كلمة تأبين صادق جلال العظم بقلم كارستن فيلاند
يلقيها الدكتور كارستن ويلاند في مؤسسة ابن رشد للفكر الحر/ ومؤسسة صادق العظم للثقافة والتعليم في قاعة بلدية برلين الحمراء Rotes Rathaus بتاريخ 10 فبراير 2017
العزيزة إيمان، العزيزة سونيا، العزيز عمرو، أيها الأصدقاء الأعزاء،
هذا الحدث اليوم هو وداع شخصي جدا لصديقنا ورفيقنا صادق جلال العظم – طُلب مني إلقاء خطاب شخصي كصديق حميم. أما عن أعماله وكتاباته فيتولى أمرها المؤتمر الأكاديمي غداً في برلين بتفصيل أكثر. لذلك أنا لا أركّز هنا كثيرا على أعمال صادق الفكرية وهناك العديد من الشخصيات أكثر استعدادا هنا في هذه القاعة قادرون على فعل ذلك.
في هذه المناسبة، يجب أن أعترف هنا أنه على الرغم من دراستي للفلسفة وإيمانويل كانط في جامعة هومبولت في برلين، قرأت رسالة دكتوراه صادق عن نظرية كانط، عن مفهومه للزمن وكان أحد الكتب الممنوعة يُشترى في السوق السوداء في دمشق – ولم أفهمه مهما حاولت ذلك. وبالطبع زاد ذلك من احترامي للمؤلف. وعلى الرغم من أنني أصبتُ قليلا بخيبة أمل إزاء نفسي فإنه لجدير بالملاحظة أن ذلك لم.يكن ذات أهمية، لا بالنسبة له، لا بالنسبة لي، لأن معظم التبادل الفكري معه جرى شفويا، في المحادثات التي استمرت ساعات وطوال الليل، يتخللها الفكاهات الذكية والضحك والدفء الإنساني.
بدأت هذه المحادثات في عام 2001 في شقته في دمشق حيث وصلت رفوف الكتب المزدحمة حتى السقف المرتفع. أستاذ مشهور دوليا يعيش في شقة الطابق السفلي. وكان صديقاً لي قد أخذني معه في ذلك اليوم. بعد اجتماعنا الأول هذا بفترة حضرت زوجته إيمان الى شقتنا في منزل الطلبة العثماني القديم في باب توما وبدأت تجهز وجبة غذائية لنا. كانت هذه بداية لصداقة طويلة.
بضعة اشهر من هذا الوقت في ألمانيا أخبرني صادق وإيمان أنهما سيسافران إلى هانوفر لحضور احد المؤتمرات، وكنت أعمل صحفيا في ذلك الوقت بههانوفر. فسألاني إن كان بوسعهما الإقامة في شقتي. قلت أني سعيد بترحيبهما في الاستوديو الصغير الخاص بي تحت السقف، وسألت صادق إذا لم يكن لديه مشكلة في النوم على فراش على الأرض. لم يكن لديه مشكلة على الإطلاق.
طبيعة صادق البساطة والتواضع أعجبت جميع من حوله. تسمع من الطلاب في جامعة دمشق أنهم أحبوه بل وعشقوه لأنه عاملهم في شخصهم وأفكارهم على قدم المساواة. وقال إن العالم المادي لا يعني له شيئاً لأنه لم يشكل له تحديا فكريا. ولهذا أيضاً ترك وراءه تراثه العثماني النبيل على الوجه المعنوي وغالبا ما كان يتحدث مازحا عن قصر العظم في دمشق، مزحاً كان خاليا من أي مرارة أو غيرة.
أصبحت سيارته الرمادية القديمة – سيارة ستروين (2CV) – أسطورة في دمشق حيث كان على ضيوفه الجلوس على مقاعد بنك في الخلف. وكان يصفّها في جراجه على بعد أمتار قليلة من شقة الرئيس السوري. كان يستمتع بقيادة السيارة في هذا البخس على أربع عجلات ويستمتع عندما يستغرب الناس عليه ذلك. في دمشق لا يزال الحديث حتى اليوم حول حادثة وقعت معه. يوم دُعي صادق إلى مأدبة عشاء فاخرة للطبقة الراقية في مطعم “قصر النبلاء” . تقدّمت السيارات الكبيرة والمكلفة مثل المرسيدس، بي ام دابليو والسيارات رباعية الدفع SUV إلى المدخل الذي كان تحت مراقبة رجال الشرطة. وعندما اقترب صادق بسيارته الستروين 2 CV أوقفه الشرطي وقال له “هذه فقط للنبلاء”. ابتسم صادق في وجهه وقال له ضاحكا: أتعرف؟ أنا في الحقيقة الرجل النبيل الوحيد هنا”. وعندما عرف الشرطي أن الرجل الذي أمامه هو صادق جلال العظم سمح له على الفور بالمرور. لكن صادق اضطر أن يوقف السيارة في الخارج بقرب المدخل حتى لا تُعكَّر صفو الصورة السليمة لهذا المساء.
كما نعلم جميعا كان صادق يكره ربطات العنق والبدلات، وكان يفضل القمصان الغير رسمية من نمط مربعات كاروهات، وإذا لزم الأمر، فَسترة بسيطة. هكذا كان يذهب إلى المحاضرات، إلى الوزارة الخارجية لإجراء محادثات والى المناسبات العامة ولم يكن له في ذلك سوى استثناءات قليلة جدا مثلاً عندما حضر حفل جائزة إراسموس التي سُلمت له من قبل الملكة الهولندية أو عندما تلقى ميدالية غوته في فايمار في سبتمبر 2015 – الجائزة الأخيرة التي استلمها ضمن جوائز عديدة.
حتى انه حافظ على هدوءه عندما وجّهت إليه كل الاتهامات المنحازة في العالم بشكل غير مسبوق، باعتباره السوري العربي، الإرهابي المفترض، عندما كان ينوي السفر إلى كولومبيا، بلد المخدرات. وقال انه وإيمان لم يستطيعا اللحاق بموعد الطائرة بسبب الفحص الدقيق لهما من قبل ضباط الهجرة في الولايات المتحدة. لكنهما عادا في اليوم التالي وأخذا الطائرة التالية، وكان يحب ذكر هذه القصة نوعا ما كمثال كيف أصبح العالم مجنوناً بعد 11/9 . بالمناسبة، عندما جاء صادق لأول مرة إلى ألمانيا في عام 1955 – للمشاركة في برنامج إعادة الإعمار بعد الحرب في مانهايم – بالصدفة مسقط رأسي – لم يكن هناك حاجة لأي عربي إلى تأشيرة فيزا لألمانيا على الإطلاق. هكذا تغيّر العالم.
كان صادق أيضا مغامراً وقد استمتع بالزيارة الوحيدة لأمريكا اللاتينية، إلى كولومبيا في عام 2007، التي يبدو أن جهود السلام الأخيرة في حوز تحققها اليوم. عندما زار منطقة مزارع القهوة آنذاك لم يستمتع بالمناظر الطبيعية والخَضار الغض فحسب بل بجمال الناس الذين يعيشون في هذا البلد.
وفي بعض الأحيان كان يتساءل مع الضحك إذا كانت تلك الأجسام التي كان يراقبها حقا طبيعية أو معدّلة “وراثيا”. كان يحب تذكّر كلمة Whiskeria، ويستخدم الأسم لأماكن في كولومبيا وهي ليس لها أية علاقة بالويسكي – مع أنه مشروب كان يتمتع به أيضا، بطبيعة الحال – بل لها علاقة بمعصية بشرية أساسية اخرى.
Lebensfreude – بهجة الحياة كهبة من الحياة كانت تمثل جوهر طبيعة صادق العظم. هذا يضعه في خلاف جوهري مع المتعصبين الدينيين من جميع الألوان، وبصرف النظر عن تنافره الفكري الرفيع من أيديولوجيات ومعتقدات عالمية أخرى.
لم يكن لديه أوهام بشأن خطر الإيديولوجيات الدينية. ونحن نعلم أنه قد وصف الإسلام بأنه ظاهرة فولكلورية، وأنه متخلّف وغير قادر على النقد الذاتي. وكان صادق مقتنعا بأن الإسلاميين فقط يدعون للديمقراطية عندما يكونون في المعارضة ولكنهم يسعون جاهدين لإلغائها عندما يتقلّدون السلطة. لدينا اليوم المزيد من الأدلة على ذلك أكثر من الوقت الذي قال فيه ذلك.
وتوقع صادق أيضا في عام 2011 أن الربيع العربي إن لم يكن ناجحا في سوريا، فمن شأنه أن يسبب إراقة الدماء أكثر من من أي مكان آخر بسبب تركيبة المجتمع السوري الطائفية. كان المجتمع السوري الغني الفسيفسائي الموصوف بايجابية من قبل العديد من المؤرخين في خطر أن يقع ضحية تلاعب سياسي وفكري.
وها نحن هنا نقف اليوم إزاء المفارقة المريرة الأخيرة في حياة صادق أنّ وفاته تزامنت تقريبا بنفس الوقت مع الفظائع التي لا توصف ضد المدنيين في حلب وحولها، وتزامنت مع تخطي جميع أنواع الخطوط الحمراء المعروفة، وتزامنت أيضاً في نظر الضحايا مع نهاية النزعة الإنسانية في قرننا الذي دافع صادق عنه بشدة ، وذلك بخرق القانون الإنساني والدولي لحد أنه أصبح من الضروري إعادة كتابته بعد هذه الحرب – أو الحروب – في سوريا. أحد المفكرين السوريين في دبي قال لي في شهر ديسمبر كانون الاول، مؤشراً إلى التطورات في الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط: “لقد فشل المشروع الليبرالي الغربي”.
في هذا الوقت بالذات كنا بحاجة الى صوت صادق أكثر من أي وقت مضى – دعامة من اليقين في دوامة من الغضب والتوجهات المعادية لليبرالية، شخصٍ مناسبٍ يمنحنا الشجاعة بسبب ايمانه الراسخ (العميق) بالعقل البشري والتقدم للبشرية، على الرغم من كل شيء.
أحد الجمل المفهومة القليلة التي سمعتها منه وهو يتمتمها في المستشفى بعد عملية جراحية في الدماغ قبل فترة وجيزة من وفاته، هي: “ذهبت الثورة هباء، وأنا ذاهب هباء أيضاً”. كدنا أن نبكي عندما سمعنا ذلك. فقد ربط صادق مصيره حتى اللحظة الأخيرة بمصير العديد من السوريين كانوا في أوقات الاحتجاجات السلمية الاولى منذ ما يقرب من ست سنوات يأملون في الاقتراب من قيم الحرية والكرامة والاستقلال الشخصي والديمقراطية والبعض كان يأمل بتحقيق العلمانية أيضا؛ تلك القيم التي قد يسميها البعض أوروبية أو غربية، ولكن صادق كان مقتنعا، بأن تلك القيم على وجه التحديد لا ترتبط بأي من الجغرافيا أو الثقافة ولكن يمكن ايجادها في أي مكان أيضا في العالم العربي وكان صادق جلال العظم بشخصه وتصرفه برهاناً لذلك. تجسدت تلك القيم في شخص صادق جلال العظم – كما لم تكن إلا في قليل من الاشخاص الآخرين – بشكل جذري، لا هوادة فيه وبأرقى الأشكال.
لم يكن صادق جلال العظم ليتوقع أبدا في أسوأ ساعات حياته كرجل شاب فخور، مثقف ذات نفوذ والذي كان طوال حياته يواجه عدداً كبيراً من النقاد الخطيرين وانتقادات الاسلامين أو أشباه الاسلامين، أنه – وهو من سلالة عائلة عثمانية نبيلة ومفكر محترم على نطاق العالم – سيمضي سنواته الأخيرة كلاجئ سياسي، مثل العديد من السوريين المثقفين الناجحين من معارفه. أنهم جميعا يشكلون المجتمع الفكري في الشتات وهم إثراء لمجتمعاتنا بينما يُفتقدون أشد الافتقاد في المجتمع السوري في الداخل الذي في أمس الحاجة إليهم. ولم يختارا هو وزوجته إيمان طلب اللجوء في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، حيث أنجز صادق أجزاء كبيرة من التعلم والتعليم ولكن في ألمانيا – أقرب إلى وطنه سوريا وفي مهد الفكر الفلسفي حيث خرج منها العديد من المفكرين كان قد تناولهم في أبحاثه في حياته، وليس أقلها كارل ماركس، هيغل وكانط.
عزيزي صادق، كونك ملحداً كما أشرت بنفسك، لا أستطيع أن أتمنى لك ببساطة “لترقد روحك في سلام!” ولكننا نعلم أيضا أنك كنت دائما رجلا عمليا أيضا. لذلك دعنا نتفق على حل وسط ونساعد أنفسنا بمفهوم الالحاد الأغنوستية “المحايد الديني”. وهكذا أتمنى لك ولنا: “أن تعيش أفكارك في عقول الغير من البشر إلى الأبد لتمنحنا الشجاعة. أتمنى أن ترقد روحك وأرواح الكثير من السوريين الآخرين بسلام”
شكرا!
ترجمة د. نبيل بشناق