم الفكر المحافظ، ومحاكمة كتاب طه حسيــن ” في الشعر الجاهلي ” وكتاب ” الإسلام وأصول الحكم ” لعلي عبد الرازق، وصعود الخطاب الفكري الأخواني وتشديده على مسائل الخصوصية الإسلامية .

وبالرغم من كل ذلك، فقد أدى الاحتكاك بالغرب إلى بلورة المفاهيم الحديثة عند العرب، إذ حملت الحضارة الغربية إلى الواقع العربي معانٍ جديدة شبيهة، إلى حد ما، بمعانيها في الغرب، ومختلفة عن معانيها العربية التقليدية في القرون الوسطى . فلا شك أنّ الاتصال بالغرب قد أتاح للعرب التعرف على وسائل الحياة النيابية ( الدساتير والبرلمانات )، كما أنهم نقلوا الفكرة الحزبية إلى واقعهم السياسي والاجتماعي، فقامت الأحزاب القومية والماركسية والإسلامية والليبرالية، مما فتح المجال أمام إمكانية تحديث المجتمع العربي .

وما دمنا نتحدث عن المعوّقات التاريخية في إطار ندوة تدور حول “القضية الفلسطينية في مائة عام “، وفي إطار محور ” معوّقات الحداثة العربية والقضية الفلسطينية “، وفي فضــاء ” مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية “، فإنّ الصراع العربي – الإسرائيلي شكل أحد أهم العوائق للتنمية والتطور في العالم العربي . ولكن الموضوعية الفكرية والسياسية تملي علينا ألا نقبل بمنطق الكثيرين من المسؤولين العرب الذين يحاولون تبرير أسباب العجز العربي بالصراع العربي – الإسرائيلي حصرا . فمنذ اليوم الأول للنكبة، أصبحت مواجهة إسرائيل هي قضية العرب الأولى، وقد كتب المؤرخ الراحل قسطنطين زريق حول النكبة كتابه المعروف ” معنى النكبة “، وكان هذا الكتاب بداية ما نسميه النقد الذاتي العربي . وقد تبنى، انسجاما مع قناعاته، وجهة نظر ليبرالية، حين تحدث عن غياب الديمقراطية عن المجتمع العربي، وغياب النظرة العلمية، والافتقار إلى التكنولوجيا، وغربة الجماهير عن اتخاذ القـرار .

وبعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 عاد الدكتور قسطنطين زريق فكتب ” معنى النكبة مجددا “، فأعاد إنتاج خطابه القديم عن أسباب نكبة العام 1948، مضيفا إليها الأسباب التي تتعلق بما حدث للمجتمع العربي، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا في الحقبة من 1948 ـ 1967 . كما برزت كتابات عن  النقد الذاتي للهزيمة، كان من أبرزها ” النقد الذاتي بعد الهزيمة ” للدكتور صادق جلال العظم، حيث تناول مشكلات التنشئة الاجتماعية والسياسية للمواطن العربي، وفشل هذه العملية في بناء مواطن عربي قادر على المساهمة الفعالة في مواجهة المشروع الصهيوني .

وليس من شك في أنّ النضال العربي من أجل القضية الفلسطينية كان عاملا هاما في تقرير ملامح الفكر السياسي العربي المعاصر، إذ أنّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي طبع العالم العربي بخواص معينة، فهو الذي دفع القوات المسلحة إلى الاستيلاء على السلطة في العديد من الأقطار العربية، بمعنى أنّ التحدي الإسرائيلي لعب دورا مركزيا في ” عسكرة ” بعض الأقطار العربية، وإكساب الأيديولوجيا القومية والفكر السياسي العربي صفات هـــذه ” العسكرة “، مما ترك آثارا سلبية على مجمل العمل العربي المعاصر.

لقد شكلت القضية الفلسطينية أحد أهم قضايا العمل العربي المعاصر، وكان لذلك انعكاسات إيجابية وسلبية في آن واحد . فإذا كان الصراع العربي – الإسرائيلي عامل توحيد للعرب في مواجهة التحدي الإسرائيلي، فإنه جلب أيضا مضاعفات سلبية كان من أهمها الانجراف نحـو ” التسييس الانفعالي ” قبل سن الرشد السياسي، الذي تبلغه المجتمعات عندما تجتاز الحد الأدنى من بنائها الوطني/المدني، الذي يقوم على اندماج شعوبها في بنية مدنية متحضرة تتجاوز البنى التقليدية ما قبل الوطنية .

وهكذا، جرت عملية ” عسكرة ” العديد من الأقطار العربية و” أدلجتها ” عن طريق الحركات الشمولية الكليانية ذات النهج شبه الفاشي، وتم قطع التراكم التحضري والتعليمي المتفتح الذي شهدته هذه الأقطار في المرحلة الأولى من نيلها الاستقلال الوطني . وتحت شعار” لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ” تم القفز عن أوجه القصور الذاتي العربي في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وأصبحت الأولوية المطلقة للتعبئة العسكرية . مما عكس قصور وعي النخب الحاكمة، التي عزلت القوة العسكرية عن عناصر القوة الأخرى . وبذلك تحولت المعركة من معركة ضد التأخر العربي الشامل إلى وجه من وجوهه، ألا وهو تمكّن الحركة الصهيونية من إقامة كيانها العنصري في فلسطين، والتوسع على حساب الأرض العربية، بل إنكار حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على 22 % من أراضي فلسطين التاريخية .

كما يمكن أن نشير إلى أهم الخصوصيات التي تميّز المنطقة العربية عن مناطق وأوضاع أخرى في العالم، منها : خلقت الثروة النفطية حالة من الانقسام، الأفقي والعمودي، على مستوى المنطقة العربية كلها وداخل كل قطر أيضا . حيث لعبت دورا خطيرا جدا في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية لبلدان المنطقة، وخلقت تشويهات عميقة في النظرة والسلوك والعلاقات والأفكار والمواقف . 

ومن المؤكد أنّ العامل المفتاحي هو الوضع العربي ذاته، فمن البؤس توجيه اللوم إلى العوامل الخارجية فيما أصابنا من ضعف وعجز ومهانة، بحيث نبدو عاجزين عن أي شيء غير الإدلاء بتصريحات الاستنكار التي لا أمل في أن تؤدي إلى أي تغيير في الوضع المأزقي الحالي .

وفي هذا السياق، نشير إلى أنّ السلام العربي – الإسرائيلي الذي أعلناه هدفا استرتيجيا لنا ويقترحه المجتمع الدولي علينا، لا يقتصر على وقف الحروب على الحدود بين الكيانات السياسية، بل هو مسار معقد من التبدلات الجوهرية في السياسات العامة، ويحفر عميقا في بنيات الأنظمة، ويقوم على تحويلها باتجاه مقتضياته، من الأيديولوجيات إلى المؤسسات السياسية وأشكال التعامل الاقتصادي المتنوعة، ومن المس بهياكل الأمن وأجهزته ووظائفه، إلى تنظيم الثروات الطبيعية واستغلالها . وهذا نسيج يفترض أنه لا يصدر عن قرارات الحكومات، بمعزل عن المجتمعات التي تسوسها . بل هو يتوطد من خلال معطيات ملموسة يجري بناؤها لتأمين الثقة، وتوفير الضمانات الآيلة إلى تثبيت الاستقرار، ولا تقوم بأود هذا السلم إلا مجتمعات منفتحة على المشاركة السياسية الواسعة.

3 – 2 : المعوّقات الاقتصادية

 تأخر تشكل الرأسمالية العربية التي تعمد إلى تجاوز أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، بل أنها بقيت من النوع التابع الذي تقع شروط إعادة إنتاجه خارج إطاره . ومنذ أواسط سبعينات القرن الماضي أفرزت فترة الازدهار النفطي اختلالا واضحا في التركيب الهيكلي للاقتصاديات العربية، وفي هيكل الطلب الاجتماعي . وكانت حصيلة هذه التغيّرات الهيكلية تحول بعض الاقتصاديات العربية من ” اقتصاديات إنتاجية ” إلى ” اقتصاديات ريعية “، واستمرار بقاء القطاع النفطي قطاعا علويا، يكتفي بتحريك النشاط الاقتصادي من خلال الإنفاق القومي بدلا من التشابك العضوي معه .

وأدى ذلك إلى تراكم العديد من المؤشرات الخطيرة في تطور الاقتصاديات العربية من أهمها :

1 – التدهور النسبي في القطاع الزراعي والارتفاع الكبير في نصيب الصناعات الاستخراجية وقطاع الخدمات .

2 – تخلخل التوازن بين القطاعات والفئات الاجتماعية، وتوسع الفجوة بين الأرياف والمدن .

3 – انخفاض موقع الصناعة التحويلية في هيكل الإنتاج القومي .

4 – تركيز الاهتمام بالتنمية المادية وإغفال أهمية التنمية البشرية .

5 – مهد النفط لمفهوم الدولة الريعية، حيث تمكنت الحكومات من أن ” ترشو ” قطاعات من المجتمع، بهدف توسيع قاعدة حكمها وسلطتها.

وما أن بلغنا منتصف الثمانينات، إن لم يكن قبل ذلك، حتى تبين أنّ معظم الآمال التي بنيت في أوائل السبعينات، على ثروة النفط وانتقال العمالة والمشروعات العربية المشتركة، كانت قصورا مبنية على الرمال . ولم تكن خيبة الأمل هذه ناتجة عن مجرد أنّ الزيادة في إيرادات النفط قد أصابها الانتكاس في منتصف الثمانينات نتيجة الانخفاض الكبير في أسعاره، بل ما تبين، مع مرور الوقت، من أنّ زيادة الإيرادات شيء، وزيادة القدرة على استخدام هذه الإيرادات والثروات في تحقيق التنمية العربية على أساس التكامل والشمول ووحدة الخطط والبرامج شيء مختلف تماما.

وهكذا، أسفرت أغلب التجارب التنموية العربية عن نتائج تناقض أهداف التنمية الحقيقية : مزيد من التبعية للخارج، ومزيد من التفاوت في الدخول والثروة بين الناس، وارتفاع في أسعار المواد الأساسية والخدمات ومعدلات التضخم ومعدلات البطالة، وتراجع في الأداء الاقتصادي العام، ومشكلات في الصناعة الحديثة وأسلوب نقل التكنولوجيا، وضعف الاستثمار والادخار، وعدم قدرة الإنتاج الزراعي على سد الفجوة الغذائية، ومحدودية التفاعل والتكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، واستمرار نزوح الأموال العربية إلى الخارج .

لقد صحت الأقطار العربية، في أواخر الثمانينات، لتجد نفسها أمام عالم جديد، لم تهئ نفسها لمتطلباته وتحدياته، سواء بشكل جماعي أو انفرادي . فقد أصبح النظام الاقتصادي العالمي هو الأداة التي تستخدمها الدول الكبرى للهيمنة في المجالات السياسية والاقتصادية، بعد أن استطاعت الرأسمالية تطوير وسائل عملها.

3 – 3 : المعوّقات الاجتماعية

شهد العالم العربي المعاصر تَشكَّلَ مجتمعين متباينين : أولهما، هامشي أو مهمش يتكون من غالبية الأرياف والبوادي وبعض المدن أو أقسام من المدن . وثانيهما، جديد/سياسي، مجتمع مدن، مهن وحرف جديدة أو متغيرة، طلاب وتعليم حديث، سياسة وأحزاب . فمعظم المواقع والعلاقات الاجتماعية في حالة تَشَكُّلٍ وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، بين العلاقات ما قبل الرأسمالية، حيث أشكال الترابط والتضامن على أسس قبلية وطائفية وعشائرية وخدمية، وبين الأوضاع والعلاقات الجديدة التي تتشكل بفعل علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وأنماط التقسيم الدولي للعمل.

إنّ ترييف المدينة وبدونتها، على حد تعبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، هو الإشكالية المطروحة على الفكر العربي السياسي، فقد جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولى إلى الحواضر العربية إما أبناء الريف العربي أو أبناء البادية، وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية، التي نوه إليها ابن خلدون بالعصبية القبلية، ولكنهم حازوها من خلال المؤسسات ” الحديثة ” المنظمة كالجيش والأحزاب ” الحديثة ” التي جمعتهم لأسباب اقتصادية وأيديولوجية وعصبوية أيضا، فأصبح العمل السياسي العربي- إلا فيما ندر- في أيدي هذه الفئات بعد أن تخلصت، تحت شعارات شتى، من الأرومة المدنية العربية في الحاضرة، التي قادت العمل السياسي والصناعي والتجاري برهة من الزمن بعيد الاستقلال … فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيما وممارسات ريفية، مما اصطلح على تسميته بـ ” ترييف المدينة ” .

أما القوى التي لعبت أدوارا في الدولة العربية فهي عديدة، ولكنها متفاوتة التأثير ويمكن تصنيفها كما يلي :

(1) – العائلات الحاكمة، سواء كانت عائلات تقليدية، حكمت نتيجة توارث السلطة، أو عائلات حاكمة جديدة، جاءت نتيجة الانتخابات أو الانقلابات، فإنّ هذه العائلات لا تمسك بزمام السلطة فقط، بل بزمام الحياة الاقتصادية أيضا . وهي ذات مصلحة بالمحافظة على السلطة في القطر الذي تحكمه، لأنّ وجودها في السلطة مصدر قوتها وسلطتها .

(2) – البورجوازية – العقارية – التجارية – المالية، وهي خليط من أبناء وأحفاد العائلات الإقطاعية وكبار التجار والملاكين العقاريين في العهد العثماني، ومن العائلات العقارية – التجارية التي نمت وترعرعت في عهود الاستعمار الغربي، ومن البورجوازيين المتوسطين الذين أثْروا في عهود الاستقلال .

  (3) – الشرائح العليا من البورجوازية الصغيرة المستفيدة من العائلات الحاكمة والبورجوازية العقارية – التجارية – المالية، والتي تحتل مواقع مهمة في الدولة والجيش والشركات .

ثم أنّ المجتمع العربي يتسم بالثبات، من خلال قيمه ومعاييره الموروثة . فمن الاتجاهات الموجودة في نظام القيم العربية التي تعوّق إمكانية التنشئة المواطنية الصحيحة يمكن أن نذكـر: النزوع نحو التشديد على العضوية في العائلة وليس على الاستقلال الفردي، والنزوع نحو الاتكالية والطاعة وليس الاعتماد على الذات، والتمسك بالعقاب كوسيلة للتربية أكثر من الإقناع، والنزوع نحو الأنانية، وسيطرة الرجل على المرأة حتى إخضاعها.

ولعلنا لا نحتاج إلى عناء كبير لنلمس هذا النزوع نحو الخضوع والطاعة والاتكالية من جهة، وحب السيطرة والأنانية من جهة أخرى. ويرى بعض الباحثين أنّ هذه القيم لا تتحكم فقط بالعلاقات الأسرية بل أيضا بالعلاقات السياسية .

وهكذا، فمن أخطر ما أصاب التركيبة الاجتماعية العربية، في عصور التدهور، اختلال التوازن داخلها، بين الرجال والنساء، وتشابه على مجتمعاتنا الغاية والوسيلة . فمالت كل الميل إلى التمسك بالوسيلة، وغاب عنها أنّ الغاية هي المقصودة، وعليها المدار . فنسيت مجتمعاتنا أنّ الوسائل إنما هي مطية لبلوغ الغاية، تتبدل بتبدل الأوضاع، وتتغير بتغيّر الأحوال، وتتطور بتقلب الأزمان . هذا الخلط بين الوسيلة والغاية هو الذي جمد الدفق الحضاري في مجتمعاتنا، وأفقد العقل سلطانه في الكثير من الأمور الجوهرية . فتعطلت قاطرات الفعل الحضاري، وانسدت ينابيع الفكر الثقافي، حتى شمل الشلل أغلب مراتب التصرف، في مستوى الحكم، وفي صعيد الاقتصاد، وسائر شؤون المجتمع.

3 – 4 : المعوّقات الثقافية

يبدو أن تفسير التأخر الحضاري العربي عن طريق المشروطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يكفي . فالعقليات وإن كانت مشروطة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ لها استقلاليتها الذاتية إلى حد ما . فأحيانا يتغير الواقع المادي دون أن تتغير العقليات، إذ تدخل التكنولوجيا والحداثة المادية والتجهيزات والآلات إلى مجتمع ما وتظل العقليات فيه متأخرة أو تقليدية .

إنّ الخطاب الثقافي، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات، هو خطاب الأزمة : فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع . ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم . ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد . ولعل أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا : الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية .

ولاشك أنّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة هي جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة العربية من جهة . وهي، من جهة ثانية، أزمة بنية ثقافية عربية تندرج في إطار بنية اقتصادية – اجتماعية متوارثة منذ عقود طويلة من الركود والتأخر والتبعية . مما يسمح لنا بأن نطرح السؤال المقلق الذي أثاره الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين : لماذا تراجع العرب وتقدم غيرهم ؟ . وتفسير عبدالله العروي لأزمة الثقافة العربية المعاصرة بأنها اختلال العلاقة بين الوعي والفعل، بين الوعي المنقوص والفعل العاجز، بين التوفيقية الملتبسة وافتقاد القدرة على الحسم ؟! .

وقد أدى كل ذلك إلى تصاعد نزعات التعصب والتطرف، وتزايد عمليات الإرهاب التي تتمسح بالدين الحنيف، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلى الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة المفضية إلى النار . هكذا، رأينا الاعتداء على المواطنين الأبرياء، ورموز السلطة المدنية، وتهديد المثقفين المستنيرين بكل وسيلة ممكنة . وأضيف إلى ذلك تحوّل هذا الإرهاب من إرهاب محلي إلى إرهاب دولي، وذلك في سياق متصاعد وصل إلى ذروته في جريمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، وهي الجريمة التي فرضت أوضاعا جديدة تمامـا، جعلت العالم كله يرى أبشع وجه للإرهاب .

 ومن المؤكد أنّ أصحاب نزعة التعصب والعنف لم يدركوا التراث العربي – الإسلامي في كماله وصراعاته واختلافاته وتعدده في تنوعه، ولم يدركوا لماذا كان هناك المعتزلة والأشاعرة، ولكنهم أخذوه كما هو في مظهره السطحي وتضاريسه الخارجية . بسبب غلبة  الوعي الأصولي النقلي على تفكيرهم، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن حياتهم وليس عنصرا تكوينيا من عناصرها الحيوية . ودليل ذلك يسير جدا، نلمسه في ندرة كتاباتهم ورؤاهم التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، وذلك في مقابل الوفرة الوافرة من الكتابات والخطابات والممارسات المهمومة بسؤال الماضي وحضوره الذي يتحول إلى ما يشبه حضور العلة الأولى أو المركز المطلق للحضور . والنتيجة هي قياس كل شيء على الماضي، والعودة بكل جديد إلى أصل يبرره من القديم، والنظر إلى التغيير في ريبة، وإلى التجدد بعين الاتهام .

في حين أنّ الثقافة التراثية ثقافة متنوعة لا ينبغي أن نأخذها في مظهرها السطحي، وعلينا نحن أبناء  القرن الحادي والعشرين ألا نتبنى هذا التراث بطريقة مطلقة، وإنما نتعقله في سياقه التاريخي، وكيف ظهر وانتهى في زمنه، ثم بعد ذلك نضيف إليه بحسب عصرنا وظروفه، وبرؤية عقلانية نقدية، وبذلك يصبح التراث قيمة متحركة، ويخرج عن إطار الجمود أو أن يكون مجرد ماضٍ .

كما أنّ العلاقة بين القومية العربية والإسلام علاقة متشابكة ومعقدة إلى أقصى حد، إذ تختلف هذه العلاقة عن علاقة أي دين بأية قومية، وقد زادت الهجمة الاستعمارية الغربية من حجم التداخل بين العروبة والإسلام، إذ لم تقتصر على الجانب المادي فقط، بل بلغت الجانب الروحي للشعوب العربية أيضا، من خلال هجومها على مقدساتها وقيمها الدينية . لذلك فإنّ هذه الشعوب استعانت بكل قواها، بما في ذلك قوة الدين، لأنها كانت تحس أنّ الغرب يستهدف وجودها وحضارتها ودينها .

وإزاء هذه الخصوصية والتعقيد بين العروبة والإسلام يمكن أن تتحدد علاقة أكثر صحة وأكثر دقة بينهما، بالاستناد إلى ما يلي :

(أ) ـ العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، وليس العداء بينهما، أساس جوهري في قيام الدولة، وفي علاقة المواطنين بها، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو القومية .

(ب) ـ المواطنون متساوون، ولا يجوز التمييز بين مواطن وآخر بسبب الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي، وتولي الوظائف العامة لا يحدده سوى الولاء للوطن والكفاءة .

(ج) ـ الإسلام جزء أساسي في تكوين تراث الأمة العربية، وقد كان لهذا التراث تأثير هام في إضفاء ملامح وخصائص معينة على الشعوب العربية تميزها عن غيرها من الشعوب .

(د) ـ الحركات الدينية المتطرفة، حركات تعصب وانقسام في المجتمع، ولذلك لا يجوز أن تقوم على هذا الأساس في إطار العمل السياسي .

وفي زمن العولمة، فإنّ طبيعة المخاطر المهددة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدى قدرتها على تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء منظومة تربوية تقوم على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها .

إنّ حضور سؤال المستقبل في أية ثقافة هو دليل حيويتها، على حد تعبير الأستاذ جابر عصفور، فبقدر حضوره في تكوينها  تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي . إنّ الوعي المستقبلي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة . وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلى التقـدم .

وهكذا، يبدو واضحا أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعنى أننا في أمس الحاجة إلى عملية إحياء ثقافي . فالثقافة العربية الراهنة تمر في مرحلة انحطاط وردة واضحين، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل .

وإزاء ذلك يبدو أنّ الخطوة الأولى في محاولة التعاطي مع أسئلة المستقبل تكمن في فهم لغة الخطاب العالمي المعاصر، التي يتم التعامل بها بين أطراف هذا العالم الجديد، وخاصة القوى الغربية المؤثرة، وبالتحديد فهم توجهات هذا العالم نحونا . إذ أنّ البحث في الاعتماد المتبادل بين العالم العربي والخارج هو بحث في المستقبل، وأية دراسة للمستقبل لا بد أن تنطلق من صورة العالم، ونماذج تطور النظام العالمي في أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية .

ومن جهة المنظور، لا يخفى أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة، ولكنها تشهد اليوم ازدهارا واضحا يستقطب اهتمام المفكرين والمنظرين الاستراتيجيين . والرؤى المستقبلية لا يمكن إلا أن تكون تعددية، بمعنى أنها تتغذى من جميع فروع المعرفة بقدر ما تنفتح على جميع وجوه الحياة، كما تتجلى في العلوم الاجتماعية، أو في ميدان التاريخ والحضارة، أو في مجال الفلسفة والأخلاق، أو في ميادين الفن والأدب، أو في علوم الاقتصاد والمال، أو في الدراسات السياسية والاستراتيجية، أو في العلوم الطبيعية والبيئية، أو علوم الوسائط والاتصـال .

وهكذا فالتفكير من منظور مستقبلي يتوقف على العمل بعقل تواصلي، من هنا تتبلور اليوم شبكة جديدة من المفاهيم تتلاءم مع التحول الذي تشهده البشرية . بحيث تتركز الجهود الفكرية والعملية على تشكيل المجتمع الكوني التداولي، لمجابهة الداء الأعظم الذي يفتك بالبشرية، كما يتجسد في أنشطة العنف والأعمال البربرية التي تقوم بها قوات الجيش الإسرائيلي ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني . وهذا أحوج ما يحتاج إليه العرب : المساهمة في تنمية المجال التداولي وتوسيعه وإتقان لغته، خاصة ما يتعلق منه بـ ” المجتمع المدني العالمي ” ومنظماته غير الحكومية، لأنه الفاعل الجديد في العلاقات الدولية .

 وانطلاقا من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج :

(1) – الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى .

(2) – النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية على الأقل .

وهنا تبرز مهمة المثففين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقا من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول المفكر الجزائري مالك بن نبي  ” رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب ” .

ومما لا شك فيه أنّ عصر الحداثة لم ينغلق في نمط نهائي، بل هو في تطور متواصل، بهدف الإجابة على التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية . فهو العصر الذي حققت البشرية فيه أثمن مكاسبها وأعظم إنجازاتها في المجالات السياسية والاجتماعية والمعرفية .

وللخروج من الحالة الماضوية الغالبة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لا بد من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية :

(1) – ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية – الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون . خاصة وأنّ القول قد حل محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه .

(2) – ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ أنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم من يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة .

(3) – الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه البعض بـ ” الغزو الثقافي ” هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماما، فلم تعد الاستراتيجيات الدفاعية والفصامية قادرة على إنقاذ الذات الحضارية من الهزيمة أو التبعثر، وإنما صار الأمل الحقيقي في الصمود رهنا بالتعلم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت بدءا من أنظمة الحكم ومرورا بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات .

(4) – المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجا أساسيا وعميقا لامتصاص واستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة . بما تعنيه من تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام، وخاصة فيما يتعلق بالدور، ولكن أيضا فيما يتعلق بالملكية والسلطة . كما تعني شيئا من الاتصال والتراكم والديمومة في أداء الوظائف .

(5) – التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل ” ليس سوى مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي “، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور .

ولعل التحدي الأكبر الذي يستوجب على المجتمعات العربية مواجهته هو التحكم في نقاط ضعفها نفسها وفي مقدمتها نظمها السياسية، ومنظوماتها الاقتصادية والأمنية والإدارية والاجتماعية والثقافية، واكتشاف هذه النقاط وإدراك النقائص والسعي إلى معالجتها . هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الفاعل التاريخي القادر على تحديد أهداف وبلورة استراتيجيات، والدخول في تنافس أو تفاهم مع الأطراف الدولية الأخرى . فلا أمل اليوم لطرف في التأثير على مصيره الخاص إلا إذا نجح في أن يكون شريكا مع الآخرين في التعاطي الإيجابي مع التحديات العالمية، فالمشاكل التي يعاني منها هي نفسها التي تعاني منها بقية المجتمعات، ولا مجال لبلورة حلول ناجعة لها إلا من خلال منظورات إقليمية وعالمية.

3 – 5 : المعوّقات السياسية

إنّ الدارس للسياسات العربية بشكل عام، في أغلب منعطفات القرن العشرين، يجدها موسومة بالخصائص الرئيسية التالية :

(1) – اللاعقلانية، إذ لم يعرف الفكر السياسي العربي مخاضا أيديولوجيا مثل الذي عرفته أوروبا في عصر الأنوار والثورات القومية الديمقراطية التي عصفت به، فجعلته ينتقل بالسياسة من إسار اللاهوت والأخلاق إلى سياق العلم والممارسة . ونتيجة لذلك فقد تميزت السياسات الحديثة بالواقعية، أي أنها انطلقت في تعاملها مع الأحداث من الأمر الواقع وموازين القوى .

(2) – اللاديمقراطية، إذ أنّ السياسات العربية أديرت من قبل نخب بالغة الضيق، بمعزل عن الشعب بمختلف طبقاته وفئاته وتياراته السياسية والفكرية، مما جعلها سياسات مرتجلة وغير منسجمة مع مصالح الأمة حينا أو في تناقض معها أحيانا أخرى .

 (3) – القطرية، إذ أنّ الميسم القطري كان واضحا في السياسات العربية خلال أغلب مراحل القرن العشرين، وإن تغلفت أحيانا بالشعارات العربية القومية .

إنّ ما ذكرناه أعلاه يسلط الضوء على مشكلة التأخر العربي، تأخر البنية السياسية العربية بجماعها. لقد بقيت الدولة العربية، في شتى أشكالها: البرلمانية، والثورية، والأوتوقراطية، والعسكرية، التي ارتدت إطارا شبه حديث مع الاجتياح الاستعماري، ذات بنية تقليدية. والصفة الأولى المميزة لدولة ذات بنية كهذه ليس فقط كونها فوق المجتمع، بل أيضا كونها تؤسس للاندماج بين السلطة وممارسيها . هذه الدولة تتيح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، والصراعات حول السلطة ( وكثيرا ما تعتبر هي السياسة في مجتمعاتنا المتأخـرة ) داخل هذه الأقلية تسهم أكثر في تعزيز السيطرة الممارسة لا إضعافها . هذه الأقلية، الأقوى من الشعب والراكبة عليه، بإلغائها الحياة السياسية للشعب، عطلت بالنتيجة عملية تحديث السياسة وعرقلت دمقرطتها، أي عرقلت عملية تحوّل الفرد إلى عضو في الدولـة .

وهكذا، يبدو أنّ الدولة الحديثة لم تمتد جذورها إلى الأقطار العربية، إذ بقيت على الأغلب قمعية واستغلالية . ويبدو أنّ إحدى المشكلات الكبرى للدولة العربية، التي ظهرت بعد نيل الاستقلال الوطني، أنها لم ترتبط بفكرة الحرية وفكرة العقلانية، بل ارتبطت بفكرة التوازن بين البداوة والدولة، حين مثلت البداوة حرية الأصل السابقة للدولة، ومثلت العشيرة المحافظة على بعض حرية التصرف داخل الدولة .

ففي حين أنّ المجتمع الحديث يتميز بتعدد العلاقات والمراتب الاجتماعية، التي تعبر عن نفسها في صورة مؤسسات، ثم تأتي الدولة فتتوج هذه المؤسسات وتستعيدها في إطار وحدة عامة شاملة، فإنّ الدولة العربية ” الحديثة ” استبعدت جزءا هاما من التجربة الاجتماعية، ليس عن طريق تحويره وتطويره إلى صورة أرقى منه، وإنما عن طريق عزله ومنعه قسرا . وبهذا فإن سلطة الدولة العربية ليست منسلخة عن المجتمع فحسب، بل هي عازلة له ومتسلطة عليه . فهي تحتل مراكز الإشراف التي تقع على تقاطع العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أي أنها تسيطر على القطاعات الحديثة التي استجدت مع التغلغل الرأسمالي .

لذلك يبدو العالم العربي عالما مفككا، لا يحافظ على وجوده الهش إلا الاستبداد السياسي المتزايد عنفا، ويجد نفسه أسير معادلات سياسية مستحيلة، إذ أنّ الإدراك السياسي لحكامه والجزء الأكبر من معارضيهم يبدو مقتصرا على الإدانة الخطابية للمؤامرات الخارجية . ولهذا ـ أساسا ـ آلت الحالة العربية إلى التوصيف الذي ورد في تقريري التنمية الإنسانية لعامي 2002 و 2003، وأمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحتل العراق، كما أمكن لإسرائيل أن تستفرد بالشعب العربي الفلسطيني .

 إن جوهر العلاقة بين السلطة والشعب، في الغالبية الساحقة من الأقطار العربية، يقوم على قانون القوة والقهر، و على التغييب شبه الكامل لدور الشعب والقانون، وإلغاء حقوق المواطنة، وتفتيت المجتمع وتطويعه وإخراجه من عالم السياسة، وتعطيل أية إمكانية للتغيير والإصلاح، وقمع أي عمل معارض . بالإضافة إلى الاعتماد شبه الكلي على الأجهزة الأمنية وتحويل مؤسسات الدولة، الرسمية والشعبية، إلى واجهات صورية مسخرة لخدمة الفئات الحاكمة وطبقاتها السياسية النافذة، التي تتعارض توجهاتها ـ أكثر فأكثر  ـ مع مصالح شعوبنا وتطلعاتها، وهي تقيم من مكاسبها الكبيرة ومصالحها الضخمة سدا منيعا في وجه التغيير أو أية مراجعة أو محاسبة أو إصلاح .

وإذا كانت الأزمة العامة في أقطارنا العربية، بديمومتها واستعصائها، تشكل كابحا لتطلعات شعوبنا، وتضع وطننا أمام طريق العجز عن مواجهة المخاطر والتحديات حاضرا ومستقبلا، فهي أيضا تزيد وتفاقم من مأزق الحكومات في التلاؤم مع استحقاقات مرحلة ما بعد احتلال العراق وتداعياتها، والتغيّرات الكبيرة في موازين القوى والأوضاع الدولية .

لقد أفقدت الأحداث العديد من الحكومات  العديد من مصادر شرعيتها، وأوضحت مدى ضعف المؤسسات السياسية في الأقطار العربية، وأبرزت أبعاد الأزمة على النحو التالي :

  1 – غياب المشاركة السياسية من قبل الجماهير العربية في الحياة السياسية، إما نتيجة اللامبالاة السياسية وضعف الوعي السياسي، وإما لعدم الثقة في الأنظمة السياسية، وإما نتيجة تضييق قنوات المشاركة من قبل هذه الأنظمة، وإما لتوافر هذه الأسباب مجتمعة .

 2 – سيطرة شخص الحاكم تسانده نخبة محدودة على مقاليد الأمور، وإحكام إغلاق الدائرة السياسية، لدرجة لا تسمح بدخول أية عناصر جديدة إلا في ظل ظروف وشروط بالغة التعقيـد .

 3 – الانفصال بين الحاكم والمحكوم، وعدم وجود تفاعل بين قيم وأمنيات ومطالب المحكومين والسلوك السياسي للحاكم، الأمر الذي يؤثر في مدى توافر شرطي الرضا والقبول من جانب المحكومين، وهما الشرطان اللازمان لاستمرار الأداء السياسي للسلطة وفعاليته في المجتمع .

 4 – يؤدي وضع كهذا إلى اتجاه النظام السياسي إلى استخدام كافة أساليب العنف تجاه معارضيه، الأمر الذي يؤدي إلى إهدار كافة الحريات والحقوق المتعلقة بالإنسان، كما يؤدي إلى اتساع دائرة العنف في المجتمع .

 5 – غياب المؤسسات السياسية الفاعلة القادرة على إعداد وتدريب وتجنيد المواطنين بالأسلوب الديمقراطي الذي يقوم على الحوار والمناقشة الموضوعية .

 6 – شيوع قيم الاتكالية والفردية والانتهازية السياسية في المجتمع .

 7 – غياب البنى الاقتصادية والاجتماعية والإطار الثقافي والفكري اللازمين للممارسة الديمقراطية .

 8 – عدم الاعتراف بالتعددية السياسية، وعدم إمكانية تداول السلطة بأسلوب ديمقراطي منظم .

  وثمة عوائق موضوعية تجد مرجعيتها لا في البنية الذهنية، أو الموروث اللاشعوري، وإنما في الوضع الداخلي الملموس، أو في الظرفية الخارجية وطبيعة النظام الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية التي لها يد طولى في الاستفراد بصياغة مصير الشـعوب .

 1 – على صعيد البنية الداخلية للبلاد العربية، نجد أنّ الذي يسود في أغلبها اقتصاد ريعي، فالمداخيل التي تفعّل دواليب الاقتصاد العربي مصدرها ليس نتيجة لمجهود بشري فعال، وإنما بمثابة هدية من باطن الأرض . لقد تحول النفط من أداة لتسهيل الديمقراطية في الوطن العربي إلى معوّق لها، من أداة لتحقيق كرامة الإنسان إلى أداة لتركيعه وإذلاله .

 2 – أما على صعيد الظرفية الخارجية، فعلى الرغم مما يروج له عالميا من كون النظام الدولي الجديد، الذي تطبل به وسائل الإعلام الغربية، يبشر ويدعو إلى احترام حقوق الإنسان، ويسهر على انتشار الديمقراطية في كافة أرجاء المعمورة، بل ويمارس ضغوطا على الحكومات التي يعتبرها ديكتاتورية، فإنه وللأسف الشديد نجد أنّ الدول الكبرى، في كثير من الأحيان، إنما تستعمل مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان للضغط على الشعوب وإذلالها عوض تحقيق الكرامة الإنسانية، فهي تتلاعب بالقيم الإنسانية لتمرير مخططاتها، وتحقيق مصالح جديدة في بقاع أخرى من العالم أو على الأقل للحفاظ على مصالحها القديمة .

إنّ البنى، الموصوفة أعلاه، التي تقف موقف العداء من التنوير والفكر والثقافة وتلجأ للمصادرة والاعتقال والنفي والتشريد والقتل، تعمل جاهدة على إشاعة روح الخوف والترهيب لإضعاف دور المثقفين ” ضمير الأمة “، فيتحول بعض منهم إلى مسوخ تضرب على كل دف، وتنفخ في كل مزمار ما دام ذلك في رحاب السلطة وحمايتها .

و من أجل تجديد الثقافة السياسية العربية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ :

(1) – اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات ذات تصورات فكرية ومشارب سياسية متباينة، سواء تم اعتبارها ضمن صنف الحلفاء أو المنافسين أو الخصوم من جهة، واعتبار التحول والتغيير من جهة أخرى قانونا راسخا في كل واقع سياسي . الأمر الذي يفرض على الممارس السياسي اعتماد قدر كبير من المرونة في التعامل مع الشأن السياسي تمكّنه من القدرة على التكيّف مع معطيات الواقع المتحول .

(2) – ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، لما يتيحه ذلك من إمكانية الإحاطة بالواقع الشامل والتعرف على العوامل المؤثرة في سيرورة تطوره . إذ أنّ الواقعية والعقلانية تقتضيان تقديرا دقيقا للإمكانات الفعلية للذات التي تتوخى الفعل والتغيير في وضع سياسي ما، ذلك أنّ تضخيم تلك الإمكانيات يترتب عليه رسم خطط وبرامج للممارسة مكلفة ماديا وفاشلة عمليا، وفي ذلك هدر للطاقات في معارك مجانية أو غير متكافئة قد تنتهي إلى كارثة محققة .

(3) – اعتماد ثقافة الحوار انتصارا لفكرة أو دفاعا عن موقف وحماية لمصلحة خاصة أو عامة . وفي سياق ذلك ينبغي الحرص على عدم اعتماد الأساليب المتطرفة في التعاطي مع قضايا الخلاف، فقد تسيء الحدة المفرطة في الجدل السياسي بين المواقف المتعارضة إلى القضية موضوع الحوار، إذا لم تعرف الأطراف المتجادلة كيف ومتى تترك للمارسة هامشا يسمح باختبار مختلف الآراء والأطروحات وتمييز الصائب منها عن الخاطئ .

(4) – الاستعداد الواضح لتمكين الأجيال الشابة من تحمل مسؤولية قيادة العمل السياسي باعتبار ذلك شرطا أساسيا من شروط تجديد شباب الأمة العربية .

وتكتسب الدعوة إلى التعددية وحق الاختلاف أهميتها مما تشهده بعض أقطارنا العربية من انقسامات عمودية تهدد وحدتها وتسهل لأعداء الأمة تمرير مخططاتهم التقسيمية على أسس ما قبل وطنية . إنّ إدارة التعددية الفكرية والسياسية بشكل حضاري، بما تفرضه من قيام مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وبما تفرضه من علاقة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، تحمل بين طياتها إغناء لوحدة مكوّنات الدولة .

ولذا، فإنه ليس من قبيل الترف الفكري الدعوة إلى ضرورة تطوير نسق عربي ديمقراطي مؤسس على مشروعية التعددية وحق الاختلاف، مما يتطلب :

(1) – وفاقا بين السلطات القائمة في أقطارنا العربية وبنى المجتمع المدني لصياغة حل انتقالي تدريجي نحو الديمقراطية، بحيث تتم دمقرطة هياكل السلطة وبنى المجتمع المدني في آن واحد، ضمن إطار توافق على مضمونه ومراحله مجموع القوى والتيارات السياسية والفكرية الأساسية . ويبدو واضحا أنّ نجاح هذا المسار مرهون بمدى استعداد السلطات العربية لترشيد بنائها على أسس عقلانية وديمقراطية .

(2) – استحضار الخريطة الاجتماعية العربية للتعرف على مدى قدرة المجتمعات العربية على استيعاب القيم الديمقراطية وفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني . وذلك لأنّ أغلبية النخب السياسية العربية تخشى الديمقراطية الحقيقية، وتتخوف من نتائجها، بسبب كون علاقاتها بجسم هذه المجتمعات لا تمر عبر قنوات ومنظمات المجتمع المدني التي تجعل في الإمكان احترام قواعد الممارسة الديمقراطية .

 (3) – إنّ الديمقراطية عملية مستمرة، تتضمن معاني التعلم والتدريب والتراكم، ولذلك فإنّ أفضل طريق لتدعيم الديمقراطية هو ممارسة المزيد من الديمقراطية . كما أنها ليست عملية قائمة بذاتها، بل لها متطلباتها وشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسسية . ولذلك فإنّ العبرة ليست بتحقيق التحول الديمقراطي فحسب، ولكن توفير ضمانات استمراره وعدم التراجع عنه . وذلك بتجذيره في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للمجتمع . كما أنّ الديمقراطية ليست نظاما بلا أخطاء أو بلا مشكلات، بل لها مشكلاتها حتى في الديمقراطيات العريقة، وهنا تبرز أهمية القدرة على تطوير أساليب وآليات فعالة لتصحيح مسارات التطور الديمقراطي . وبغض النظر عن المعاني المتعددة لمفهوم الديمقراطية، فإنّ المفهوم يدور بصفة أساسية حول ثلاثة أبعاد رئيسية : توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، واحترام مبدأ تداول السلطة طبقا للإرادة الشعبية، والقبول بالتعدد السياسي والفكري .

إنّ إعادة اكتشاف الديموقراطية اليوم يعيدنا أولا إلى إعادة اكتشاف مفهوم المواطن من خلال استحضار مجموعة من الأبعاد التي يحيل إليها هذا المفهوم :

(1)             – البعد الإنساني : فالمواطن ليس فردا فحسب، إنه المواطن – الإنسان، فالمفهوم الحقوقي يحيلنا بالضرورة إلى مفهوم أوسع : مفهوم حقوق الإنسان القابل دائما للتجريد والتعميم، وبالتالي للتطوير كلما برزت عقبة في وجه المساواة والعدالة في مجتمع من المجتمعات . هذا البعد الإنساني، يتطلب نظرة ثقافية وتربوية تقوم بشكل أساسي على التسامح وتعلّم قبول الآخر والتعامل معه بذهنية أخوة المواطنة وأخوة الإنسانية معا . ولكي ندخل هذا الخلق في مسلكيات المواطن العربي، تبرز أهمية شروط التنشئة الوطنية الإنسانية التي تفترض استيعاب المناهج النقدية في الدراسات الإنسانية : نقد العنصرية والتمييز على اختلاف أشكاله، ونقد العقلية الخرافية، والتعريف بأسباب المسلكيات اللاعقلانية … الخ .

(2)             – البعد التنموي البشري : الذي يحيل بدوره إلى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية وشروطه :

–              تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول للمشاركة في الحياة السياسية .

–              تنمية حس النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانيان .

–              اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير أساسية في درجات التنمية .

كل هذه الأمور شكلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنسانا فاعلا في السياسة والثقافة والتنمية معا .

(3)             – البعد العالمي للمواطنة : ليس المقصود بالبعد العالمي للمواطنة القــــول بـ ” المواطنية العالمية “، وكأنها استجابة للنزوع الذي تنحو نحوه العولمة اليوم، ولا الاعتقاد بالفكرة الداعية إلى توحيد العالم في ظل حكومة عالمية . فثمة من يدعو اليوم إلى إعادة تأسيس مجال المواطنة وثقافتها بعد أن شابها، في مرحلة ازدهار دور الدولة القومية، مشاعر قومية، وأحيانا شوفينية وعنصرية كان لها دورها التسعيري في حربين عالميتين . بل أنّ هذه المشاعر الشوفينية والعنصرية عادت فتفاقمت بعد أن حولت العولمة الاقتصادية والإعلامية المواطن إلى مستهلك شره، وحولت المنطق السياسي إلى منطق سوق، فاستنفرت الهويات الذاتية في مواجهة الهويات المغايرة حتي في الوطن الواحد ولدى المواطنية الواحدة بذريعة البحث عمن يحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والضائقة الاقتصادية .

إنها حركة تعمل على إعادة تركيب العالم بمواطنة في مجتمع ديموقراطي يسعى إلى المزيد من تنوعه، لا إلى المزيد من شموليته ووحدته، وكما كان الأمر في مرحلة بناء الدولة القومية أو في مرحلة حركات التحرر الوطني . هذا جانب من جوانب البعد العالمي لمواطنة أضحى عليها أن تستوعب اختلافا قريبا أو بعيدا عنها، ولكن محيطا بها بصورة دائمة، لا بفعل انعدام المسافات فحسب، بل بسبب حضور هذا الاختلاف في العيش والحياة اليومية .

4 – العرب وما بعد الحداثة

غدت قضية الحداثة وما بعدها مسألة سجالية لم تزل الثقافة العربية منشغلة بها انشغالا ساذجا، وكثيرا ما تحمّل ظواهر فكرية معاصرة في حياة الغرب بأكثر مما يمكن تحمّله سياسيا من قبل البعض من كتابنا العرب . أما ” ما بعد الحداثة “، فقد عكس نوعا من تأزم الحداثة نفسها وقام علي ثلاث ركائز : الوعي بالذات بتحريرها، وتجاوز أكذوبة المركزية وعقلها التسلطي، والتحول من معقولية التوحيد إلي معقولية التنوع .

لقد شهدت كتابات ” ما بعد الحداثة ” انتشارا واسعا في الثقافة العربية خلال العقد الأخير، واتخذت أشكالا متعددة ومتمايزة، منها : البحوث المستقبلية المبشرة بحضارة ” ما بعد الحداثـة “، لا في شكل نقدي، وإنما من منظور رصد التحولات في مستويات إدارة المجتمعات وبلورة القيم وضبط المعارف، وصولا إلى تأكيد حالة القطيعة بين الموجة الجديدة وحقبة الحداثة بكل عناصر مناخها الفكري والمجتمعي .

وهنا سنكتفي بسؤال نعتقده الأساس والمحوري في استكناه دلالة ومرجعية انتشار كتابـات ” ما بعد الحداثة ” في سياقنا العربي وهو : إلى أي حد تعبر هذه الكتابات عن حاجة موضوعية في ثقافتنا وأرضيتنا المجتمعية والفكرية، وما هو بالتالي الفرق بين عوامل نشأتها في تربتها الأصلية وظروف بروزها في خطابنا الفكري ؟ .

إذ من الواضح لنا، أنه إذا كانت كتابات ” ما بعد الحداثة ” في السياق الغربي، لا تنفصل عن تصدعات ديناميكية الحداثة ذاتها، حتى ولو اتخذت أحيانا طابعا نقديا تجاوزيا أو عدميا، فإنها في الفضاء العربي تعبر عن موقف مغاير هو العجز عن ولوج هذه الديناميكية، والإخفاق في بلوغ مرامي التحديث التي تأسس عليها المشروع النهضوي العرب.

وهكذا، فإنّ المراحل المقبلة من حياتنا العربية تتطلب منا جميعا الكثير والكثير، فمسؤولية التحديث والحداثة ليست مسؤولية الدولة وحدها بل مسؤولية الدولة والمواطنين في وقت واحد، والمرأة والرجل دون تمييز ولا أفضلية، فهي مسؤولية مجتمع يحتاج إلى تغيير في المفاهيم الاجتماعية، وتطوير للقيم السلوكية، وإصلاح للممارسة السياسية، وتثوير للمجالات العلمية والثقافية والإعلامية . إنّ المستقبل يدعونا إليه، ويدفعنا نحو آفاق تطوره التي لا حدود لتقدمها، ولا سبيل أمامنا سوى أن نستجيب إلى نداء المستقبل، فالمستقبل هو الحياة الواعدة والنكوص عنها جريمة لا يمكن أن يقترفها عاقل في زمن تغيّر كل شيء فيه .

وفي هذا السياق، نطرح الأسئلة الآتية : هل تطور أي مجتمع من المجتمعات يمكن أن يحصل من دون تأثيرات خارجية ؟ وبين عجز الحكومات العربية والحلول الأمريكية الفوقية هل من طريق ثالثة ؟ هل من طريق عربية للإصلاح والحداثة ؟

في كل الأحوال، يجب أن نعترف بأنّ دول المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى التطور في اتجاه ديمقراطي حقيقي . لكن لابد من التأكيد، في الوقت نفسه، على أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد وصفة مستوردة من الخارج طبقا للمواصفات الأمريكية، وإنما هي – أساسا – فعل محلي داخلي وطني وتفاعلات ونضالات شعبية . إذ يبدو واضحا أنّ المسألة الديمقراطية في نظر الولايات المتحدة الأمريكية هي عبارة عن ” أداة ” من أدوات السياسة الخارجية، فمثلما تستخدم المعونات في دعم الأنظمة والدول من أجل خدمة مصالحها كذلك تستخدم هذا الشعار تبعا لمدى قرب أو بعد النظام المعني من السياسة والمصالح الأمريكية، إذن نحن أمام حالة تتعلق بالمصالح والاستراتيجيات الأمريكية.

باختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية : استقلال الوطن وحرية المواطن والإنسان، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان، بل كأفضل شرط لتحقيقها . فبكل بساطة لا يمكن للشعوب أن تدافع عن سلطات دول تجوّعها وتحاصرها وتساومها حتى على حقها في مناقشة الشؤون العامة .

ولكن، فلنجرؤ على توكيد وجود أخلاقية كونية، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه الأخلاقية نموذجا غربيا، بل إنها ميزة إنسانية . وهي ميزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات . لذا يجب علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نعمل على حمايتها وإحيائها وأن نكون على مستوى قيمتها الكونية . والتوكيد على هذه الكونية يعني التشديد على التضامن الذي يوحد كل الناس، كما يعني البحث في كل ثقافة عن تعبيرات مثال أعلى مشترك، ويعني الإقرار بأنّ الحقيقة يمكن أن تعبر عن نفسها بعدد لا متناهٍ من اللغات . ليس ثمة أي تناقض بين الأخلاقية الكونية وتنوع الثقافات، لأنّ احترام هذا التنوع هو من صلب هذه الإنسانية التي ننادي بها ونتمناها.

إنّ انخراط العرب في العالم المعاصر يتطلب منهم البحث عن مضمون جديد لحركتهم القومية التحررية، بما يؤهلهم لـ “التكيّف الإيجاب ” مع معطيات هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي عليهم أن يدفعوها نتيجة فواتهم التاريخي،  لريثما تتوفر شروط عامة للتحرر في المستقبل . فالعرب ليسوا المبدأ والمركز والغاية والنهاية، هم أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن ينعزلوا عن تأثيرات وتطورات العالم الذي يعيشون فيه.

ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فمسألة التقدم العربي تستدعي مقولات جديدة : المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة . وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذ بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث، فماضينا مازال ملقى على هامش حاضرنا، بل يهدد مستقبلنا .

تونس في 4/12/2004                      الدكتور عبدالله تركماني

                                        كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

(*) – في الأصل ورقة قدمت – بالنيابة – في إطار الندوة التي أشرفت عليها ” مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية ” في المركز الثقافي العربي بمخيم اليرموك – دمشق في الفترة ما بين 6 و 9 ديسمبر/كانون الأول 2004 ضمن محور ” معوّقات الحداثة العربية والقضية الفلسطينية”.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial