ثلاثية من الشعارات تفرض الآن نفسها على الساحة العربية: الديمقراطية، التحرّر من الاحتلال ومسألة الهويّة.
لكن المشكلة هي في الانفصام الحاصل ما بين هذه الشعارات نظرياً وتطبيقياً، كذلك في الجهات الخارجية المهيمنة الآن على مصائر عددٍ من البلاد العربية.
فالإدارة الأميركية تؤكّد على المسألة الديمقراطية بينما هي تمارس الاحتلال في العراق وتدعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كما تضامنت أيضاً مع العدوان الإسرائيلي على لبنان.
فواشنطن تقف مع عملية الديمقراطية في العراق وفلسطين ولبنان، لكنّها تعادي القائمين على عمليات المقاومة ضدَّ الاحتلال في هذه البلدان. فهي مع الحريات السياسية والاجتماعية لكنّها ضدّ حرّية الأوطان!
كذلك الأمر في مسألة الهوية العربية لهذه الأوطان حيث يأتي طرح الديمقراطية منعزلاً عن الهويّة العربية بل أحياناً في المواجهة معها سعياً لاستبدالها في “هويات” طائفية أو أثنية ممّا لا يُضعف فقط الهوية العربية بل أيضاً الهوية الوطنية الواحدة، كما هو الحال في “النموذجين” العراقي واللبناني للطروحات الديمقراطية المدعومة أميركياً.
وحينما تتحدّث واشنطن عن مجموعة من بلدان المنطقة، فإنّ التسمية تصبح “الشرق الأوسط” وتكون إسرائيل حتماً أحد الأطراف المعنية، ويكون الهدف دائماً التشجيع على التخلّي عن الهوية العربية.
فتصبح الطائفية والمذهبية بديل الهوية العربية على المستوى الوطني الداخلي، وتكون “الشرق أوسطية” هي البديل على المستوى الخارجي وعلاقات دول المنطقة مع بعضها البعض، فالديمقراطية المنشودة أميركياً في المنطقة هي كطائر عليه أن يحلّق عالياً بلا جناحي التحرّر والهويّة العربية !!
إن تكرار الحديث الأميركي عن حاجة المنطقة العربية للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبناء المجتمعات الديمقراطية، في ظلّ تجاهل مسألة “الاحتلال”، هو ذرّ للرماد في العيون ومحاولة تهميش الأسباب الحقيقية لنشوء جماعات العنف المسلّح في دول العالم الإسلامي، وسعي مقصود لمساواة الإرهاب المرفوض مع المقاومة المشروعة ضدّ الاحتلال.
هناك، بلا شكّ، حاجة قصوى للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وحتى الثقافي، في عموم المنطقة العربية ودول العالم الإسلامي، غير أنه أجدى بالولايات المتحدة الأميركية أن تبحث أيضاً عن مقدار مسؤولياتها والدول الغربية الأخرى عن أسباب هذا التخلّف والتدهور خلال القرن الماضي كلّه، وما قامت به معظم هذه الدول من استعمار مباشر وغير مباشر ومن سلب لثروات الشعوب النامية، ومن تدخّل عسكري وسياسي، ومن حربين عالمتين مدمّرتين للعالم كلّه، ومن “حرب باردة”، كانت دول العالم الثالث هي ساحة الصراع الساخنة لها، ومن دعم مطلق ومفتوح للعدوان الإسرائيلي الغاشم لأكثر من نصف قرن على الشعب الفلسطيني كلّه وعلى عدّة دول عربية.
إنّ الحديث الأميركي عن الديمقراطية والإصلاح في دول “الشرق الأوسط” هو دعوة حقّ يُراد بها باطل، خاصّةً أنّ المقصود بها لا يشمل إسرائيل (رغم اعتبارها، حسب المفهوم الأميركي، بلداً هامّاً في الشرق الأوسط). ففي الحديث عن الديمقراطية والإصلاح يتمّ استثناء إسرائيل، وفي الحديث عن العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية تصبح مشاركة إسرائيل أمراً حتمياً لا يمكن تجاوزه. وفي كلا “الحديثين” لا ذكر لمسألة الاحتلال الإسرائيلي ولمسؤوليته أصلاً عن الكثير من السلبيات الراهنة.
إنّ الديمقراطية السليمة والإصلاح الشامل مطلوبان فعلاً في دول المنطقة، بل في أنحاء العالم كلّه، والحاجة ماسّة لهما كذلك في مجال العلاقات بين الدول، وفي ضرورة احترام خيارات الشعوب لصيغ الحياة الدستورية فيها، وفي عدم تدخّل أيّة دولة (كبرى أو صغرى) في شؤون الدول الأخرى.
إنّ الديمقراطية هي وجه من وجهي الحرّية، وهي صيغة حكم مطلوبة في التعامل بين أبناء البلد الواحد، لكنّها ليست بديلة عن وجه الحرّية الآخر، أي حرّية الوطن وأرضه.
ولذلك فإنّ إنهاء أزمات المنطقة يكون في إنهاء كافّة أنواع الهيمنة العسكرية الأجنبية على بلدانها وإزالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وإعادة الحقوق المغتصبة للشعب الفلسطيني.
هكذا أصلاً نشأت الولايات المتحدة الأميركية، فهي تحرّرت أولاً من الهيمنة البريطانية، ثمّ شرعت هذه الولايات في بناء وضع دستوري سليم تناسبَ مع ظروفها وجغرافيتها والأصول الثقافية لشعوبها.
إنّ واشنطن تدعم الآن صيغة الفيدرالية كحلٍّ دستوري في داخل البلد الواحد، بينما الصيغة هذه هي مطلوبة بين البلدان العربية كتطوير لصيغة جامعة الدول العربية، تماماً كما في النموذج الدستوري الأميركي بين الولايات، بحيث تقوم مستقبلاً “الولايات العربية المتحدة”.
هذا ما تحتاجه المنطقة العربية الآن، وليس فقط الإصلاح السياسي. فالمنطقة بحاجة إلى صيغة تكاملية اتحادية بين دولها العربية فقط، وأن تأخذ في الحدّ الأدنى بنموذج الاتحاد الأوروبي إذا صعُب عليها اعتماد النموذج الاتحادي الأميركي. لكنّ أيّاً من النموذجين يقتضي أولاً الاستقلال السياسي وحرّية الأرض والأوطان على قاعدة دستورية سليمة بحيث يجتمع في بلدان المنطقة كلّها العدل السياسي مع العدل الاجتماعي، وبحيث يرتفق التحرّر الوطني مع الحرّيات السياسية والبناء الديمقراطي السليم في البلدان العربية.
هذا عن الجانب الأميركي المعني الآن بكثير من شؤون المنطقة العربية وتطوراتها الساخنة على أكثر من صعيد.
فماذا عن الجانب العربي وعن أصحاب الشأن أنفسهم؟
للأسف، فإنّ الواقع العربي ومعظم الطروحات الفكرية فيه، والممارسات العملية على أرضه، لا تقيم أيضاً التوازن السليم المطلوب بين ثلاثية الشعارات: الديمقراطية والتحرّر ومسألة الهوية العربية.
فالبعض يدعو للتحرّر ولمقاومة الاحتلال لكن من منابع فكرية فئوية أو من مواقع رافضة للهوية العربية.
أيضاً، هناك في المنطقة العربية من يتمسّك بالهوية العربية وبشعار التحرّر من الاحتلال لكن في أطر أنظمة أو منظمات ترفض الممارسة الديمقراطية السليمة. بل هناك من يعتقد أنّ وحدة الهوية العربية تعني بالضرورة أحادية الفكر والموقف السياسي فتمنع الرأي الآخر وتعادي التعددية الفكرية والسياسية التي هي جوهر أي مجتمع ديمقراطي سليم.
فهناك اختلال كبير في المنطقة العربية بكيفية التعامل مع شعارات الديمقراطية والتحرّر والهوية العربية، وفي ذلك مسؤولية عربية مباشرة وليس فقط نتيجة تدخّل خارجي أو هيمنة أميركية.
إنّ البلاد العربية هي أحوج ما تكون الآن إلى بناء حركة عروبية ديمقراطية تحرّرية تستند إلى توازن سليم في الفكر والممارسة بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والهوية العربية، حركة فكرية وثقافية وسياسية تجمع ولا تفرّق داخل الوطن الواحد، وبين جميع أبناء الأمَّة العربية.. وإذا ما توفّرت الأداة السليمة يصبح من السهل تنفيذ الشعارات.
______________________________
صبحي غندور مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن