الثورة والدولة بقلم د.عمرو الشوبكى

هى إشكالية قديمة منذ أن عرف العالم ثورات كبرى سقط فيها النظام السياسى والدولة معا، فكانت هناك مدرسة فى الفكر السياسى تعتبر الدولة أداة للقمع ودعت لتفكيكها وبنائها على أسس جديدة، كما جرى فى الأدبيات الشيوعية بتنوعاتها المختلفة، وبقى موضوع إسقاط الدولة وإعادة بنائها جزءاً من مشروع الثورتين الشيوعية فى روسيا ١٩١٧، والإيرانية عام ١٩٧٩، وغيرهما من التجارب الثورية الأخرى.

ولعل معضلة تفكيك الدولة فى النظم السياسية ترجع إلى كون التجارب التى نجحت فى تفكيكها اضطرت إلى إعادة بنائها مرة أخرى على أسس قمعية وغير ديمقراطية، بل إن تجربة الثورة الشيوعية فى روسيا اضطرت فى لحظة إلى أن تنحاز لفكرة بناء الدولة والثورة فى بلد واحد، والتى تبناها لينين «قائد الثورة» فى مواجهة فكرة رفيقه تروتسكى عن الثورة الدائمة، التى يجب ألا تتقيد بروسيا، والتى ظلت حلماً ملهماً أكثر منها مشروع حكم وإدارة دولة.

والمؤكد أن نجاح أى ثورة فى تفكيك الدولة لا يرجع فقط إلى وجود رؤية ثورية تدعو إلى ذلك، إنما أيضا إلى وجود مشروع ثورى قادر على تحمل الثمن الباهظ لخطوة إسقاط الدولة، فالثورة البلشفية فى روسيا عرفت حرباً أهلية ضروساً بين الجيش الشيوعى الأحمر والجيش الأبيض الموالى للقيصر، حتى انتصر الأول وسقط مئات الآلاف من الضحايا فى هذه الحرب، كما أن آخر الثورات التى أسقطت الدولة، وهى الثورة الإيرانية فى عام ١٩٧٩، شارك فيها ٦ ملايين مواطن «من أصل ٣٠ مليوناً»، وسقط فيها حوالى ٧٠ ألف شهيد، وأعدمت ما يقرب من ٦٠ ألف شخص من عملاء النظام السابق، وكان يقودها زعيم ملهم هو الإمام الراحل آية الله الخمينى، وامتلكت مشروعاً أيديولوجياً بديلاً أسس ما عرف بـ«الجمهورية الإسلامية»، وهى أمور بعيدة عما جرى فى الثورة المصرية، أما الثورة فى ليبيا فمن الصعب أن نعتبر القذافى قد بنى دولة من الأساس «لا جيش محترفاً ولا قضاء ولا إدارة»، وبالتالى كان سقوط النظام يعنى عمليا سقوط الدولة.

إن رحلة هدم الدولة فى إيران وإعادة بنائها من جديد أدت إلى إقصاء كثير من القوى التى شاركت فى صنع الثورة ولم تنجح تجربة ثورية واحدة من التجارب التى أسقطت الدولة فى أن تبنى نظاماً ديمقراطياً، بدءاً من سلسلة الثورات الشيوعية حتى الثورة الإيرانية، فمعظم رفاق الأمس كانوا حلفاء حين كانت الثورة فى الشارع، وتحولوا إلى أعداء خوّنوا بعضهم البعض بعد أن أسقطت الثورة الدولة ووصلت للحكم وشرعت فى بناء نظام «ثورى» جديد.

إن الفرق بين الثورة التى تسقط النظام السياسى والدولة معا، وتلك التى تسقط الأول وتصلح الثانية، هو فرق فكرى وسياسى كبير، فالأولى ليس لها حدود، فتسقط النظام ثم تسقط الدولة وتؤسس على أنقاضها «دولة الثورة»، التى تطهر نفسها من «دنس» النظام القديم والبشر القدامى، فتؤسس الجيش الثورى، «القذافى وصف جيشه بالثورى، لذا انهار بعد أسبوع» والقضاء الثورى والشرطة الثورية، وعادة ما يحل الثوار مكان رجال الدولة المهنيين والفاسدين على السواء، فتجد الميليشيات الثورية مكان رجال الشرطة، والقضاة الثوريين مكان القضاة المحترفين، بحثا عن نقاء مفقود لم تجلبه أى تجربة ثورية واحدة سارت فى هذا الطريق.

صحيح أن العالم عرف ٤ تجارب ثورية كبرى فى تاريخه الإنسانى، أسقطت النظام والدولة معا وهى الثورات: الفرنسية، والشيوعية فى روسيا والصين، والإسلامية فى إيران، وهى تجارب لم تجلب الديمقراطية لشعوبها، ولم يشهد مثلها العالم على مدار ٤٠ عاما، حيث تغيرت بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية والبرتغال وإسبانيا وتركيا وماليزيا وإندونيسيا، عن طريق تغيير أو إسقاط النظم القائمة عبر ثورات أو تحركات شعبية وسياسية دون إسقاط الدولة فى أى منها.

إن رحلة البحث عن مجتمع ثورى تصنعه أيديولوجيا معينة لا وجود لها على أرض الواقع ولا تدعمها خبرة إنسانية واحدة، فكل التجارب الإنسانية التى حاولت أن تهندس المجتمع والناس وفق عقيدة سياسية ما فشلت فشلا ذريعاً، وكل تجربة حاولت أن تستلهم من هذه العقيدة قيماً وأفكاراً تقدمها للناس ليختاروا منها ما يشاءون عبر دولة قانون ونظام ديمقراطى، هى التى نجحت.

والحقيقة أن علاقة الثورة المصرية بالدولة هى علاقة صعبة ومعقدة، فرغم أنه لا يوجد مشروع سياسى مؤثر راغب أو قادر على إسقاطها، «حتى لو وجدت مدرسة محدودة للغاية تطالب بذلك»، إلا أنها ستظل مهددة بسبب أن خبرة عموم المصريين مع مؤسسات الدولة «باستثناء الجيش» هى خبرة سلبية، فالشرطة والجهاز الإدارى، وأحيانا القضاء، خضعت بدرجات متفاوتة لتأثير السلطة التنفيذية وهيمنتها، بل إن الأخيرة كثيراً ما طوعت الأجهزة الأمنية لصالح بقائها الطويل فى السلطة، حتى غاب الفارق بين الدولة والنظام السياسى، واختفى معه الحياد المطلوب فى هذه الأجهزة مما دفع بالبعض إلى أن يطالب بإسقاط الداخلية مثلما طالب بإسقاط النظام، لأنهما على الأرض كانا شيئا واحدا بالنسبة له.

والحقيقة أن حل هذه المعضلة يبدأ باستلهام التجارب سابقة الذكر فى إسقاط النظام وإصلاح الدولة، أو ما عرف فى كل تجارب التحول الديمقراطى الناجحة بـ«الإصلاح المؤسسى»، والذى تتم فيه إعادة هيكلة المؤسسات العامة على أسس جديدة تختلف جذرياً عن تلك التى كانت موجودة فى العهد السابق، وعدم الاكتفاء بتغيير أشخاص أو إحداث بعض الرتوش الشكلية.

إن نجاح أى تجربة تغيير فى العالم لا يقاس فقط بمدى ثورية الفعل السياسى، إنما بالمسار الذى ستتبعه هذه التجربة بعد الثورة أو الانتفاضة، فإذا نجحت فى بناء مؤسسات وقواعد جديدة تفكك بها أركان النظام القديم، فسيكون ذلك بداية النجاح، أما إذا بقيت محكومة بالقواعد والمؤسسات القديمة نفسها وغنّى الجميع، بمن فيهم رجال النظام القديم، للثورة الجديدة، فإن الأمر سيعنى أننا «محلك سر».

إن خطر سقوط الدولة لايزال بعيداً عن مصر، إنما خطر أن نعيش فى ظل دولة فاشلة هو خطر حقيقى وحال، مثلما هو حادث مع كثير من دول العالم الثالث، فرغم أنه لا يوجد مشروع سياسى حقيقى يرغب أو قادر على إسقاط الدولة، ولا يوجد أى تعاطف شعبى مع أى أفكار متناثرة تدعو إلى إسقاطها، ودون إجراء إصلاحات حقيقية فى بنية هذه الدولة، فإن الوضع فى مصر لن يتقدم كثيراً عن الوضع الذى ساد فى العصور غير الديمقراطية السابقة.

نشر هذا االمقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 فبراير 2012 انظر موقع الجريدة


د. عمرو الشوبكي كاتب و مفكر سياسى مصرى و مدير تحرير مجلة أحوال مصرية، دكتوراه علوم سياسية من جامعة السوربون. خاض انتخابات مجلش الشعب فى مصر سنة 2011 وفاز فى جولة الأعادة بالمقعد المستقل.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial