تمر عدة بلدان عربية هذه الأيام بموجات من التحركات الاحتجاجية والمسارات الثورية والتي تعكس انفجار غضب متراكم لفئات عديدة من شعوبها على الحالة الاقتصادية والسياسية التي أوصلتها إليها القيادات السياسية والسلطات الحاكمة منذ عقود. وإن تنوعت أسباب وأشكال الاحتجاجات وأساليب التعبير عنها، إلا أنها تعبّر بشكل صريح، عن وصول الفئات الشعبية إلى مرحلة انتصرت فيها على ثقافة الخوف الكامنة في مشاعرها وممارساتها عبر الزمن وانتقلت إلى المطالبة بالحرية بشكل أكثر وعياً وأعمق تأصيلاً. ولقد بيّنت الأحداث الأخيرة التي جرت عن تطور الوعي الجمعي إلى ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مع القيام بإجراء الربط الصحيح مع العامل السياسي وخصوصاً، عامل القهر والقمع الذي يمس الحريات الأساسية.
وتعتبر حرية التعبير في الوطن العربي أولى ضحايا النظم السياسية المختلفة ويمكن اعتبارها القاسم المشترك لكل الدول الأعضاء في الجامعة العربية بنسب متفاوتة. والعلاقة مع حرية التعبير في الثقافة العربية تتجاوز الطبيعة التسلطية للنظم السياسية لتكون جزءاً هاماً من بنية المجتمعات التي تحكمها هذه النظم، وذلك بالاستناد إلى إرث ثقافي وديني واجتماعي متراكم من العادات والتقاليد. ويبدو إذاً أن الأمر هو أشد تعقيداً من مجرد كونه علاقة حاكم بمحكوم أو حزب شمولي بإرادة جماهيرية مقيدة كما كانت عليه الحال في دول المعسكر الشيوعي.
انطلاقاً من هذا المنطق، تتبدى المسألة أكثر تعقيداً وتشابكاً مما يؤسس لقيود على التعبير تتجاوز السياسي ولتمنحه “شرعية” ما من خلال تبني بعض المفاهيم الثقافية والدينية لبعض أبعاد القمع المرتبط بحرية التعبير.
ومنذ نيف ومائة عام، حاول التنويري السوري عبد الرحمن الكواكبي أن يتبصّر قواعد الاستبداد القامع للحريات بالمجمل ولحرية التعبير بالأخص. وما زالت اليوم صرخته المتألمة تتردد حاملة معها الكثير من الخيبة والأسف على سرعة دوران عجلة الزمن إلى الأمام، وتقهقر عجلة الحريات إلى الخلف. وهو الذي كان قد تمنى قبل وفاته، أن ينساه الناس بعد مرور بعض من الوقت لاقتناعه بأن صيرورة التطور البشري ستغير أساليبها السياسية و الفكرية نحو الأفضل ويتم بالتالي تجاوز الاستبداد بمختلف أشكاله إلى نوع متطور من الحياة العامة القائمة على ما أسماه بالديمقراطية الدستورية التي تحكم مختلف أوجه الحياة وتدفع بالمجتمعات إلى تطوير علمها و معارفها و مكتسباتها وتشكل الأساس للخروج من دائرة الانحطاط التي يحاول المستبد أن يحافظ على هيمنتها وهو الذي “يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم (…) فهو عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرية أمهم (…)”. ولم يرد في ذهن الكواكبي أن الاستبداد سيتمكن، وبعد عقود عديدة، من تطوير أدواته وأن يعيد انتاج ذاته على نحو أكثر صلابة ودموية، بحيث يتم استلهام آخر الابتكارات لزيادة الرقابة على المجتمعات و الحد من تطلعاتها إلى حياة أفضل وتعبير أقل تقييداً ويمارس الفتك بها إن هي عبرت عن الرغبة السلمية بالتحرر.
ولد عبد الرحمن الكواكبي في حلب عام 1854. و قد بدأ الكتابة شاباً محرراً في جريدة الفرات الرسمية ثم أنشأ جريدة الشهباء و هي أول جريدة عربية خاصة صدرت في حلب لتتوقف بعد خمسة عشر عدداً بأمر من الوالي العثماني. و في عام 1869 أنشأ جريدة اعتدال ليتم تعطيلها أيضاً من قبل الوالي لما احتوته من فكر تحرري ودعوات تحريضية ضد الاستبداد. وبعد أن ضاقت به سبل الحياة والتعبير في سوريا، وبعد أن أُلقي القبض عليه مراراً، غادر حلب سنة 1899 إلى مصر حيث استفاد من هامش محدود من حرية التعبير كانت تتمتع به وانفتاح نسبي على الثقافة الأوربية. ولقد عالج مسألة الاستبداد والحكم المطلق في كتاب “طبائع الاستبداد و مصارع الاستعباد”، و حاول أن يتخيل جامعة إسلامية قائمة على أسس حديثة تشبه إلى حد بعيد المنظمات الإقليمية الحالية وذلك من خلال مؤتمر يبحث حال المسلمين و دينهم، فكان كتابه الثاني “أم القرى”. وقد قتل مسموماً عام 1902 على أيدي عملاء السلطان عبد الحميد الذين سرقوا ما احتواه منزله في القاهرة من كتب و مخطوطات كان يحضر لنشرها. وقد عرف منها كتب “صحائف قريش، العظمة لله، أمراض المسلمين والأدوية الشافية لها؟ أحسن ما كان في أسباب العمران وماذا أصابنا ؟ و كيف السلامة ؟”.
إن أغلب الأدبيات الغربية في مجال العلوم الاجتماعية تُجمع على منح فكر عصر الأنوار الأوربي دوراً أساسياً في تكوين مفهوم حقوق الإنسان لدى النخب العربية والمسلمة. و باستثناء قلة، فإن الباحثين في الغرب يفسرون ظاهرة تكون الوعي بحقوق الإنسان عبر دخول الأفكار التقدمية الأوربية المترجمة. هذا الوضع دفع الناشطين في الحقل الحقوقي في العقود الأخيرة للبحث عن مرجعية فكرية عربية وإسلامية للمفاهيم الكونية والتي تأتي حقوق الإنسان على رأس قائمتها. وقد حفّز هذا على القيام بإبراز مفكرين كالكواكبي للإجابة على السؤال الآتي : هل حقوق الإنسان والديمقراطية هي أجسام غريبة جرت زراعتها في الشرق، أم أنها ظواهر ذات صدى كوني وهي متواجدة في الإطار الحضاري للمنطقة أيضاً ؟
وفيما يخص الحريات الأساسية وعلاقتها مع الاستبداد، يقول الكواكبي أنه “ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد، لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد يخنقون بها عدوتهم الطبيعية أي الحرية (…)”. فالحرية إذاً، ليست كما تسرده النفوس المتسلطة، واجبة الارتباط بالمسؤولية، كون هذه الكلمة الأخيرة تحمل بالقاموس المستبد، كل قيود الحرية و معوقاتها، بل و كل ما يُنشئ ضررها. فحتى الفوضى الناجمة عن الحرية محمودة وليست بحاجة إلى قيود. وهذا يرفع الشرعية عن كل ما تتحجج به بعض النخب الحاكمة والتي تستخدم كلمة القانون والعبث به كشماعة تعلق عليها كل انتهاكاتها للحقوق الأساسية ولرقابتها المنهجية على حرية التعبير بمختلف أشكالها. “إن البلية فقدُنا الحرية، وهي ما حرمنا معناه حتى نسيناه (…) وقد عرف الحرية من عرفها: بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم”.
و كان المرض المشخص إذاً، و الذي أصاب كل أوجه الحياة بالنسبة للكواكبي هو الاستبداد الذي لو كان رجلاً وأراد أن ينتسب لقال “أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضرر وخالي الذل وابني الفقر وابنتي البطالة ووطني الخراب”.
وقد اعتبر بأن الاستبداد يمكن أن يكون في صور مختلفة والتي يمكن أن تتبدى حتى في أنظمة تتبنى الشكل الديمقراطي التعددي ما دامت بعيدة عن المحاسبة والمسائلة حيث “(…) أن صفة الاستبداد، كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد”، ولنا في بعض التجارب الحديثة الأوروبية خير مثال على هذا التحليل.
الاستبداد يشمل أيضاً الحكومة الدّستورية التي تفصل بين السلطات “المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن قوة المراقبة؛ لأن الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية، فيكون المنفذون مسؤولين لدى المُشَرِّعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف أنَّها صاحبة الشأن كله، وتعرف أن تراقب وأن تتقاضى الحساب”. وهذا لم يخفي عنه بالطبع بأن الاستبداد على درجات وبأن هناك أسوء تعبير عنه من خلال “حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية. ولنا أن نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول فعلاً”.
وفي لفتة متميزة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد التنموية المرتبطة بالثقافة المجتمعية وبالتوزيع العادل للثروة يعتبر الكواكبي بأن الاستبداد يمكن أن يضعف “كلّما قل عدد نفوس الرعية، وقل الارتباط بالأملاك الثابتة، وقل التّفاوت في الثّروة وكلّما ترقَّى الشّعب في المعارف”. فنحن إذا أمام مشروع مجتمعي واقتصادي يميل نحو تبني العدالة الاجتماعية. والوسيلة الأنجع في منع وقوع الاستبداد في كل أشكال الحكومات هو أن تكون السلطة السياسية “تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب الّذي لا تسامح فيه (…) كما جرى في عهد هذه الجمهورية الحاضرة في فرنسا في مسائل النّياشين وبناما ودريفوس”. ويتبين بأن الكواكبي كان على دراية وافية بما تتعرض له الحريات من عبث في أعتى الديمقراطيات في زمانه وخصوصاً فرنسا حينما حوكم ضابط فرنسي بريء بتهمة التخابر مع الأجنبي لمجرد أن ديانته هي اليهودية وهي الحادثة التي دفعت الكاتب الفرنسي الشهير إيميل زولا إلى خط بيانه الشهير والذي دخل في أدبيات حقوق الإنسان تحت عنوان (إني أتهم).
ويحدد الكواكبي بصرامة مسؤولية الرقابة والمسائلة لحماية النظام الديمقراطي فمن “الأمور المقرَّرة طبيعةً وتاريخاً أنه؛ ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو التمكن من إغفالها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمة، والجنود المنظمة”. ويبرز في هذا الخطاب التنبه المبكر لمسألة سيطرة الأجهزة العسكرية على الحياة المدنية بمفهومها الحديث. فالجندية “تُفسد أخلاق الأمة؛ حيثُ تعلِمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال (…)”.
لقد استعاض عبد الرحمن الكواكبي عن الغيبيات الملازمة لأصحاب الفكر التقليدي بتوجه علمي استقرائي يبحث فيما يبحث عن أسباب التخلف والانهزام في التاريخ مستلهماً دروسه من دون أن يجتر قانعاً في تاريخ أمجاد و انتصارات ما فتئ يرسخ في ذهنية فاسدة. حيث اعتبر أن “ليس لنا مدرسة أعظم من التاريخ الطبيعي، ولا برهان أقوى من الاستقراء في كل شؤون الأمة”. من خلال هذا التصوّر، واجه حالة تاريخية عنوانها الرئيسي تقدم الغرب وتقهقر العرب، فكان الأساس في الإصلاح بالنسبة له هو الاعتراف بحقيقة أن الانحطاط الداخلي واقع و هناك حاجة ماسة للبحث عن مخرج من هذا المأزق التاريخي. وتميّز عن معاصريه برفضه المطلق لفكرة المستبد العادل.
وفي إطار تعزيز وتدعيم أسس الدولة المدنية الحديثة، وجد الكواكبي أنه لا مفر من فصل السلطات داخل جهاز الدولة لتجنب أن تتحول السلطات إذا اجتمعت إلى مصدر استبداد و ظلم، فيتساءل : “هل تجمع سلطتين أو أكثر في شخص واحد ؟ أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان ؟ ولا إتقان إلا بالاختصاص ولذلك لا يجوز الجمع منعا لاستفحال السلطة”. وفي هذا الطرح يتبين موقفه من تطوير أساليب العمل السياسي يعبر من خلاله عن وعي عميق لمفهوم الديمقراطية وحتمية التحول إلى النظام البرلماني الحر. وتعتبر جمعية أم القرى التي تخيلها ترجمة واضحة لرغبته بوجود مؤسسات يتبادل ضمنها أهل العلم الآراء ويعملون على الاجتهاد و التفسير بأسلوب جماعي منتج ومنظم يوضح أهمية المؤسسة في نهوض الأمة.
إن الحكومات الشمولية المستبدة تدرك تمام الإدراك أن قدرتها على السيطرة بحاجة إلى عوامل موضوعية تتمثل أساساً في حالة تكون فيها “الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل”. وبالتالي، فألدّ أعداء المستبد هم العاملون في العلوم و ليس كلها، فالمستبد “لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يقوّم اللسان وأكثرها هزلٌ وهذيان يضيع به الزمان (…). وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلِّقة بالمُعاد (…) لاعتقاده أنّها لا ترفع غباوةً ولا تزيل غشاوة (…)”. المستبد يخشى حقيقةً من العلوم الإنسانية التي تستمر مهمشة حتى يومنا هذا في كل الفضاءات العربية و الإسلامية. وهو يمارس قمعه وتهميشه للناشطين في هذا الحقل وخصوصاً المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة في علوم “مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية (…) ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ”. ولا يغب عنا بأن في الجملة الأخيرة طرح الكواكبي المبادئ الأساسية لمفهوم حقوق الإنسان كما ترسخت من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948. وهو يعتبر بأن هذه العلوم بالذات، التي “أخذت تنمو في الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في كافة الشئون المادية والأدبية”، هي التي “ترتعد” فرائص المستبد منها. ولهذا السبب، يسعى العلماء إلى “نشر العلم” بين الناس، بينما يجتهد المستبد “في إطفاء نوره”.
إن مسألة الوعي ونشره بين صفوف العامة وتنوير العقول ورفع الضغط عنها احتلت مكانة رئيسة في البناء الفكري لديه، إذ يشدد كثيراً على أن دور “العلماء العاملين” يتمثّل في القضاء “على جهالة الأمة”، بوصفها واحدة من قوتين هائلتين، إلى جانب “الجنود المنظمة”، في خدمة الحكومة الاستبدادية. ولقد توقف خصوصاً عند علم السياسة معتبراً أن الغربيين “قد توسَّعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً”. وبالمقابل، فقد تأخر الشرقيون عن فهم هذا العلم و التعامل معه بعقلية عصرية عدا بعض الاستثناءات مثل رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وأحمد فارس شدياق، وسليم البستاني. وعلى خطى الطهطاوي، الذي كان أول من تنبه إلى ضرورة الاهتمام بنشر التربية السياسية على نطاق واسع في المجتمع كي يعرف الناس حقوقهم وواجباتهم، أعار الكواكبي اهتماماً خاصاً لمسألة التعريف بعلم السياسة بوصفه علم “إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة”.
إن معرفة تجارب الآخرين في الوصول إلى الحرية والديمقراطية دفعته إلى تأييد ليبرالية الطبقة الوسطى في أوروبا، مطالباً بحكومة دستورية، وبتحديد سلطة الحكومة، وتأمين حرية الفرد، محاكماً الاستبداد استناداً إلى تراث العرب في الحرية وإلى ما لاحظه في الفكر الغربي. فهو، بعد أن اقتنع عقلياً بالأفكار القادمة من الغرب، راح يبحث عن جذور دينية لقناعاته. ورأيُهُ القائل أن صلاح الحاكم والحكم من صلاح الرعيّة، إنما يؤكّد منطلقَه الإسلامي الذي يصدر عن حديث: (كما تكونوا يولّى عليكم). ومع ذلك فإنه كثيراً مايورد دلائله من العقل والنقل معاً. وهو لا يمانع من الأخذ عن الغرب، فهي ليست مسألة استعارة بل استيعاب لما يطرحه الآخر، والتصرف وفق الواقع الذي نعيشه، والذي علينا أن ننطلق منـه لإصلاح الممارسة السياسية لمقاومة الاستبداد.
وفي هذا الصدد ، انتقد الكواكبي بشدة بعض رجال الدين الذين يصوّرون للأمة بأن حياتها البائسة “قضاء جاء من السماء”. وبقي مصراً على ربط التأخر بأسباب نابعة من داخل المجتمعات التي تتحمّل مسؤولية الأوضاع التي تعيشها، حيث تمنى أن “يعرف الشرقيون أنهم هم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار”. وفي سياق دعوته الإصلاحية، اعتبر الكواكبي بأن ممارسة الانتقاد في مجال الاعتقاد الديني هو من مهمة صعبة مطروحة أمام العلماء، وذلك لأن هذا النوع من العمل الفكري هو “شديد الوقع والصدع على التائهين في الوهلة الأولى لأن الآراء الاعتقادية مؤسسة غالباً على الوراثة والتقليد دون الاستدلال والتحقيق وجارية على التعاند دون التقانع”. ومما يزيد من صعوبة هذه المهمة، في رأيه، أن المصلح يتهيب التصريح بما يفكر به “لغلبة الجهل على الناس”.
لقد أرجع الكواكبي أسباب التأخر أيضاً إلى الفساد الذي عمّ أوجه الحياة الاجتماعية الثلاثة المترابطة فيما بينها، في تصوّره، ترابطاً عضوياً، وهي السياسة والدين والأخلاق. ففي حقل السياسة، ركّز الكواكبي على فقدان الحرية، التي عرّفها “بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم”، واعتبرها “أعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال وتبطل الأعمال وتموت النفوس وتتعطل الشرائع وتختل القوانين”. وربط فقدان الحرية بالاستبداد الذي هو “تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة” وهو “صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين”. وفي الاستبداد أصلٌ لكل فساد، إذ هو “يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده (و) يغالب المجد فيفسده ويقيم مقامه التمجد”.
إن شعور الكواكبي بالحاجة إلى الاستناد إلى نموذج من الماضي لا يعني بأنه كان ماضوياً، خصوصاً وأنه عبر في كل ما كتبه تقريباً عن توجه نحو المستقبل، فحذر قومه من خطر التقليد والتبعية للأسلاف وخاطبهم بقوله: “أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل وبداء الحرص على كل عتيق: فلماذا تقلدون أجدادكم في الخرافات والأمور السافلات ولا تقلدونهم في محامدهم؟”.
وفي ميدان الإصلاح السياسي، وباستناده إلى تجارب الحكم الديمقراطي في الغرب، ركز الكواكبي على ضرورة قيام أنظمة دستورية برلمانية في المجتمعات الإسلامية على قاعدة الانتخاب الحر والفصل بين السلطات، فانطلق من أن الإنسان الغربي قد نجح في التوصل إلى “قواعد أساسية” في باب تقرير شكل الحكومة. ووضع على رأس هذه القواعد قاعدة تقييد الحكومة بقانون “موافق لرغائب الامة”، يضعه “جمع منتخب من الأمة”، ويتيح لها فرصة “التصرف في مراتب العظمة ورواتب المال”، ويجعلها مسؤولة “عن تقرير النفقات العامة” والإشراف على “إعداد المنعة”، ويعطيها حق “السيطرة على الحكومة ومساءلتها”. وبالإضافة إلى هذه القاعدة، أشار الكواكبي إلى ضرورة انحصار السلطة في القانون “إلا في ظروف مخصوصة مؤقتة”، ومساواة الجميع أمام القانون الذي هو أحكام “تتساوى لديها كل طبقات الناس وله سلطان نافذ قاهر”، وإناطة مسؤولية إقامة العدل بالقضاة “المصون وجدانهم من كل مؤثر، والذين يتمتعون باستقلالية تامة”، وعدم جواز الجمع بين وظائف السياسة والدين والتعليم “منعاً لاستفحال السلطة”، وتوزيع الأعمال والوظائف بحسب الكفاءة، وضبط إنفاق الحكومة.
والواقع، أن الكواكبي قد ذهب في دعوته إلى تبني نموذج الحكومات الدستورية العادلة القائمة على الفصل بين السلطات وعلى ضمان الاستقلال الشخصي لمواطنيها، إلى حد اعتبار أن تلك الحكومات تجعل الإنسان يعيش في وطنه “المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان”، مؤكداً بأن أنفع ما بلغه الترقي في البشر هو “إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة وبناؤهم سداً متيناً في وجه الاستبداد”، وبجعلهم قوة التشريع “في يد الأمة”، وبجعلهم المحاكم “تحاكم السلطان والصعلوك على السواء”، وبجعلهم مأموري الحكومة “لا سبيل لهم على تعدي حدود وظائفهم” وبجعلهم الأمة “يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها لا تغفل ولا تتسامح”. لأن الحكومة ليست أكثر من “وكالة سياسية تقام من قبل الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العامة” بحيث تضمن الأملاك العامة وتكفل الحقوق العمومية للجميع.
يتطرق الكواكبي في مجمل كتاباته إلى حاجة الإسلام إلى التجديد وإزالة الزيادات الباطلة. فالدين كما يراه ليس رديفاً للاستبداد و لا عوناً له. و بدفاعه عن الإسلام يبتعد عن الانفعال و عن التصدي الإقصائي للرأي الآخر، الشيء الذي نفتقده ونسعى إليه اليوم. حتى أنه يبرر لمنتقدي الدين مواقفهم معتبراً حديثهم عن دين ليس من الإسلام في شيء فيقول : “بعض الاجتماعيين في الغرب يرون أن الدين يؤثر على الترقي الإفرادي ثم الاجتماعي تأثيراً معطلاً : كفعل الأفيون في الحس، و هناك بعض الغلاة يقولون أن الدين و العقل ضدان متزاحمان في الرؤوس، وأن أول نقطة من الترقي تبتدئ عند آخر نقطة من الدين. هذه الآراء كلها صحيحة ولا مجال للرد عليها، ولكن بالنظر إلى الأديان الخرافية، أو التي لم تقف عند حد الحكمة، لأن مجرد الإذعان لما لا يعقل، برهان على فساد بعض مراكز العقل”.
فهو يرى إذن بأن ما يدين به أكثر المسلمين هو دين تشويش و تشديد يقوده رجال أسماهم بالمتعممين يضللون المسلم بتفاسير و استعارات اسطورية وخرافية لا أصل لها في دين الإسلام ولا في غيره من الأديان التي اعتمدت الحكمة و العقل. وهو يقول على لسان المولى الرومي إحدى الشخصيات المتخيلة التي شاركت في مؤتمر أم القرى : “وعندي أن داءنا الدفين دخول ديننا الحنيف تحت ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى تحت ولاية الجهلة المتعممين، وهم المقربون من الأمراء على انهم علماء ارتبط القضاء والقدر بهم”. وفي تحميلهم مسئولية انهيار الأمة، لا يتردد الكواكبي حين يقول : “اعلم أيها المفتي المحترم، إن هذه الحالة التي أنتم عليها من التشديد و التشويش في أمر الدين هي أكبر أسباب انحطاط المسلمين”.
لقد اختلف محللو خطاب الكواكبي الديني و السياسي على نقطة تتعلق بفكرة فصل الدين عن الدولة، فمن القول بأنه رائد هذه الفكرة عربياً وإسلامياً إلى القول بأنه لم يتطرق إلى هذا الموضوع لا من قريب و لا من بعيد. و لكن قراءة الكواكبي بشيء من التمعن تجعلنا ندعم أصحاب فكرة الريادة في فصل الدين عن الدولة لأنه نادى بإلغاء الدولة الدينية كدولة سياسية. وعند دعوته لعودة الخلافة إلى العرب، فهو يعتبر أنها تمثيل للرابط الديني حيث تنحصر مهام الخليفة في حل المسائل الدينية.
إن تهميش الحوار الفكري هو مسبب أساسي لانحدار الأمة، وجمعية أم القرى التي تخيلها هي تعبير صريح عن رغبته بوجود مؤسسات يتبادل ضمنها أهل العلم الآراء ويعملون على الاجتهاد والتفسير بأسلوب جماعي منتج. و هو يقول بأن مجرد قيام مثل هذه الجمعية هو من أعظم تلك المبشرات، خصوصاً إن وفقت بتأسيس جمعية قانونية منتظمة، لأن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمراً طويلاً يفي بما لا يفي به عمر الواحد الفرد وتأتي بأعمالها كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد. إنه بهذا القول يخطو خطوة كبيرة باتجاه توضيح أهمية المؤسسة في نهوض الأمة.
في أيامنا هذه، نجد بأن ميراث الكواكبي ما زال يحظى بالاهتمام من خلال حساسيته لموضوع الديمقراطية و هجومه الفكري على مفهوم السلطة المطلقة. وهو في بحثه عن طليعة تقود الأمة بالفكر و بالحكمة و العلم و المعرفة بعيداً عن كل أشكال التشويش و المداهنة يتوجه إلينا قائلاً : “ما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس و يرفعون الالتباس و يفكرون بحزم و يعملون بعزم و لا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون”.