صدر عن دار الحضارة للنشر. القاهرة 2013يضم الكتاب مقدمة وست فصول والفصل السادس عبارة عن خاتمة.
جاء في المقدمة: “مازال البحث عن معنى متفق عليه للديمقراطية يشغل الجميع في أنحاء العالم.ويحدد بعض المعايير التي يجب أن تُستوفى كشرط لتحقيقها مثل ضمان الحقوق الأساسية ، الحرية العامة والفردية، المسؤولية الأخلاقية ، المساواة في الحقوق والواجبات ،الانتخابات التي ينتج عنها حكم. فالديمقراطية صارت مبداً انسانياً عاماً والحديث عن الخصوصية الثقافية ، مجرد لغو لا يسنده منطق أو عقل . ويواصل د. حيدر “تكاد تكون الديمقراطية السودانية قد خلت من المعايير المطلوبة والمرغوبة ، عدا حق التصويت وطقوسية الانتخابات ويطلق عليها البرلمانية السودانية”.
يواجه أي باحث في الديمقراطية السودانية اِشكالية غياب مرتكزات فكرية واضحة لدى السياسيين الرواد ، فقد اهتموا عموماً ، بالدمقراطية العملية وممارستها ، ولم يهتموا بالكتابة والتنظير.
وقد اتسمت الفترات الديمقراطية بالعجز والانشغال بالصراعات الحزبية الضيقة ،مما أدى لدمغ الديمقراطية بالفشل. وتواجه التجربة الديمقراطية السودانية عدداً من المشكلات والتي تحولت اِلى معضلات وأزمات ومن أهمها وأكثرها تأثيراً:
– علاقة الدين بالسياسة والدولة.
– دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية .
– قضية الوحدة الوطنية والتكامل القومي.
– الفشل التنموي والأزمة الاقتصادية
في الفصل الأول بعنوان: الديمقراطية في الفكر السياسي السوداني، البدايات والنشأة.
بعد أن أكمل البريطانيون عملية اِعادة احتلال السودان بنجاح، عملوا على بناء الثقة مع القيادات التقليدية السودانية .وسعت لتحييدها أو كسبها للمعسكر المضاد لتركيا وألمانيا في الحرب العالمية الأولى وتم لهم النجاح في الحالتين والولاء التام للمستعمر والابتعاد عن مصر والذي تؤكده الخطابات المتبادلة بين البريطانيين والسيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي .وتم تسويق ذلك اعلامياً عن طريق صحيفة الحضارة أو (حضارة السودان).
لم تعد (الحضارة) والزعماء التقليديون هم المتحدثون الشرعيون باسم الشعب السوداني، كما أوحوا للبريطانيين. فجاء تأسيس نادى الخريجين (1918) ثم “جمعية الاتحاد السوداني” كتنظيم سري. تم تأسيس “جمعية اللواء الأبيض” عام 1924 التي كانت علنية. ثم ثورة 1924 وهى ثورة سياسية بدون أي غطاء فكري أو أيديولوجي واضح. ورغم هزيمة الانتفاضة الا أنها جاءت ببذور الفكر السياسي الأولى واتجاه الخريجون نحو أفكار جديدة ومنابر مبتكرة. فكانت الصحف والمجلات الثقافية ” السودان والفجر والنهضة ” وجماعات القراءة لهذه الاِصدارات . تصارعت هذه المجموعة فكرياً ولكن لم تكن الديمقراطية هي القضية الأولى، فقد دارت معاركهم الفكرية (كمعسكرين متواجهين – الأبروفيون و جماعة الموردة – الهاشماب – الفجر) حول الهُوية أو الذاتية، أو القومية السودانية. وكانت الخلافات العقائدية بين الجماعتين مسألة لفظية أكثر منها مبدئية. أما دور الصحف الثقافية، فقد ارتفعت أصوات متقدمة في فكرها وساعدت في تكوين جيل جديد حمل على عاتقه مهام مرحلة صعود الحركة الوطنية كمثال (عرفات محمد عبد الله ) والذي برز كداعية للتجديد والنهضة وبدور المثقف ومسؤوليته في بلد مثل السودان . اعطى الإنجليز الاِدارة الأهلية دفعة قوية وسلطات لرؤساء القبائل والشيوخ ويشمل المجالس القبلية والمجالس الاِقليمية . وهذه هي المعركة التي انتهت بقيام مؤتمر الخريجين (1938) حول من يمثل الشعب السوداني ؟ القبلية أم القومية مما تعني معركة خفية بين حكومة السودان من جهة، وبين الجيل الجديد من جهة أخرى. كانت هذه البدايات الحقيقية للصراع المستمر حتى اليوم بين الحداثة والتغيير من جهة، والتقليدية والمحافظة من جهة أخرى. كان الفكر الديمقراطي لدي الخريجين عاماً وليس عميقاً، اِذ لم تظهر لهم كتابات أو مساهمات محددة بالفكرة وتاريخها وتحليل تجاربها . ويمكن القول أنه رغم ضمور المساهمة الفكرية للخريجين في قضية الديمقراطية من خلال الكتابة، والتأليف، والحوارات، اِلا أن العمل والنشاط الفعلي في المؤتمر مثل تمرينا وتدريبا على الديمقراطية . وكانت نتيجة هذا المسار غلبة البراغماتية أو العملية – النفعية على طبيعة “الديمقراطية السودانية” وهكذا غابت الرغبة في البحث عن فلسفة الديمقراطية، وعن كونها ثقافة ، وطريقة حياة، ورؤية للكون.
الفصل الثاني “تطور اتجاهات الفكر السوداني”
في هذا الفصل وهو الأطول (106 صفحة) سرد أو مسح لتاريخ وتطور الأحزاب السودانية والتعرض ومناقشة أفكار بعض الرواد. ويستهل الفصل بمدخل:”اهتم بعض المثقفين السودانيين بتناول موضوع الديمقراطية والحرية من زوايا سياسية وثقافية، ولكن كان ينقص هذه المساهمات المواصلة والتراكم…والعطاء الفكري والنظري اللازم لتحويلها اِلى ثقافة، واِخراجها من الأداتية”.
ومن جيل الرواد يبدأ بأحمد خير وهو من أهم المؤسسين لمؤتمر الخريجين ويتميز بالكتابة والتوثيق . ويرى حيدر أن أفكار أحمد خير حول العلاقة مع الطائفية مازالت معاصرة وراهنة، وهو أول مثقف سوداني تنويري يعادى الطائفية وكانت لديه رؤية فكرية ثاقبة لدور الطائفية السالب في الحياة الفكرية والسياسية، وفي مستقبل السودان. وكانت مفاهيم التغيير والتداول هي التي تحكم اِيمانه بالديمقراطية باعتبارها ضمانات واقية من الدكتاتورية. ويُصنف أحمد خير كديمقراطي سوداني ويشير الى قوله
“اِقامة صرح الديمقراطية الصحيحة …حرية القول للجميع حرية الفكر والعقيدة وتضمن اِتاحة الفرصة للمواطنين بالقسطاس .” وتصور أن هذا الكتاب (المقصود كفاح جيل) الصادر عام 1948م يطالب بحق المواطنة والوحدة الوطنية، والتي مازلنا حتى اليوم نتلعثم في نطقها. ولكن المشروع التنويري الذي تبناه أحمد خير انتهى بدوره مبكراً، وبصورة مأسوية، كما يقول حيدر ، لأن النتائج لم تكن تشبه المقدمات .فقد وجد داعية الحرية، ومنافح الزعامات الدينية والطائفية والقبلية ،نفسه جزءاً أساسياً في نظام دكتاتوري شديد التخلف . (يقصد مشاركة أحمد خير كوزير خارجية في حكومة الانقلاب العسكري الأول بقيادة الجنرال اِبراهيم عبود عام 1958)
ويناقش حيدر أفكار ومواقف محمد أحمد محجوب السياسية وهو من أهم رموز مثقفي حقبة ثلاثينيات القرن الماضي، والتي يطلق عليها البعض تسمية عصر النهضة السوداني .”وقد كان (المحجوب) غزير الاِنتاج، وعميقاً، ومبدعاً، ومتعدد المواهب. وهذا ما جعله عصىّ على التصنيف، فهو رومانسي في الأدب، تنويري في الفكر، ليبرالي في السياسة، اِنساني أو عالمي الرؤية .ومن الواضح أن مزاج الشاعر – الفنان يغلب على صرامة المفكر أو حتى واقعية السياسي”
التقى (المحجوب) مع الاِدارة البريطانية في موضوع تطوير الحكومة المحلية مع اختلاف الهدف .اتفق الاثنان على عدم قدرة الاِدارة الأهلية على تطبيق اللامركزية بطريقة فعالة ومفيدة .ويؤكد اِيمانه بصلاحية اللامركزية في حكم السودان عن طريق المجالس المحلية وليس عن طريق الاِدارات الأهلية.
تتضح مواقف (المحجوب) العملية من الديمقراطية حين وجد نفسه في قلب العمل السياسي وعلى قمة السلطة التنفيذية. وكان عليه أن يقبل بالحزبية وقد فعل ولكنه قام بنقد ما أسماه التركيب القبلي للأحزاب، والذي بسببه كانت الأغلبية المطلقة غائبة وكان لابد من عقد الائتلافات .وهو رافض بحسم لتدخل الجيش في السياسة ويحمل السياسيين والشعب مسؤولية قيام الانقلابات في السودان .اتخذ (المحجوب) موقفاً متقدماً في موضوع الدستور الدائم .ويرى ان المجادلة الكبرى حول الدستور” بأنها معركة عقيمة. كان يجب الا يقوم جدل على اِسلامية الدستور أو علمانية.كان بوسع السودانيين أن يحصلوا على دستور دونما حاجة اِلى دعوته دستوراً اِسلامياً، ويتابعوا ممارستهم للإيمان الاِسلامي ويستفيدوا من التسامح المجسد في تعاليمه. لأن ذلك يسمح لنا بامتلاك دستور دائم من دون مشاكل”
فشل (المحجوب) كما يقول حيدر ،في أهم اختبار عملي لديمقراطيته وقبوله للآخر المختلف في الموقف من حل الحزب الشيوعي السوداني وموقفه المؤيد للحل ثم طرد النواب الشيوعيين من البرلمان رغم أنهم منتخبون حسب قواعد اللعبة الليبرالية التي ارتضوها. ويواصل حيدر” لم تكن خاتمة (المحجوب) بأفضل من (أحمد خير) رغم اختلاف المسارات .فقد انتهى بعضوية حزب الأمة جناح الاِمام الهادي، وهو الناقد القاسي للطائفية، ويحملها كل مشكلات ومآسي السودان” .
ثم يتطرق الكاتب للشيخ علي عبدالرحمن الأمين الضرير وهو من الشخصيات الاتحادية الرائدة ومن قيادات الختمية . ويقول عن نفسه “فأنا رجل عربي الاتجاه وقد سيطر هذا الاتجاه العربي المتحرر على كل تصرفاتي في المجال السياسي…كما أنني رجل اشتراكي مؤمن بهذا السلوك الاشتراكي منذ سني الدراسة … وتفهمي لروح الإسلام وفلسفته أن الاشتراكية هي الحياة التي يدعو لها الإسلام”.
ويكتب حيدر “يكشف هذا الموقف المعلن من الشيخ علي عبدالرحمن أن كثيراً من السياسيين السودانيين حاولوا تمرير أفكارهم من خلال أحزاب طائفية لا تسع طبيعتها المحافظة لهذه الأفكار الجديدة .وهذه علاقة لا تخلو من انتهازية، فالمثقفون السودانيون عجزوا عن تكوين قواعد جماهيرية واسعة لأفكارهم بطرائقهم الخاصة.لذلك يلجئون لتهريب أفكارهم من خلال أحزاب طائفية تتعارض في جوهرها مع مضمون تلك الأفكار. ومن هذا الفهم، لم يكن غريبا، أن يعمل داخل نظام ديمقراطي بينما يظل عقله متعاطفا مع العمل الانقلابي.( مساندته للدكتاتورية الأولى “ومذكرة كرام المواطنين” تأييدا للفريق عبود) كما أيد انقلاب النميري بلا تحفظ.
بعد عرضه لبعض الشخصيات السياسية الرائدة ،يتجه حيدر الى الأحزاب السياسية ،ويقول “من الواضح أن الأحزاب السياسية السودانية لم تنشأ نتيجة ضرورات فكرية واجتماعية تتحدد في أيدولوجيات متماسكة في رؤاها الفكرية والفلسفية، ويرى أن نظام التعليم كان له أثره في تكوين الخريجين الذين يميلون للتناول العملي (البرجماتي). وبسبب العلاقة مع الزعامات القبلية بالإضافة الى دور الطائفية، أضاع السودان فرصة قيام أحزاب حديثة – اِلا فيما ندر- قائمة على الأفكار والبرامج ،وتمارس الديمقراطية الداخلية في اختيار قياداتها وكوادرها وتسيير شؤونها الداخلية.
يرى أن مجموعة ( الأشقاء ) كانت من أوائل الكيانات السياسية المنظمة، اِن لم تكن أول المجموعات.
ويكتب أحمد خير في هذا الصدد قائلا: “بدأ تكوين الأشقاء الحزبي يتبلور منذ 1944… ونشوء الأشقاء كحزب سياسي جاء تلقائيا بحتا فخالفوا بذلك المجرى الذي سارت عليه الأحزاب الأخرى التي تطورت من مدارس فكرية أو جماعات قديمة معروفة” وهذا ما يشير اليه أيضا حيدر بقوله “لم يكن الأشقاء أصحاب ايدلوجية واضحة أو أفكار سياسية مبتكرة، بل يبدو أنهم قد تبنوا برنامج مؤتمر الخريجين بكل عمومياته . ويرى أحمد خير بحصافته وصراحته “امتاز قادة الأشقاء حتى الآن بالتوفيق بين نزعتين متناقضتين : النزعة الديماغوجية وتتمثل في مقدرتهم على كسب قوة جماهيرية .والثانية نزعة دكتاتورية تتمثل في انفراد القيادة برسم الخط السياسي وتنفيذه”
أما حزب الاتحاديين الذي ينسب مؤسسوه أنفسهم الى “الأبروفيين” وهم جماعة جمع بينهم الأدب والسياسة والجوار والصداقة (خضر حمد أحد الرواد) اِن الفكرة الأساسية لدى الاتحاديين هي “قيام حكومة سودانية ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر .تمسك الاتحاديون بمبدأ رفض الطائفية بصورة قاطعة تختلف عن مهادنات كثير من الخريجين ، رغم أن كثيراً منهم ينحدر من عائلات ختمية.
اما الحزب الوطني الاتحادي الذي تكون بعد أن عرفت الحركة الاتحادية عددا من الكيانات السياسية التي تم توحيدها بجهود محمد نجيب عقب نجاح الثورة المصرية في يوليو 1952 . جمع الحزب كما يكتب حيدر كثيرا من المتناقضات بسبب العجلة في التكوين وتدخل الختمية والسيد علي الميرغني في كل قرارات الحزب وفق مصالحه الخاصة، وكان لا مفر من الانشقاقات التي عرفت بها الحياة الحزبية . وقد شكلت هذه النشأة المضطربة خط تطور الديمقراطية حتى اليوم.
تأسس حزب الأمة في فبراير 1945 كأول حزب سياسي في البلد من جماعة من الخرجين تتعاون مع السيد عبد الرحمن المهدي. وكان شعاره (السودان للسودانيين) والاستقلال عن كل من مصر وبريطانيا. تعرض حزب الأمة عند ظهوره لهجوم عنيف، وزاد من حدته قدرات الاتحاديين الدعائية، وغلبة فكرة الاتحاد مع مصر، خاصة وأن الموقف المضاد لمصر يعني التقارب أو التحالف مع البريطانيين. وتحولت التهمة بعد الاستقلال من التعاون مع المستعمر اِلى معاداة الديمقراطية.
– حوادث أول مارس 1954
– تسليم السلطة لعبود 17.نوفمبر .1958
– استعراض القوة لإسقاط حكومة أكتوبر 1964
– واجهوا نظام مايو بالسلاح عام 1970
– شاركوا مع عناصر الجبهة الوطنية في الهجوم على الخرطوم عام 1976
برزت الميول الديمقراطية للحزب ،بصورة واضحة في كتابات ونشاطات الصادق المهدي وتبلور هذا الاتجاه – تاريخيا- بعد انتفاضة أبريل 1985 ، ثم بعد الانقلاب الاِسلاموي في عام 1989.
ويرى حيدر بأن الصادق المهدي هو الاستثناء الوحيد في الأحزاب الكبيرة والذي يحاول ويجتهد في توثيق وتأصيل السياسي فكرياً ولكن الصادق يميل اِلى الكتابة الكونية ويشير اِلى كتاب الصادق ” الديمقراطية في السودان: عائدة وراجحة”، فهو على العكس تماماً يخلو من أي تنظير للديمقراطية السودانية.
وفي عرضه للحزب الشيوعي السوداني، يرى الكاتب بأن مواقف الشيوعيين النظرية والعملية من الديمقراطية تتسم بقدر كبير من التعقيد والاهتزازات. كان الشيوعيون يبحثون عن الطريقة المثلى لتحقيق التغيير أو مهمة المضي نحو الاشتراكية أو طريق التطور اللارأسمالي ،ضمن قوانين لعبة الديمقراطية الليبرالية . وهم من الواضح يتعاملون مع الديموقراطية الليبرالية أو التعددية كأداة خلافا لليبرالي مثلا والذي يرى فيها غاية وهدفا وأيضا أداة ووسيلة للتغيير. ولكن يشير حيدر في فقرة أخرى بأن الحزب الشيوعي انحاز ضمنيا أو بقرائن الأحوال لخيار الديمقراطية الليبرالية ولا تجد في أدبيات الحزب ما يؤكد نظريا وفكريا هذا الانحياز.
ويتتبع حيدر تطور أفكار ومواقف الحزب الشيوعي منذ حقبة الاستقلال وحتى الوقت الحاضر، بما فيها من نجاحات واخفاقات .مثل الخطأ الاستراتيجي بمعارضة اتفاقية الحكم الذاتي عام 1954 .والموقف الرافض أو المتحفظ من مسألة وحدة اليسار والقوى الثورية وكذلك الموقف العدائي تجاه الحزب الوطني الاتحادي، ويرى البعض أن هذا الوقف دفع حزب الأزهري اِلى اليمين ومعاداة الشيوعية.
ويكتب حيدر في قضية الديمقراطية ونقائص التطبيق بأن الأحزاب الحديثة تعاني من مشكلات طموح برامجها وتخلف الواقع بصورة تكاد تصيبها بالإحباط وتوقعها في كثير من الأخطاء .فالحزب الشيوعي مثلا يطرح برنامجاً جيداً للغاية في رؤيته ولكن آليات التنفيذ عصية على التحقق في ظروف السودان .وكانت نتيجة هذا الخلل الدخول في معارك وصراعات أضرت بالتجربة الديمقراطية الناشئة وقادت لاستقطاب حاد بين قوى حديثة وتقليدية أو رجعية وتقدمية .كما اختزلت النخبة السياسية وبالذات التقليدية الديمقراطية في صندوق الانتخابات والبرلمان وتعدد الأحزاب، وحرية نسبية للصحف . أما فلسفة الديمقراطية ممثلة في قيم الحريات والحقوق، فلم يكن من الممكن تبنيها بطريقة مطلقة في مجتمع تقليدي ومتخلف مثل السودان.
وفي عرضه لحزب البعث وتيارات الوحدة العربية يستهل الفقرة قائلا: “كان لابد أن يتأثر السودان حسب موقعه الجغرافي، بصعود حركة المد القومي التي شملت المنطقة في خمسينيات القرن الماضي. وتزامن ذلك أيضا مع عنفوان الحركة الوطنية السودانية … وصار السودان ساحة لتنافس الآراء والأيدولوجيات والانتماءات الحزبية والتنظيمية المحلية والقادمة من الخارج”. ويتابع حيدر في تسلسل زمني منذ بداية التأسيس لنشاط بعثي منظم في السودان عام 1960. وظل التنظيم البعثي نشطا وسط الطلاب والنقابات وعلى وجه الخصوص نقابة المحامين السودانيين .ويذكر الوثيقة الهامة التي صدرت في مايو 1974 من حزب البعث العربي الاشتراكي/القطر السوداني” البعث وقضايا النضال الوطني في السودان”.
ثم انخراط الحزب في الحياة السياسية السودانية وشارك في تأسيس التجمع الوطني الديمقراطي وإعلان ميثاقه في أكتوبر1989. وقد أبدى الحزب خلال الفترة الراهنة من العمل المعارض، نشاطا فكريا ملحوظا جعل منه الحزب السوداني الأول في مجال الاِصدارات. ويشير في هذا الصدد اِلى اِسهامات الكاتبين السودانيين . عبدالعزيز حسين الصاوي (محمد بشير أحمد) ومحمد على جادين .ويسرد حيدر بكثير من الاسهاب ويثمن بإعجاب لافت آراء الكاتبين حول التجربة الديمقراطية والتنوع الثقافي في السودان والاِصلاح الحزبي واِصلاح النظام الانتخابي وأفكارهما الثاقبة والرصينة والمبتكرة حول الحداثة والتحديث واشكالية المجتمع المدني في السودان والاستنارة والتنوير.
وفي فيما يتعلق بحركة القوى السودانية الجديدة (حق) التي اُعلن تأسيسها رسمياً في لندن بتاريخ 28.يوليو 1995، يرى حيدر في الوثيقة الصادرة عن الحركة “المنطلقات الأساسية لبرنامج الحركة السودانية للديمقراطية والتقدم”، أن (حق) أعطت للديمقراطية أولوية متقدمة في المشروع النهضوي الشامل الذي تدعو اِليه الحركة. وفي هذه الحالة لا تعدو الديمقراطية مجرد أداة سياسية لتداول السلطة أو ضمانة لحق المشاركة، ولكن تتعدى ذلك لتمثل أداة تغيير شامل وفي نفس الوقت شرطاً للتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ” تنطلق (حق) في تحديدها للديمقراطية التي ينشدها الشعب السوداني من حقيقة أن الشعب حسم أمره منذ الاستقلال بخيار النظام البرلماني المنتخب كضرورة لتحقيق النهضة الوطنية … لا ترى (حق) في الانقلابات العسكرية دليلا على فشل الديمقراطية وعجز الأحزاب، بل تعتبر الانتفاضات الشعبية في النهاية دليلا على رفض الشعب السوداني للحكم العسكري مهما طال عمره. ومن أهم المستجدات التي ظهرت في الوثيقة ، تضمين مبادئ حقوق الاِنسان في أديباتها بصورة مباشرة وواضحة.
وفي الفصل الثالث “الاِسلام والديمقراطية” يقر حيدر بصعوبة الحديث عن موقف الاِسلامويين السودانيين بمعزل عن العلاقة مع الحركات الاِسلامية العربية وخاصة المصرية .وفي مفهوم الديمقراطية في العقل الاِسلاموي يرى حيدر بأن كلمة أو مفهوم ديمقراطية تختفي تماماً في كتابات الاِسلامويين وأحاديثهم المبكرة ،مما يعكس جيدا موقع الديمقراطية في فكرهم أو حجمها في خطابهم.” فالديمقراطية ليست مفهوما تراثيا له أصل في الفقه أو الفكر السياسي الاِسلامي القديم وحتى القرن التاسع عشر لم تظهر في كتابات المسلمين. فقد أهتم الفقهاء المسلمون المنشغلون بموضوعات السياسة والحكم، بقضية العدل أو العدالة وليس بالحرية أو الديمقراطية”. ويكتب بإسهاب عن الديمقراطية كمفهوم وفلسفة وآلية .ويربط ذلك بموقف الاِسلامويين منها ويشير الى مساهمة من يسمون بالمفكرين الاِسلاميين المستقلين أمثال فهمي هويدي وطارق البشري ومحمد عمارة وعادل حسين وسليم العوا ،في تجديد ملامح فكر الاِسلاميين السياسي منذ سبعينيات القرن الماضي. ولكن ما يهمنا في هذا العرض المختصر وجهة نظر الاِسلاميين السودانيين في قضية الديمقراطية وأيضا هنا بإيجاز شديد .حسب حيدر أجمل مؤرخ الحركة الاِسلامية السودانية (حسن مكي) القضية المحورية للاِسلامويين السودانيين في قوله ” دخلت الحركة الاِسلامية ،على الحياة العامة، من خلال الدستور الاِسلامي والشريعة الاِسلامية…”
ويرى حيدر أن الحركة اكتفت بهذا الشعار دون كبير حاجة للتنظير والتأمل…فتقاعسوا عن الاجتهاد في الوصول اِلى نظرية اِسلامية حديثة محورها الديمقراطية والحريات . ويفسر (مكي) هذا الموقف الهامشي – حسب تعبيره – في قضية الاِسلام ونظام الحكم” كانعكاس لأزمة فقدان الثقة في كل ما هو جديد .ويرى الأزمة تمتد جذورها اِلى القرن الثاني عشر الميلادي حينما تم اِغلاق باب الاجتهاد .ويصل اِلى اِستنتاج صائب يفسر اِهمال المسلمين لبحث قضايا حيوية مثل الديمقراطية أو قضايا الحكم والسلطة السياسية عموما ، تجنبا للتعرض لمثل هذه القضايا ذات العواقب الوخيمة، لأنها قد تدخل في دائرة المحرمات: التنازع أو التساؤل حول السلطة وشرعية ولي الأمر .وهنا يقر الكاتب (الكلام موصول لمكي) بأن حركة الدستور الاِسلامي لا تزال في حاجة لنقلها من الاِطار الجماهيري والقانوني اِلى الاِطار الفكري”.
ويقول حيدر، من جانب آخر أن (الشيخ حسن الترابي) يرفض في حقيقة أمره ،الديمقراطية من منظور تأصيلي فلسفي التوجه، أي انطلاقا من اختلاف الرؤية الاِسلامية للإنسان والكون عن الرؤية الغربية . فهو يرى في التعددية عموما مظهرا صراعيا يتميز به النموذج الغربي طوال تاريخه ، بينما الأصل في الاِسلام التوحيد والوحدانية …
ويتميز (الشيخ الترابي) حسب حيدر، بمهارته العالية في تطويع المبادئ لضرورات المواقف وليس اِخضاع الموقف لشرط المبادئ .لذلك تعددت مواقفه وتباينت بل وتناقضت تجاه الديمقراطية .ففي أوقات الديمقراطية تلين مواقفه وتعتدل، وحين يكون في السلطة أو قريبا منها يتشدد. كما يبدو مفهوم الأحزاب مشوشا – عمدا أم استخفافا – لديه فهو يخشى الاختلاف والحرية على وجه الخصوص ،ولكنه يخبئ كل ذلك، وراء لغة تتعمد أن تقول كثيرا ولكنها لا تقول شيئا مفيدا أو يمكن الاِمساك به .فهو يصر على خلق علاقة حتمية بين الحرية والبعد عن الدين، مما يجعل من الصعب تعايش الحرية في المنظومة التوحيدية الإسلامية.
يقول حيدر اتجه الشيخ الترابي نحو رفض الديمقراطية الليبرالية دون أن يعلن ذلك صراحة كعادته . وصار هو وأنصاره يتحدثون عن النظرية الثالثة ضمنا أو الطريق الثالث أو “الديمقراطية المباشرة” ثم زودهم بمصطلح”التوالي” الذي زاد الأمر جدلا وغموضا وفشلت كل محاولاته في شرح المفهوم والترويج له وجعله شعبيا .ويكتب الترابي تاريخا للفكر الاِسلامي يجعل فيه ” التوالي “أصل الحركة مع بقاء المصطلح غامضا . وهذه جرأة فكرية فائقة، أن تتحدث عن شيء بثقة دون أن تفصح للناس عما هو؟.
وعن الاِسلامويين بين المبدئية والبرجماتية (الذرائعية) يري حيدر أن عمليتي التوفيقية والتأصيل من أهم تجليات البرجماتية لدى الاِسلاميين. فهي محاولة لإيجاد نسب لأفكار سابقة وقديمة في واقع حديث من خلال اِعادة تفسيرها وتأويلها بقصد التكيف والملائمة ورفع التناقضات. ويعتبر اِزالة الحرج العقدي والفكري عن مفهوم الديمقراطية واِقرار عدم تناقضها مع الشورى، بل وإمكانية تبادلية الاستخدام والفهم بلا عقبات، من أوضح تجليات البرجماتية.
دخل الاِسلامويون في جدال حول قضية دينية أم مدنية الدولة، وتظهر أقوى محاولات التوفيق والبرجماتية لتحديد نوع دولتهم القادمة وتراجع المطالبة بالخلافة (عدا حزب التحرير). والحديث حول الدولة الوطنية يمثل خطوة متقدمة لدى الاِسلاميين ولم تصمد برجماتية الترابي حين وصل الاِسلاميون اِلى السلطة في السودان أمام الواقع رغم التنازلات المبدئية ولكنها لم تستطع اِقامة دولة ناجحة اِسلامية أو غير اِسلامية. فالحركات الاِسلامية لم يعد لديها أي مشروع خاص تقدمه كنموذج للدولة الاِسلامية. فالحركة الاِسلامية في السودان بحكم رؤيتها الدينية وأصول عضويتها الاجتماعية والطبقية وطريقة تنظيمها أي العلاقات الحزبية تعجز عن تأسيس دولة وطنية قوية باعتبارها الوسيلة لتحقيق شروط النهضة لأنها في جوهرها دولة دينية ،والدولة الدينية لا تقوم على حق المواطنة، ولا تضم كل المواطنين بل تقصي الكثيرين من غير المسلمين .ويشير حيدر اِلى اجتهادات أحد منظري النظام، التيجاني عبدالقادر بتقديمه نموذجا مثاليا عن السؤال : كيف تستطيع طليعة اِسلامية ما أن تدير دولة حديثة؟
ويعتبر حيدر أن موقف حزب التحرير من الديمقراطية، هو الموقف الأصولي والأصيل لكل فصائل الاِسلام السياسي. ولكن الحزب هو الأكثر شجاعة وصراحة في التعبير عن فكره ومواقفه ولا يميل للتقية أو فقه الضرورة. فأدبيات الحزب تكرر رفضها القاطع والصريح لفكرة الديمقراطية فهي نظام كفر يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة اليها .وتقف جماعة أنصار السنة المحمدية موقفا قريبا من حزب التحرير وتدعو اِلى وجوب طاعة الحاكم وتحرم المعارضة السياسية.
ويواصل حيدر تصنيف القوي السياسية والفكرية داخل المنظومة الإسلامية ويقر بوجود اِسلامين ديمقراطيين وقال بأن الفكرالاِسلامي في السودان “عرف تيارات يمكن أن تدرج ضمن الليبرالية الاِسلامية. فهي تتبنى دعوة صريحة للحرية الفردية وحقوق الاِنسان الأساسية، والنظام البرلماني .ولكن هذه التيارات ظلت نخبوية ولم تحقق انتشار شعبي بسبب الميل المحافظ لدى غالبية الشعب السوداني” .و يري حيدر أن “الفكر الجمهوري يعطي للحرية قيمة عليا فهو يتوجه اِلى الاِنسان المجرد سعيا وراء الارتقاء بإنسانيته”.
ويقول حيدر “وعلى المستوى الشخصي تجدني معجبا بسلوك الجمهوريين في فترات معينة أكثر من أفكارهم المشوشة والمتسمة بالسيولة في القضايا السياسية .وهى ازمة التجديد الديني في السياق السوداني .ويعتبر (الجمهوريين) أكثر عمقا ونضجا وتأثيرا، من الحزب (الاشتراكي الاِسلامي) بقيادة بابكر كرار وميرغني النصري”.
في الفصل الرابع بعنوان: نظريات الحزب الواحد.
يبدا حيدر هذا الفصل باستشهاد للبروفيسور (حسن مكي) واصفا وضعية الديمقراطية والحرية في السودان. ويفسر حيدر هذا التوصيف لحسن مكي بأنه غياب للديمقراطية والشورى معا من كل أشكال الواقع السوداني :ماضيا وحاضرا. والكاتب (مكي) لا يستثني ما سمي بالقوة الحديثة وبالذات الفئات المتعلمة من غياب الديمقراطية فحتى الحزب الشيوعي لم ينج من مصيدة الدكتاتورية أو مركزية القرار ” مما عرضه للإنقسام والتآكل الداخلي، ويسر الانقضاض عليه وتحطيمه ” ويضيف : “والحركة الاِسلامية السودانية لم تجد حتى في واقع التاريخ الاِسلامي في فترة ما بعد الخلفاء، ما يعول عليه في قضية الشورى ( …) ومما زاد من حدة هذا المأزق التاريخي – الاجتماعي، أن حركة الإخوان نشأت في السودان الذي هو جزء من العالم الثالث ، تكتنفه الدكتاتوريات وتقوم فيه العلاقات السياسية على القهر والغلبة”. ويعلق حيدر مشيرا الي أن هذه الصورة تظهر ضمور قيمة الديمقراطية أو الشورى في مجمل الحياة السودانية … وبالتالي عرف التاريخ السياسي ثلاثة انقلابات ناجحة، تم استقبالها في البداية بالترحيب والقبول وفي أسوأ الأحوال باللامبالاة أو على الأقل بالانتظار. كان الانقلاب العسكري اختبارا مبكرا لمدى تمسك السودانيين بالديمقراطية؟
يقول حيدر “كان من المفروض أن تكون الحقبة التي تلت ثورة أكتوبر الشعبية هي أكثر فترات تاريخ السودانيين تمسكا بالديمقراطية. وذلك بسبب عظمة الثورة التي قاموا بها بالإضافة لتجربة ست سنوات من غياب الحريات .ولكن العكس تماما إذ كانت الفترة الديمقراطية الثانية من1965 حتى مايو 1969، واحدة من أسوأ مراحل الحياة السياسية السودانية”
ويكتب حيدر بأن انقلاب 25 مايو 1969 يعتبر نقطة تحول كارثية في تطور البلاد، حيث وضعت ما تسمى بالقوى الحديثة كل فكرها ومستقبلها في العسكر أو ما أسمتهم “التقدميين الثوريين”
وهنا يسرد حيدر مطولا تاريخ ومسار انقلاب مايو. وتشكيل التنظيم السياسي من لجان وتكوين الاتحاد الاشتراكي، ويشير أن أهم مظاهر الخلل في الاتحاد الاشتراكي هي أن العناصر الأكثر اِيمانا بالفكرة والقادرين على التنظير والكتابة ،هم الأقل احتكاكا بالجماهير وعملا وسطها .مثل منصور خالد وجعفر محمد على بخيت وأحمد عبدالحليم و أحمد المغربي وبدرالدين سليمان .وظل النميري يعتمد أكثر على الأجهزة الأمنية المتعددة وعلى اِفساد النخبة واِبتزازها. ولم يكن من المنطقي للنميري الذي ضرب الأنصار بالطائرات في الجزيرة أبا) في مارس 1970، وأقام المذابح للشيوعيين في يوليو 1971 وقضى على كل المؤامرات، أن يرضى بتقييد أو دستور أو مؤسسات .وقد أنتهى حلم ” الثورة الاِدارية ” بعد أن غادر عرابه جعفر بخيت الوزارة في عام 1975.
وفي هذا الفصل يفرد حيدر فقرة بعنوان العالمثالثية وعنف اللغة عند منصور خالد .والفقرة تحتوى على 22 صفحة يسرد فيها الكاتب آراء وأفكار وتحليلات منصور خالد .وحسب علمي ، أظن اِنها المرة الأولى التي يكتب فيها حيدر عن المفكر والكاتب المرموق منصور خالد.
“ينتمى منصور خالد في تناول الديمقراطية اِلى مدرسة فكر الأزمة ( الأزمولوجي ) أو علم الأزمة ويشير حيدر الي أن فكر منصور يقع في هذا التيار الفكري في فهمه ومواقفه من الديمقراطية. فقد اقتنع اقتناعا تاما بفشل التجارب الديمقراطية في السودان منذ الاستقلال، وهذا مظهر الأزمة. وهو يضع فشل الديمقراطية ضمن الأزمة الشاملة، وفي صميمها فشل النخبة. وقد كتب مبكرا: اِن السودان يعيش اليوم أزمة حضارية (…) أزمة تتبدى مظاهرها في القيادات. وتتبدى في المؤسسات. وتتبدى في القيم والأخلاق. ويكرر قوله بعد سنين: “… والأزمة السودانية في تقديرنا ليست أزمة حكم وأزمة هوية فحسب واِنما هي قبل هذا أزمة رؤية ” ويُرجع الأزمة اِلى التناقض بين مجتمع بدوي متخلف تحكمه دولة عصرية أو نريد لها أن تكون ذلك ومسؤولية الأحزاب التي ولدت في جو فكري عقيم .وفي حوار منصور مع (الأكتوبريين) الداعين للتغيير الاجتماعي الجذري ،يقر بأن محنة هؤلاء محنة مزدوجة (أزمة فكرية) واخرى (أزمة منهجية). ويحمل الصفوة وهى قليلة، المسؤولية التاريخية ويطلب منها حل اِشكالية ” كيف يمكن لنا التوفيق بين الدولة العصرية والمجتمع البدائي ” ويرى منصور أن ثورة 25 أكتوبر 1964 نقطة فاصلة في تاريخ السودان …فقد افتقدت الثورة القيادة الموحدة وافتقاد الجميع للرؤية المشتركة لقضايا السودان المحورية.
ويرى حيدر أن المدقق في كتابات منصور خلال تلك الفترة لا يجد لديه اِيمانا موحدا بالديمقراطية.
ويقرر منصور أن العقم الفكري أنتج الأحزاب دون استثناء – التقليدية والحديثة – التي كان من الطبيعي أن تنحرف وتصبح واجهات أو بديلات ممسوخة للطائفية والقبلية دون أن تأخذ شيئا واحدا من الجوانب الاِيجابية فيها . ويرى حيدر في هذا بعض مظاهر تأصيل منصور فهو يرى في الطائفية والقبلية اِيجابيات تتمثل في التكافل والتآزر الاجتماعي بين التابعين وخلقية القيادات. لا يرفض منصور الديمقراطية الليبرالية ولكنه يقع في فخ خطأ ترتيب الأولويات ، ويضع شروطا معطلة أو ملغية للديمقراطية في كل أشكالها حسب تفسير حيدر .وبسبب تحفظاته السابقة على الليبرالية ، انحاز لخيار الحزب الواحد .( اعجابا وتمجيدا لتجارب مصر ،الجزائر ، غانا في تلك الفترة ) ويكتب حيدر “يدخل منصور في مرافعة صعبة وعصية تتطلب جرأة وشجاعة فائقتين لتبرير ممارسات (نكروما) الدكتاتورية مهما كان نبل الغايات… وتكثر هجرات منصور السياسية والفكرية وقد يعتبرها البعض تذبذبا في الأفكار والمواقف. وقد يراها آخرون بحثا وقلقا فكريا مشروعا . وقد وصلت به الرحلة اِلى براغماتية تقبل الانضمام لحركة تحمل السلاح ، واِن لم يحمله شخصيا”.
يقول حيدر “يحتار المرء كثيرا في فهم تراثية وماضوية منصور وهل هي جزء أصيل في أصالة مبتغاة أم مجرد تنافس مع الأصوليين على التراث …فهو يكرر الحديث عن الأصالة والخصوصية وكأنه يزايد على الأصوليين”.
يرى حيدر أن كتابة منصور تتسم في كثير من الأحيان بكثافة اللغة على حساب الأفكار والأهم من ذلك، عنفها المفرط الذي يخرجه من حلم العلماء وهدوئهم.
ويختم حيدر هذه الفقرة الهامة بكلمات ،يظهر فيها احترامه وتقديره لمنصور . “هذه حسرة على فقدان ليبرالي محتمل وديمقراطي عميق ومتنوع الثقافة…وليس من مقاصدي الاِدانة والهجوم على المواقف وليس الأفكار . ولا أريد الاشتباك مع مواقفه السياسية الآنية، اِلا بقدار ما تضيء محطاته الفكرية”.
ويختم حيدر الفصل الرابع بفقرة قصيرة عن محمد أبو القاسم حاج حمد ،ويرى اِن فكرة المكون المتوسطي في الهوية أو الانتماء السوداني، والتي تتكرر كثيرا في كتابات أبو القاسم ويبني عليها نتائج عديدة؛ دون أن يكلف نفسه تعريف ما هي المتوسطية. هل هي مجرد تعبير جغرافي أم مفهوم حضاري ؟ ما هي الا اِحدى شطحاته والتي يعقبها شطح فكري آخر عندما يعقد مقارنة مدهشة ويوظف التاريخ بلا ضوابط بأن سقوط ( غرناطة ) في يد المسيحية الأوروبية قد قابله سقوط (سوبا) في الاِسلام العربي. وهكذا بدا الأمر تاريخيا وكأنما السودان هو الوجود المعارض للأندلس وكأنما اِفريقيا هي مسرح الصراع الجديد والبديل عن أوروبا.
الديمقراطية في التطبيق. هو عنوان الفصل الخامس. هو سرد وتتبع دقيق لمسار تطور الديمقراطية وتطبيقها من خلال الممارسات الانتخابية والبرلمانية، بدءاً من المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944- 1947) ثم الجمعية التشريعية (1948 – 1953) كبداية ومحطة وسطى في اتجاه الديمقراطية الليبرالية كما يقول بيتر وودوارد .ثم الانتخابات الأولى في نوفمبر 1953 في فترة الحكم الذاتي .أول انتخابات بعد الاستقلال عام 1957. وانقلاب عبود 17 نوفمبر 1958، والديمقراطية الثانية 1965- 1969 والديمقراطية الثالثة وانتكاسة ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل وحتى الوضع الراهن.
ويقول حيدر: “من الممكن القول أن القوي التقليدية التي حكمت عن طريق الانتخابات تعمدت تكريس الأمر الواقع، لكي تحافظ على مجموعات المصالح وعلى المؤسسات التي تمكنها من احتكار السلطة، ومنها البرلمان وأن النظام البرلماني في السودان لم ينجح في التعبير عن الواقع الاجتماعي/الاقتصادي، والتعدد الاِثني؛ وبالتالي لم يؤسس للبلاد مستقبلا ديمقراطيا”. ويرى حيدر أن قضية الوحدة الوطنية أو الاندماج القومي من أهم ضمانات الديمقراطية. شرط أن يتبع ذلك تنمية اقتصادية منتجة وعادلة في التوزيع ومتساوية. ويمكن اِرجاع كل إخفاقات التجربة الديمقراطية السودانية الى عجز النخب والقوى السياسية عموما ،عن حل معضلة الوحدة الوطنية”
والفصل السادس (الخاتمة) التحديات والمستقبل.
يكتب حيدر: “طبع النظام القبلي التاريخي ،الواقع السوداني بسمات انشقاقية وصراعية في العلاقات الاجتماعية مما أضعف اِمكانيات الثقافة السياسية الديمقراطية القائمة على قيم التسامح والاعتدال والمشاركة والتعاون والتكيف … وأن من أهم مقومات الديمقراطية اِعطاء الآخر حق الاختلاف …وأعتقد بأن النساء، الشيوعيين ،والمجموعات الهامشية أي غير العربية/اِسلامية ؛ كانوا باستمرار أصدق اختبار أو محك لمدى التسامح السوداني … أما الجنوبيون والدارفوريون والنوبة فقد لاحقتهم لعنة المواطن الأقل درجة طوال التاريخ المعاصر. لذلك، كانوا عرضة للموت المجاني سواء بالحرب أو الجوع أو الأوبئة والأمراض. ولم يظهر الشمالي المتسامح أي شفقة أو تضامن، وخير دليل على ذلك عدم خروج مظاهرة تحتج على مآسي دارفور. وللمفارقة تظاهر البعض تضامنا مع قطاع غزة!”.
ويختم حيدر كتابه “بدأ الاِسلامويون السودانيون ، وبعد كل هذه التجربة الكارثية المعادية للديمقراطية، البحت عن عودة جديدة ضمن مناخ ديمقراطي مستقبلي . ولذلك ترتفع بينهم هذه الآونة دعوات – قد تكون صادقة أو مجرد تبريرات أو استخفاف بالعقول – للمراجعة أو الاِصلاح أو التجديد. وتبدو هذه التراجعات التكتيكية وكأنها نقد ذاتي للفكرة ولكنها تتوقف عند اِلقاء اللوم على مجموعة أخرى أو شخص أو أشخاص بعينهم. مع أن منطق الأمور يقول باستحالة قيام دولة دينية في القرن الحادي والعشرين مهما كانت قدرات القيادات أو نواياهم”.
بعد هذا الاستعراض لمحتويات الكتاب أستطيع أن أقول أن الدكتور حيدر علي إبراهيم قدم دراسة نقدية ، توثيقية بالغة الأهمية، بذل فيه جهداً مقدراً .وهذا المقال هو فقط عرض مكثف ومختصر للكتاب (309 صفحة) بهدف الاِشارة والتنبيه، على أمل أن يقوم الكتاب والمثقفون السودانيون بمراجعته والاشتباك معه نقداً وتوجيهاً بما ورد فيه ،من أجل تعميم الفائدة .ومجموعة ” نيل هافل الثقافية البرلينية ” ستناقش الكتاب وبما ورد فيه من تحليلات وأحكام واستنتاجات الكاتب. وكذلك إيراده لاستشهادات من كتاب وباحثين مرموقين ، مع السؤال عن تعرض الكاتب لبعضهم بإسهاب وبعضهم باقتضاب مع تغييب أخرين.
ويثير عنوان الكتاب (الديمقراطية السودانية. المفهوم) التباسا للقارئ بمعني هل يوجد مفهوم متفق عليه عن الديمقراطية السودانية؟. وفضل الكاتب ترتيبا صعبا في عرض مصادره.
من المفرح أن يعود حيدر للكتابة واصدار الكتب بعد حالة الاحباط ، جراء غلق مركز الدراسات السودانية – أحد مراكز الاستنارة والتثقيف – الذي كان يديره في الخرطوم من قبل أجهزة الأمن، ونتمني أن تكون إقامته في القاهرة قصيرة ومؤقتة حتي يعود الي جمهوره ومواصلة رسالته من الخرطوم . فالوطن طارد لعلمائه ومثقفيه والنظام الحالي يجزع من الكلمة الصادقة والأمينة والهادفة والجريئة والمحرضة، التي تنشر الوعى وتدعو اِلى التأمل واعادة النظر في الثوابت ، التي لا تقود اِلى الكسل الفكري فحسب بل اِلى تحجيمه أو تكبيله .ورغم عودته القسرية الي القاهرة التي شهدت بداية نشاط مركزه، إلا أنه واصل عطاءه الفكري مشاركة وتأليفا وتعرض كتبه في المجلات الثقافية علي نطاق الوطن العربي مثل كتابه ” السودان والحكم الاٍسلامي وتحديات الدولة الحديثة “مجلة المستقبل العربي العدد 8/2013 .ويشارك بالكتابة، مثل مساهمته – في المجلد الضخم 1152 صفحة الصادر حديثاً عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان ” الأحزاب والحركات والتنظيمات القومية في الوطن العربي ” بثلاثة مقالات مكثفة (شروط التحرير) حزب البعث العربي في السودان والمنظمات الناصرية في السودان والاتجاهات العروبية والقومية في الأحزاب الوطنية السودانية.
وأذكر عندما التقيت حيدر في وقت سابق ،سألته ما جديدك؟ فقال ثلاثة كتب هديه للشعب السوداني .وقد كان، فقد صدرت الكتب تباعا وفي وقت قصير. والآن يصدر كتابه الجديد كهدية للعيد الثامن والخمسين لإستقلال السودان. هكذا طريقة حيدر في التعبير عن حبه واحترامه لوطنه السودان وشعبه.
تحية للكاتب والمفكر السوداني د. حيدر اِبراهيم علي وفي اِنتظار الوليد القادم.