“فكرة أن الحياة ليست شيئاً دائماً
ساعدتني على تنوير ذهني،
إننا لسنا سجناء إلى الأبد
خلف سياج الحقائق المُتحجرة!”
طاغور
عندما أنظر إلى حياتى الداخلية والخارجية ينتابني في أغلب الأحيان شعور بغموض! شعور بأغوار غير معروفة! واني لأحس بظمأ إلى فهم الحياة وإلى دفعها للأمام، وأحس أيضاً بحاجة إلى مُناهضة العبودية، إلزامية كانت أم مُختارة!
ثم يبدو لى أن السبيل لبلوغ هذا كله يتم أساساً عن طريق الذود عن حق أبناء أمتنا في الحرية وفي نُشدان الحقيقة، بحسب ما تهديهم قلوبهم وعقولهم الحرة. مع العلم أني أدرك أنه ليس ثمة إمكانية لمعرفة الحقيقة، الله وحده يملكها!
الصلة ـ على ما يبدو ـ وثيقة بين الانحطاط المُخيف والشامل لمجتمعاتنا، وبين إحجام فلاسفة الضرار(1) عن تعهد مشكلاتنا الفكرية بالبحث الفلسفي الحُر.
أوليس يُساعد على تكريس الانحطاط في مجتمعاتنا الغارقة في التخلف أن الدارس لمشكلة مُلحة ومُؤثرة، كـ “مشكلة الموت في الثقافة العربية”، لا يكاد يقع على جهد فلسفي عربي، يُغري بتثمينه، اللهم إلا دراسة للعملاق عبد الرحمن بدوي، ناقش فيها: كيف يمكن أن تكون مشكلة الموت مركزاً لمذهب في الوجود؟
فلاسفة الضرار ومُحترفو التبرير الديني دائمو التأكيد على أن انحطاطنا المُخيف محض كبوة، وارتداد عن كمال إنساني، بلغه أسلافنا! وأن محاكاة ـ تجديدية وتحديثية ـ لهؤلاء الأسلاف، تُُبلغنا حتماً كمالهم الإنساني، وتُعيد لنا إمرة الأرض اغتصابا، على نحو ما تُغنينا “أم كلثوم”، في قصيدة “سلوا قلبي”!
حاجتنا ماسة لتأسيس مدرسة أنسنية في الفكر العربي، كخطوة واعدة على طريق بناء صرحنا الفلسفي! لم يعد مقبولاً أن نلوث بتخلفنا نقاء الحياة وطُهرها!
لم يُعد مقبولاً أن تذهب ملكات مفكرينا سدى! “فلسفة الضرار” مسئولة برأيي عن هدر ملكات المفكر المصري الراحل نصر حامد أبو زيد. فلو أنه خُلي بينه وبين طريق الفلسفة لربح وربحنا معه فيلسوفاً عظيماً. ولو أنه سلك طريق الفقه لربح وربحنا معه فقيهاً شهيراً! مازج الفقه بالفلسفة، كمازج الزيت بالماء!
لتكن صيحة الحرية: “أعطوا ما للفقهاء للفقهاء، وما للفلاسفة للفلاسفة”
صحيح أن الفهم العربي للحرية مُشوه، حتى أن فُقدان الحرية عند شعوبنا الكسيرة ليس يُفهم على أنه عُبودية، بل يُفهم على أنه وصاية تُمارس لخيرنا وخير الوجود بأسره! وصحيح أن الفهم العربي للاستقلال الوطني أضحى مضرب الأمثال في الرداءة! فالاستقلال حتمي، طالما خلت البلاد من الأجانب المُسلحين!
وصحيح أن الصروح الفلسفية لا تُشيد إلا بقلوب وعقول عاشقة للحرية، عارفة بأهمية النضال من أجل الحقيقة! كل هذا وأكثر صحيح، غير أن الأمل يظل قائماً في قيام مدرسة أنسنية في الفكر العربي، تُعبد الطريق نحو تفكيك البنية التحتية لفلسفة الضرار! خنوثة التخلف العربي تُحتم التمكين للفلسفة في ثقافتنا!
العالم المُعاش شديد الخضوع للأفكار الصحيحة والزائفة على السواء ـ للأسف الشديد ـ، لدرجة دفعت بعض الظرفاء للقول بوجود تناسب طردي بين الأثر الذي تُحدثه أية فكرة في حياة البشر وبين درجة الخطأ الكامنة فيها! أصحاب البصائر النفاذة هم وحدهم القادرون على إدراك الفاصل بين الصحيح والزائف!
في مقدمة أصحاب البصائر النفاذة يأتي الفلاسفة، فالفلسفة مُغايرة لغيرها من طرق نُشدان الحقيقة! إنها بحث مُستدام عن الحقيقة غير النفعية، كونها تتطلب من المشتغلين بها، في أوقات كثيرة، وقوفاً أليما في وجه رغباتهم الشخصية!!
على أية حال، أناقش في هذه المقالة “مشكلة الموت في الثقافة العربية”، رغم ضآلة الميراث الفلسفي العربي في هذا الصدد! تحدوني في ذلك رغبة صادقة في تزخيم رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني! ولسوف أبدأ بحثي بعرض مُطول نسبياً لما أورده الراحل عبد الرحمن بدوي في دراسته المُهمة المُشار إليها سلفاً(2).
ولتسمح لي قارئي الكريم ـ قبل أن أُخلي بينك وبين عرضنا المُطول لدراسة العملاق عبد الرحمن بدوي لمشكلة الموت ـ أن أضيف كلمة عن رأيي في الطريقة التى أنصحك بها في قراءة هذا العرض، وهي أن تتصفحه كله أولاً كما تتصفح “جرنال”، دون أن تُحمل انتباهك من أمره عسراً ودون أن تقف عند الصعوبات التى قد تعترض سبيلك فيه حتى تُلم الماماً عاماً بالنقاط التى تناولتها دراسة بدوي التشريحية. فإذا رغبت بعد ذلك في المزيد من الفهم استطعت أن تقرأ العرض مرة أخرى لكي تلتفت إلى إرتباط أفكار بدوي واتصالها. واعتقادي أنه إذا بقيت بعد ذلك بعض الصعوبات، فلتمض قارئي قُدماً في قراءة بقية المقالة…
هل للموت مشكلة حقيقية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل للموت مشكلة؟ أوليس الموت واقعة ضرورية كلية لابد لكل فرد أن يعانيها يوماً ما؟ أو لسنا نعرف جميعاً هذه الواقعة، لأننا نشاهدها لدى الآخرين؟
لكي يكون في مقدور الباحث الجاد أن يتحدث عن “مشكلة الموت”، وأن يتبين على أي نحو يمكن أن تكون للموت مشكلة حقيقية، عليه أن يبدأ بتحديد معنى “مشكلة” من ناحية، وأن ينظر نظرة ـ إجمالية من غير شك ـ إلى معنى “الموت” من ناحية أخرى. حتى إذا ما استطاع أن يتبينه، تيسر له أن يحدد عناصر هذه المشكلة ومداها، سواء من الناحية الوجودية العامة ومن الناحية الحضارية.
لكي نفهم معنى “مشكلة” يجب أن نُميز أولاً بين: إشكال Problematique وبين مشكلة Probleme. الإشكال صفة تُطلق على كل شيء يحتوى في داخل ذاته على تناقض، وعلى تقابل في الاتجاهات، وعلى تعارض عملي. أما المشكلة فهي طلب هذه الإشكالية بوصفها شيئاً يُحاول القضاء عليه. هي الشعور بالألم الذي يُحدثه هذا الطابع الإشكالي، وبوجوب رفع هذا الطابع وإزالته. هي تتبع هذه الإشكالية كما هي ذاتها أولاً، ثم محاولة تفسيرها تفسيراً يصدر عن طبيعة الشيء المشكل وجوهره. المشكلة تتضمن إذاً شيئين: الشعور بالإشكال ومحاولة تفسيره.
الحياة مثلاً تتصف بصفة الإشكال بطبيعتها، لأنها نسيج من الأضداد والمتناقضات. ولكنها ليست مشكلة بالنسبة إلى الرجل الساذج الذي ينساق في تيارها دون شعور منه بما فيها من إشكال، ودون محاولة ـ بالتالي ـ للقضاء على هذا الإشكال. وذلك لأن الشعور بالإشكال يقتضي من صاحبه أن يكون على درجة عليا من التطور الروحي، وأن يكون ذا فكر ممتاز على اتصال مباشر بالينبوع الأصلي للوجود والحياة، وأن يكون إلى جانب هذا كله على حظ عظيم من التعمق الباطن الذي تستحيل معه المعرفة إلى معرفة وحياة معاً. وبقدر هذا الحظ تكون درجة الإدراك. فضلاً عما يقتضيه الموضوع المشكل من شروط صادرة عن طبيعته هو الخاصة، دون غيره من الموضوعات المشكلة الأخرى.
فإذا أردنا الآن أن نُطبق هذا على الموت، وجدنا أنه يتصف أولاً: بصفة الإشكال. فمن الناحية الوجودية يُلاحظ: أولاً، أن الموت فعل فيه قضاء على كل فعل. وثانياً، أنه نهاية للحياة بمعنى مشترك. فقد تكون هذه النهاية بمعنى انتهاء الإمكانيات وبلوغها حد النضج والكمال، كما يُقال عن ثمرة من الثمار إنها بلغت نهايتها، بمعنى تمام نضجها واستنفاذ إمكانيات نموها. وقد تكون هذه النهاية بمعنى وقف الإمكانيات عند حد، وقطعها عند درجة، مع بقاء كثير من الإمكانيات غير متحقق بعد. وقد تكون بمعان أخرى، نُفصلها في أجزاء أخرى من هذا العرض.
وثالثاً، إنه إمكانية معلقة، إن صح التعبير، بمعنى أنه لابد أن يقع يوماً. هذا يقيني لا سبيل إلى الشك فيه، ولكنني من ناحية أخرى في جهل مطلق فيما يتعلق بالزمان الذي سيقع فيه. يقول باسكال: “إنني في حالة جهل تام بكل شيء، فكل ما أعرفه هو أنني لابد أن أموت يوماً ما، ولكنني أجهل كل الجهل هذا الموت”!
ورابعاً، أن الموت حادث كلي كلية مطلقة من ناحية، جزئي شخصي جزئية مطلقة من ناحية أخرى. فالكل فانون، ولكن كلا منا يموت وحده، ولابد أن يموت هو نفسه، ولا يمكن أن يكون واحد آخر بديلاً عنه. وهذا عين مصدر الإشكال من ناحية المعرفة، إذ لا سبيل إلى إدراك الموت مباشرة بوصفه موتى أنا الخاص، لأنني في هذه الحالة ـ حالة موتى أنا الخاص ـ لا أستطيع الإدراك. ومعنى هذا أيضاً أنني لا أستطيع أن أدرك الموت إدراكاً حقيقياً، لأن إدراكي للموت سينحصر حينئذ في حضوري موت الآخرين ومشاهدة الآثار الخارجية التي يُحدثها الموت.
ومثل هذا الإدراك ليس إدراكاً حقيقياً للموت كما هو في ذاته، بل هو إدراك للموت في اثاره. ولا أستطيع أن أقول هنا إنني عند محاولتي إدراك الموت أضع نفسي موضع الآخرين الذين يموتون، لأن المرء لا يمكن أن يحمل عبء الموت عن غيره. هذا إلى أنه لو سلمنا جدلاً بإمكان إدراك موقف المرء بالنسبة إلى الموت، فإن هذا لا يفيدني شيئاً في معرفة حالة الميت نفسه، وإنما يخبرني عن حالة المُحتضر فحسب، لا عن حالة الموت نفسها. لا سبيل لإدراك حقيقة الموت!
وهكذا نرى أن الموت كله إشكال من الناحية الوجودية ومن ناحية المعرفة!
الشرط الأول إذاً قد تحقق، وأعني به وجود الإشكال. فمتى يكون الموت مشكلة إذاً؟ يكون الموت مشكلة حينما يشعر الإنسان شعوراً قوياً واضحاً بهذا الإشكال، وحينما يحيا هذا الإشكال في نفسه بطريقة عميقة، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه. ويحاول أن ينفذ إلى معناه من حيث ذاته المستقلة. يقتضي هذا كله أشياء من الناحية الذاتية، وكذا من الناحية الموضوعية.
• من الناحية الذاتية: يقتضي لمن يمكن أن يصير الموت عنده مشكلة:
أولاً: الشعور بالشخصية والذاتية: 1ـ لأنه بدون هذا الشعور لا يستطيع الإنسان إدراك الطابع الأصلي الجوهري للموت، وهو أنه شخصي صرف، ولا سبيل إلى إدراكه إدراكاً حقيقياً إلا من حيث أنه موتى أنا الخاص. ولا يبلغ الشعور بالشخصية والوحدة درجة أقوى وأعلى مما هو في هذه اللحظة، لحظة الموت، لأنني أنا الذي أموت وحدي، ولا يمكن مطلقاً أن يحل غيري محلى في هذا الموت. ولهذا نجد أنه كلما كان الشعور بالشخصية عند الإنسان أقوى وأوضح، كان الانسان أقدر على ادراك الموت، وعلى أن يكون الموت عنده مشكلة. ولهذا أيضاً لا يمكن أن يكون الموت مشكلة لمن يكون ضعيف الشعور بالشخصية..
والنتيجة لهذا هي أن البدائي والساذج، نظراً إلى ضعف شعورهما بالشخصية، لا يمكن أن يصير الموت بالنسبة لهما مشكلة. واللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى إنسان ما، هي اللحظة التي تؤذن بأن هذا الإنسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية، وبالتالي قد بدأ يتحضر. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائماً ميلاد حضارة جديدة، فإن ما يصدق على روح الأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات. وهذه فكرة قد فصل فيها اشبنجلر وأوضحها تمام التوضيح. ولهذا أيضاً كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت، وهذا الإضعاف للشخصية أظهر ما يكون في حالتين:
حالة إفناء الشخصية في روح كلية، وحالة إفناء الشخصية في “الناس”!
فكل مذهب في الوجود يفنى الشخصية في الروح الكلية لا يستطيع أن يدرك المشكلة الحقيقية للموت، وهذا ما فعله مذهب المثالية، وخصوصاً في أعلى صورة بلغها هذا المذهب، ونعني بذلك المثالية الألمانية وعند هيجل بنوع أخص.
فإن الفرد بالنسبة إلى المثالية ليس له وجود حقيقي في ذاته، وإنما الوجود الحقيقي هو وجود المطلق، ولا قيمة وجودية للفرد إلا من حيث كونه مشاركاً في وجود المطلق، أياً ما كان الاسم الذي نعطيه لهذا المطلق: فسواء سميناه “الأنا المطلق”، وهو الأنا الذي يضع نفسه بنفسه، كما فعل فشته. أو سميناه “الروح الكلية”، وهي تلك “الصورة” التي تعرض نفسها على مر الزمان كما فعل هيجل ـ فإن هذا من شأنه أن يحجب عنا إحدى المميزات الجوهرية للموت، ونعني به ارتباطه بالفردية أو الشخصية أو الذاتية كل الارتباط. ولهذا لم يقدر لهذه المثالية أن تضع للموت مشكلة، وإن وضعتها لم تضعها وضعاً حقيقياً. وإذا كان هيجل نفسه قد عنى بهذه المشكلة عناية كبيرة، فإن مصدر هذه العناية لم يكن مثاليته، وإنما كان مصدرها عوامل أخرى أجنبية عن المثالية خضع لها هيجل.
ثانياً: فكرة الشخصية تقتضي بدورها فكرة الحرية، فلا شخصية حيث لا حرية، ولا حرية حيث لا شخصية. وذلك من ناحيتين:
1ـ أنه لا مسئولية إذا لم توجد الشخصية، ولا مسئولية إذا لم توجد الحرية، فلا وجود للشخصية إذن إلا مع الحرية.
2ـ أن الحرية هي الاختيار، ولا اختيار إلا بالنسبة إلى شخصية تُميز.
فإذا كانت الشخصية تقتضي الحرية، والموت يقتضي الشخصية، فإن الموت يقتضي الحرية. ويتضح هذا أكثر حينما ننظر إلى طبيعة الحرية وطبيعة الموت، فنرى حينئذ أن الحرية هي الإمكانية، كما أن الموت هو الإمكانية، بل هو الإمكانية المطلقة. وعلى هذا، فإنه من ناحية الإمكان أيضاً الموت والحرية مرتبطان أوثق ارتباط، وقدرة الإنسان على أن يموت هي أعلى درجات الحرية.
ومن هذا الارتباط بين الموت وبين الحرية نستطيع أن نستنتج أن كل المذاهب التي لم تقل بالحرية الشخصية على وجه التحديد ـ لم يكن حظها أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً. وهذا أيضاً من العوامل التي شوهت مشكلة الموت في المثالية الألمانية، لأنها وإن قالت بالحرية، فإنها لم تفهم الحرية على أنها الحرية الفردية، وإنما فهمتها على أنها الحرية الكلية ـ إن صح هذا التعبير ـ، فإنها تقول بحرية بالنسبة إلى الله، وبالنسبة إلى الكل، الأنا المطلق أو الروح المطلقة، لا بالنسبة إلى الإنسان الفرد، وأما ما هنالك من حرية في الأفراد فما هي إلا مظاهر متعددة لحرية واحدة هي الحرية الكلية، وليست حرية بالمعنى الحقيقي!
كما لاحظ هذا أيضاً أحد أتباع هذه المثالية في الدور المتأخر من أدوار تطوره الروحي ونعني به فردريك شلنج في الدور الأخير. فقد قال شلنج إن فكرة المثالية عن الحرية فكرة صورية جوفاء يجب أن تستبدل بها فكرة واقعية حية، هي أن الحرية هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد. أي أنه لابد للحرية أيضاً أن تكون قدرة على فعل الشر، وإلا ـ أي إذا اقتصرت على فعل الخير وحده ـ فإنها لن تكون حينئذ حرية. ومن هنا فإن الحرية بهذا المعنى لا يمكن أن تكون صفة من صفات الله عند من لايجوزون على الله فعل الشر. ومن هنا جاء الارتباط الوثيق بين الحرية وبين الخطيئة: فحيث لا توجد الخطيئة لا توجد الحرية، وحيث توجد الحرية توجد الخطيئة بالضرورة..
ثالثاً: عن طريق هذا الارتباط بين الحرية والموت من جهة، وبين الحرية والخطيئة من جهة أخرى، كان الارتباط بين الخطيئة وبين الموت. والارتباط بين الخطيئة وبين الموت قد بلغ أول درجة عليا من درجات التعبير عنه في المسيحية، وصُور أصرح تصوير في عبارة القديس بولس: “بواسطة إنسان نفذت الخطيئة إلى العالم، وعن طريق الخطيئة نفذ الموت”. فهذه العبارة تدلنا على أن المسيحية نظرت إلى الموت على أساس أن مصدره الخطيئة، أى أنها أدركت منذ ابتدائها ما هنالك من صلة وثيقة جداً، صلة العلة بالمعلول، بين الموت وبين الخطيئة.
وهي قد ربطت بينهما أيضاً عن طريق فكرة الحرية الفردية، خصوصاً إذا لاحظنا أن الحرية الفردية تحتل مقاماً عالياً في الفكر المسيحي، ومصدر هذا ارتباط الحرية بالخطيئة: فإذا كانت فكرة الخطيئة تلعب الدور الأكبر في الحياة الروحية المسيحية، كان لابد إذاً من القول بالحرية الفردية بل وتوكيدها، ما دامت هي مصدر الخطيئة. وهكذا نرى أنه قد توافرت للمسيحية هذه العناصر الثلاثة الضرورية لوضع مشكلة الموت: ونعني بها الشخصية، والحرية، والخطيئة.
أى أن الناحية الذاتية كان من شأنها أن تهيئ للمسيحية أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً، إن توافرت إلى جانب الناحية الذاتية الناحية الموضوعية.
• من الناحية الموضوعية:
يُقصد بالناحية الموضوعية أولاً إدراك أن الوجود يقتضي بطبيعته التناهي، حتى يمكن أن يُنظر إلى الموت نظرة حقيقية على أساس أنه عنصر مكون في الوجود. وإلا، فإن الموت لن يكون له اذاً مكان داخل نظرة الانسان إلى الوجود، وانما سيكون شيئاً عرضياً يمكن إغفاله. وهذا هو السبب في أن الذين نظروا إلى الموت هذه النظرة لم يستطيعوا أن يضعوا المشكلة الحقيقية للموت. وعلى رأس هؤلاء جميعاً أفلاطون، فبرغم عنايته بالموت، وقوله عن الفلسفة انها تأمل للموت، لم يستطع أفلاطون وضع المشكلة الحقيقة للموت، على خلاف ما يعتقده البعض.
فالذى يقصده أفلاطون بقوله هذا هو أن الموت هو الوسيلة التى بها يتيسر بعد ذلك للفيلسوف أن يفكر جيداً، وذلك لأن حياة الفيلسوف عند أفلاطون هي حياة متجهة دائماً إلى تأمل الصور أو المُثل، ولا يتيسر تأمل الصور تأملاً حقيقياً ما دامت النفس سجينة في البدن، فلابد من الخلاص من البدن ـ أى لابد من الموت ـ، حتى يكون في مقدور المرء أن يتأمل الصور دون أن يشوه عليه هذا التأمل مشوه. فكأن الموت في نظر أفلاطون إذاً جسر ومعبر ينتقل بنا من حياة النفس في البدن إلى عالم الصور. هو ابتداء أولي من أن يكون نهاية، لأنه ابتداء للحياة الروحية الحقيقية. حياة النفس حياة تأمل للصور. هو على وجه العموم باب يفتح على الأبدية. فلا يمكن إذن لمن ينظر إلى الموت هذه النظرة أن يجعل منه مشكلة.
وإنما يكون الموت مشكلة من الناحية الوجودية حينما يكون في نظر المرء من جوهر الوجود، وجزءاً جوهرياً مكوناً له. وهذه ناحية أدركتها المسيحية، فقال القديس بولس في نفس الآية السابقة: “وهكذا نفذ الموت في جميع الناس”، أى أن الموت عنصر مكون للوجود. وعن طريق هذا كله استطاعت المسيحية لأول مرة أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً من حيث أن الموت مشكلة فحسب. ولكنها حينما أرادت أن تعرف هذا الموت من حيث ماهيته اختلطت بالنظرة الأخلاقية، بل وضُحي بالنظرة الأولى، وكاد النظر أن يصرف عنها لحساب النظرة الثانية.
حتى أوشكت الناحية الوجودية أن تختفي بتأثير الناحية الأخلاقية، خصوصاً أنها قد وقفت من الناحية الأخلاقية موقفين. فقالت عن الموت إنه شر وقالت عنه إنه خير. أى أنه شر بوصفه ابن الخطيئة وهو خير من حيث أنه الواسطة بين المتناهي واللامتناهي، بين الانسان وبين الله، إذ هو أصل الفداء. ولذا كان الشعور الذى يتم به ادراك ماهية الموت مزدوجاً: فهو قلق من ناحية بوصف الموت شراً، وهو سرور بوصفه خيراً من ناحية أخرى. وكانت نتيجة هذا أنها لم تستطع أن تصل إلى إدراك ماهية الموت إدراكاً حقيقياً، ما دامت لم تأخذ بالمصدر الأصلى الحقيقي للمعرفة فيما يتعلق بالموت، ونعني به القلق! وعلى كل حال، فإن المسيحية استطاعت أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً، ولهذا كان لها أثر كبير في جميع الفلاسفة، الذين حاولوا من بعد وضع مشكلة الموت.
والعلة في أن النظرة الأخلاقية قد حالت بين المسيحية وبين إدراك الموت إدراكاً حقيقياً هي أن نظرتها إلى الموت بوصفه شراً جعلتها تنظر إليه على أنه مضاد للحياة، مع أنها قالت إنه عنصر مكون للوجود. فالواقع أن هذا القول إذا فسر تفسيراً وجودياً صرفاً، وبصرف النظر عن كل تقويم أخلاقي، يدل على أن الموت جزء من الحياة. وأنه ليس مضاداً لها. فلكي تكون النظرة إلى الموت صحيحة يجب أن تجعل الموت جزءاً من الحياة، وهذا ما فعلته فلسفة الحياة. خصوصاً عند أشهر ممثليها من الألمان. فقد قال فردريك نيتشة: “حذار أن تقول إن الموت مضاد للحياة”. ولكن كيف السبيل إلى جعل الموت جزءاً من الحياة؟
إن أصحاب المذهب الحيوي يقولون إنه ليس خارج الحياة شيء، فالحياة هي الكل. ومعنى هذا أن الموت يجب أن يُفسر أيضاً بالحياة وأن تُفسر الحياة بدورها بالموت. ولهذا يقول جورج زمل: “إن الحياة تقتضي بطبيعتها الموت، بحسبانه هذا الشيء الآخر الذى بالنسبة إليه تصير شيئاً، والذى بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته”. إن الحياة تقتضي الموت أيضاً إذاً، وما هو حي هو وحده الذى يموت وما الموت إلا حد للحياة، هو الصورة التى تلبسها الحياة وتحطمها من بعد، وهذه الصورة لا توجد في اللحظة الأخيرة فحسب، بل توجد في كل لحظة من لحظات الحياة، وتعين مضمون هذه اللحظات. هي صورة باطنة إذ توجد منذ بدء الحياة وبدونها ستكون الحياة منذ البدء شيئاً آخر. الموت باطن في الحياة ومُحايث لها إذاً، وليس عالياً عليها. الموت ليس حادثاً خارجياً عرضياً.
الخلاصة إذاً أن الموت حالة من حالات الحياة، حالة ضرورية تكون فيها الحياة منذ البدء، وهذا ما عبر عنه أحد كتاب العصور الوسطى في قصة الفلاح البوهيمي حين قال: “منذ أن يأتي الإنسان إلى الحياة، يكون بالفعل في شيخوخة الموت”. فالنهاية إذاً في حالة الموت هي كانتهاء النمو والنضج بالنسبة إلى الثمار، فنحن في هذه الحالة لانقول عن النضج إنه جاء دفعة واحدة وفي اللحظة الأخيرة التى تم فيها النضج، وكأنه شيء منفصل قد ألصق بالثمرة أو كأنه خاتم ختمت به، وإنما النضج فعل مستمر ابتدأ منذ ميلاد الثمرة واستمر يساير حياتها لحظة بعد لحظة حتى أتت نهايتها، وهي تمام النضج. ومثل هذا أيضاً يُقال عن الموت، فهو موجود متطور منذ بداية الحياة، هو مقارن للحياة إذن لا ينفصل عنها أنى وُجدت.
وهنا تنشأ مشكلة أخرى: فهل صحيح أن الموت مثل النضوج؟ هل صحيح أن النهاية هنا معناها التمام والكمال وتحقيق كل الامكانيات؟ نظن أن نظرة بسيطة إلى الطريقة التى بها يختار الموت ضحاياه تكفي لاقناعنا بعكس هذا، فهو تارة يطيل حياة الناس حتى لتكون قد استنفذت كل امكانياتها وزيادة. وطوراً آخر ـ لعله الأكثر حدوثاً ـ يقصر حياة الناس حتى لاتكاد هذه الحياة أن تكون قد حققت غير جزء ضئيل من امكانياتها، بينما ظلت بقية الامكانيات مؤجلة لاسبيل مطلقا إلى وفائها. ومعنى هذا أن النهاية يجب أن تُفسر تفسيراً آخر غير تفسيرها بأنها نضوج، تفسيراً إذن يجمع بين الوجود والموت من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يفترض وجود الموت في الوجود أو الحياة على صورة تطور نحو غاية، أعني أن الوجود يجب أن يُفسر من جديد على أنه يقتضي من حيث جوهره الفناء، وأن الفناء حالة وجودية يكون فيها الوجود منذ كينونته. وهذا معناه أيضاً إقامة مذهب في الوجود جديد على هذا الأساس، وهذا ما حاول أن يفعله هيدجر ثم ياسبرز.
بدأت هذه الفلسفة بحثها في الوجود بالكشف عن المصدر الحقيقي لمعرفة الوجود، فقبلت الوضع الذى وضعنا فيه ديكارت منذ أوائل العصر الحديث حين جعل الفكر أساس الوجود، مما أدى إلى قيام تلك المشكلة الكبرى ـ مشكلة نظرية المعرفة ـ وهي المشكلة التى تدور حول الصلة بين الذات والموضوع. فهل الموضوع من نتاج الذات، أو عال على الذات؟ وعلى أساس الوضع الذى اختاره المرء في نظرته إلى الصلة بين الاثنين قام المذهبان الرئيسيان في الفلسفة، وأعني بهما مذهب المثالية ومذهب الواقعية. واستمر النزاع قائماً بين المذهبين حتى جاء الألماني ادموند هُسرل في أوائل هذا القرن، فأقام بناء فلسفة جديدة هي فلسفة الظاهريات على أساس فكرة الاحالة المتبادلة. وخلاصة هذه الفلسفة هي أن هناك دائماً إحالة متبادلة بين الذات وبين الموضوع، فلا وجود للذات إلا من حيث كونها محيلة إلى الموضوع، كما أنه لا وجود للموضوع إلا على أنه محيل إلى ذات.
وحينئذ أتى تلميذه هيدجر فطبق هذه الفكرة على الوجود متأثراً من ناحية أخرى بمذهب الفعليين، فقال إن الوجود في هذا العالم بالنسبة إلى الأشياء وجود إحالة متبادلة على أساس أن كل شيء لابد أن يكون أداة لشيء آخر، أى “من أجل” شيء آخر، فإن الصلة إذاً بين الأشياء صلة “إهتمام”، بمعنى أن الانسان وقد قُذف به في هذا العالم سيجهل نفسه في هذا العالم، ولن يجهل هذه الأشياء التى هي مصدر عنايته وجزعه ومخاوفه وآماله. وإنما ستكون هذه الأشياء مصدراً “لاهتمامه” بها، أى معرفته إياها. ومن هنا فإن المعرفة لن تكون كما صورها الفلاسفة من قبل نوعاً من الانعكاس الخاص على النفس كما ينعكس أى شيء على مرآة، وانما ستكون المعرفة دائماً مطبوعة بطابع عاطفي انفعالي، فإذا أضفنا هذا العنصر العاطفي الانفعالي إلى صلة “الاهتمام” استحالت هذه الصلة إلى صلة “هم”.
نحن قد استعملنا حتى الآن كلمة “وجود” استعمالاً عاماً. والواقع أنه يجب أن يفرق بين نوعين من الوجود: النوع الأول هو ما يمكن أن نسميه باسم “الآنية”، وهي ترجمة لكلمة ألمانية Dasein من العسير أن نجد لها مُقابلاً دقيقاً في أية لغة أخرى من اللغات المعروفة لدينا، ومعناها وجود الأشياء حاضرة بالفعل. أما النوع الثاني فهو ما يمكن أن يُسمى باسم “الوجود الماهوي” Existenz، لأنه يقصد به ماهية الوجود. وهذه التفرقة تقوم على أساس التفرقة المشهورة والتى تلعب أخطر دور في الفلسفة، وأعني بها التفرقة بين الواقعية والامكانية: فالنوع الأول من الوجود هو الوجود الواقعي، والثاني هو الوجود الامكاني أو الماهوي.
ثمة خصائص رئيسية ثلاث “للآنية”: ـ فمن حيث أن الآنية تشير مقدماً إلى إمكانيات لم تتحقق بعد تسمى الصلة اضماراً وتصميماً. ـ ومن حيث أن الوجود الماهوي انتقل إلى حالة تحقق فصار “الآنية”، وإن كان جزء ضئيل من الامكانيات هو فقط الذى تحقق تسمى الصلة واقعية. ـ ومن حيث أن “الآنية” هي وجود بين أشياء أو وجود في العالم تسمى الصلة حينئذ سقوطاً.
نحن قد قلنا إن “الهم” هو الطابع الأصلي للوجود، ونقصد بالوجود هنا “الآنية”، فلابد إذن أن نجد في “الهم” هذه الخصائص الرئيسية الثلاث “للآنية”.
ولهذا نجد هيدجر يعرف “الهم” بأنه: “الوجود الذاتي/مع الامكان/ بالفعل/في العالم”. وواضح أن تعريف هيدجر لـ”الهم” يعبر عن تلك الخصائص الرئيسية: فقوله “مع الامكان” يعبر عن الاضمار والتصميم، وقوله “بالفعل” يعبر عن الواقعية، وقوله “في العالم” يعبر عن السقوط. أما قوله “الذاتي” فراجع إلى “الآنية”، فقد قلنا إن الاحالة المتبادلة هي طابع الوجود، أعني أن كل شيء لابد أن يُحيل إلى شيء آخر. إلا أن هذه الاحالة إلى آخر لا يمكن أن تستمر إلى غير نهاية، بل لابد أن تصل إلى شيء لا يحيل إلى غير ذاته، وهذا الشيء هو “الآنية”. فهو يحيل إذاً إلى ذاته، ومن هنا قلنا: “ذاتي” في تعريفنا للفظ “هم”. وخلاصة هذا كله أن “الآنية” في “هم” من أجل ذاتها، أو بعبارة أخرى “الآنية” مهمومة بامكانياتها الذاتية.
ثم إن هذه الصفات تشير إلى طابع أصلي آخر للوجود. فاننا إذا تعمقنا في معنى الصلة الأولى وهي صلة الاضمار والتصميم لوجدنا أنها تدل على أن “هذا الوجود” يضمر ويصمم إمكانيات ذاتية باستمرار، أو بعبارة أخرى أن “الآنية” في تصميم بالنسبة إلى ماهيتها. والتصميم إشارة إلى شيء لم يتحقق بعد بالفعل ويمكن أن يتحقق في المستقبل، ومعنى هذا أن هذه الصلة تتسم بسمة الاستقبال. وعلى العكس من هذا نجد أن الصلة الثانية، وهي صلة الواقعية، تدل بوضوح على أن التحقق للامكانيات قد كان، أعني أنها تتسم بسمة المضي. وأخيراً نجد الصلة الثالثة مطبوعة بطابع الحضور، لأنها تدل على الوجود حاضراً بين أشياء. فكأن “الآنية” إذاً تتسم بسمة الاستقبال والمضي والحضور أى بآنات الزمان الثلاثة، أى أن جوهر الوجود هو الزمانية، فالزمانية إذاً طابع أصلي آخر للوجود..
وهنا يلاحظ أن الزمان قد فسر تفسيراً جديداً. هيدجر قد ثار على التفسير المألوف للزمان على أساس أنه عبارة عن خط مستمر مقسم إلى آنات ثلاثة متتالية، كما ثار قبله بقليل برجسون واشبنجلر، نظراً لما في هذه النظرة الآلية للزمان من تشويه لحقيقته لأننا في هذه الحالة نتصور الزمان على أساس المكان، مع أن الزمان والمكان مختلفان كل الاختلاف. وكما نعت برجسون هذا الزمان متصوراً على هذا النحو بأنه زمان آلي، وصف هيدجر هذا الزمان بأنه زمان غير حقيقي، هو زمان الساعات والحياة العملية. أما الزمان الحقيقي فهو الزمان الوجودي أو الزمانية، وهو هذا الذى فسرناه منذ قليل، ومن هذا التفسير يتبين لنا بوضوح أن صفات الوجود الأصلية هي عينها صفات الزمانية. ومعنى هذا أن الوجود والزمان شيء واحد. فلننظر في ماهية هذا الزمان الوجودي أو الزمانية:
هيدجر يميز بين هذه الأحوال الثلاث للزمانية من حيث المرتبة فيجعل المرتبة الأولى للحالة الأولى وهي حالة المستقبل. فالزمانية الأصيلة الحقيقية تصير في حالة الزمانية ابتداء من المسنقبل الحقيقي، حتى انها لتوقظ الحاضر بأن تكون هي مستقبلاً قد كان، فالظاهرة الأولية للزمانية الأصلية الحقيقية إذاً هي المستقبل. ونستطيع أن نفسر هذا بعبارة أخرى فنقول: إن ماهية “الآنية” هي الامكانيات، والامكانيات أشياء لم تتحقق بعد، أى أنها في حالة الاستقبال. فالمستقبل إذن جوهر الوجود. ونظراً لأهمية المستقبل، علينا أن نحلل مضمونه.
في المستقبل تكون “الآنية” في حالة إضمار وتصميم وتوقع مستمر بالنسبة إلى ذاتها، نظراً إلى أن الوجود الكلي لم يتحقق بعد بتمامه بأن بقيت فيه إمكانيات أخرى لم تزل غير متحققة. ومعنى هذا أن “الآنية” ـ حالة المستقبل ـ لا يمكن أن تكون كلاً تاماً، بل لابد أن يوجد فيها باستمرار “نقص” بسبب عدم تحقق جميع الامكانيات. أى أن “الآنية”، على حد تعبير هيدجر، في حالة “تأجيل” باستمرار. وفكرة التأجيل هذه من بين الأفكار التى عني هيدجر بتعمق معناها إلى حد بعيد، نظراً لما لها من أهمية رئيسية بالنسبة إلى مشكلة الموت. وخلاصة ما قاله مارتن هيدجر في هذا التحليل أن معناها “ليس بعد”، وهذه يمكن أن تُفهم بمعنيين..
فقد تكون بمعنى أن شيئاً ليس في المتناول في لحظة ما، كما يُقال عن باقي دين لم يُدفع بعد، أى أننا في هذه الحالة نجزيء الشيء ونجعل منه أجزاء ميسرة الآن وأخرى ستأتي فتضاف ـ مجرد اضافة ـ إلى الأجزاء السابقة. وظاهر أن هذا المعنى لايمكن أن يكون المقصود من التأجيل حينما يُقال عن “الآنية” إنها في حالة تأجيل مستمر، لأن “الآنية” لا يمكن أن تُقسم إلى أجزاء هذا التقسيم الآلى، خصوصاً إذا لاحظنا أن المؤجل أو الذى “ليس بعد” عنصر جوهرى في “الآنية”، فهذا الوجود هو عينه مؤجله. وإذا كان كذلك، فإن من جوهر الوجود حينئذ هذا “الليس بعد” أو المؤجل، وهو موجود بوجوده. وهذا “الليس بعد”، الذى هو عنصر جوهري في الوجود، معناه النقص، أى أن “هذا الوجود” ينقصه شيء باستمرار، فهو إذن في حالة نقص مستمر. أجل، إن هذا “الليس بعد” إمكانية، ولكنها إمكانية ممتنعة التحقيق بالضرورة، لأنها عنصر جوهري في الوجود كما قلنا. بل هو أعلى درجة من درجات الامكانية، لأنه إمكانية عامة، ولكنه أيضاً أعلى إمكانية لأعلى امتناع، لأن الامتناع هنا مطلق.
خلاصة هذا كله أن من بين العناصر الجوهرية في الوجود يوجد عنصر الامكانية المطلقة. وهذا هو الموت. لأن الموت هو إمكان “هذا الوجود” أن لا يمكنه تحقيق حضور بعد، أو إمكانية الامتناع المطلق لهذا الوجود. وليس وراء هذه الامكانية حد، لأن الوجود لا يستطيع مطلقاً أن يتخطى الموت، وإنما يوجد دائماً من هذا الجانب من الموت ولا يمكن أن يكون وراءه. وما ليس له حد هو المطلق. إذن هذه الامكانية مطلقة. وعلى هذا فإنه لما كانت الامكانية إمكانية مطلقة، فالموت إذن هو الامكانية المطلقة للاامكانية المطلقة. وعلى هذا فإنه لما كانت الامكانية المطلقة للاامكانية المطلقة عنصراً جوهرياً في الوجود، فالموت إذن عنصر جوهرى في الوجود. فحيث يكون وجود، يكون بالضرورة موت.
وبهذا المعنى وحده يجب أن يُفهم الموت على أنه نهاية. فلفظ “نهاية” يُطلق بمعان عدة. فيقال مثلاً عن المطر إنه “انتهى”، بمعنى أنه انقطع انقطاع فناء. ويقال عن طريق في حالة بناء إنه “انتهى” هنا، بمعنى أنه انقطع ولكن لم يكمل بعد. ويقال ثالثاً عن طريق انتهى بناؤه إنه انقطع، أى ليس بعد هذا شيء منه باقياً. ويقال رابعاً عن لوحة تناولتها يد الفنان للمرة الأخيرة إنها انتهت، بمعنى أنها كملت وبلغت تمامها. ولا يمكن أن يقال عن الموت أنه انتهاء بأى معنى من هذه المعاني، لأنه لايوجد من بين هذه المعاني للنهاية ما يفترض في الشيء المنتهى أن الانتهاء موجود فيه منذ أن كان، بينما الموت ـ كما أثبتنا ـ موجود في الوجود منذ هو وجود أى منذ كينونته. وإنما يجب أن تفهم النهاية بالنسبة إلى الموت بمعنى أن الوجود منذ كينونته هو “وجود لفناء”. وتلك هي المشكلة الحقيقية للموت، فهي مشكلة تناهي الوجود جوهرياً.
ولكن توجد إلى جانبها مشاكل ثانوية للموت قد تفيد في دراسة هذا المشكلة الحقيقية، لكن بشرط أن يكون الأساس في بحث هذه المشاكل الثانوية هو المشكلة الحقيقية. وأول هذه المشاكل الثانوية للموت، تأتي المشكلة النفسانية للموت، وتدور حول البحث في الشعور الانساني نحو الموت، أولاً بازاء موت الذات الخاصة، وثانياً بازاء موت الآخرين. مع ملاحظة أن البحث في هذه المشكلة ليس بحثاً في الأحوال النفسية عند الميت، بل هي بالأحرى في الأحوال النفسية عند المحتضر.
كذلك يمكن البحث في الموت من الناحية التقويمية، فنبحث في هل الموت خير أم شر. ولكن بحث كهذا لا يتيسر إلا إذا بحثنا من قبل ماهية الخير وماهية الشر من الناحية الميتافيزيقية الوجودية. كما نستطيع أن نبحث في الصلة بين الموت وبين مسائل الالهيات، خاصة فيما يتعلق بوجود الله والخلق من العدم.
وهكذا نجد أننا نستطيع أن نقيم مذهباً فلسفياً عاماً على أساس مشكلة الموت ينقسم تلك الأقسام الأربعة التقليدية للفلسفة. فيتناول أولا الناحية الفلسفية بعنوان “ظاهريات الموت”، ويتناول ثانياً الناحية التقويمية بعنوان” تقويمية الموت”، وثالثاً الناحية الالهية بعنوان “الهيات الموت”، ويتناول رابعاً وفي الدرجة الأولى الناحية الوجودية بعنوان “وجوديات الموت”. وهذا كله بشرط أن تكون الناحية الوجودية لمشكلة الموت هي الأساس في كل بحث فيه، كما هو ظاهر مما قلناه.
إن جعل الموت مركز التفكير في الوجود يؤذن أيضاً بميلاد حضارة جديدة، لأن روح الحضارة تستيقظ في اللحظة التى تتجه فيها بنظرها إلى الموت اتجاهاً يكشف عن سر الوجود. فكأن منطق الحضارة إذاً ـ سواء بالنسبة إلى الحضارة الغربية وإلى الحضارة الجديدة ـ يؤذن بوجوب قيام هذا المذهب الجديد اليوم. بهذه الكلمات اختتم بدوي دراسته التشريحية لـ”مشكلة الموت”..
ملاحظات لابد منها:
ــــــــــــــــــــ
عبد الرحمن بدوي هو العملاق الذى يموت في وطنه، ويحيا خارجه!
الناس في بلادي ـ خاصة الشباب منهم ـ لا يعرفون الكثير عن هذا الفيلسوف المصري، وقد يكون لهم عذرهم في ذلك! لأنه فضلاً عن التحريم الذى يُحيط بالفلسفة والفلاسفة عندنا، قضى بدوي جُل سنوات عمره الخصب بعيداً عن مصرنا الحبيبة، لاستيائه الشديد من تخلف مٌخنث، أسهبت سيرته الذاتية المُهمة في تعريته(3)، لدرجة دفعت جورنالجي مصري ـ وياللحماقة ـ للتندر على فيلسوفنا بدوي، ومذهبه الوجودي، بقوله(4): “أنا أسب وأشتم إذن أنا موجود!”
في حوار له مع الجورنالجي نفسه، تحدث بدوي عن نفسه قائلاً(5):
“يبدو أن الكثيرين قد غاب عن بالهم أنني أزحف على جبهتين منذ إنتاجي العلمي الأول، الجبهة الأولى هي الجبهة الفلسفية الإنسانية (العامة والكلية) والجبهة الثانية هي الجبهة الإسلامية، ولا أعتقد أنني عندما أصدرت كتابي الأول عن نيتشه سنة 1939، ثم أصدرت كتابي الثاني عن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية، قد أتيت بذلك شيئاً نكراً.
“لقد اعتدت منذ بواكير حياتي الفكرية أن أسير على هذه الخطة حتى اليوم. فهذه المؤلفات الثلاثة التي ظهرت حول القرآن الكريم وحياة محمد والإسلام تلت كتابي ذي الأربعة أجزاء عن عمانويل كانت. وكتابي عن هيجل ثم موسوعتي الفلسفية وهكذا فعندما أضع مؤلفاً في الفلسفة العالمية لابد أن يعقبه كتاب آخر في الفكر الإسلامي.
“كم أود أن يفهم الناس على هذه الخطة حتى لا تنزلقوا في تفسيرات لا أساس لها من الصحة، كما قال أحمد بهاء الدين في مقالة له ـ ذات يوم ـ يفسر فيه اتجاه طه حسين وبعض معاصريه للكتابات الإسلامية في أخريات أيامهم بأنها نوع من الرجوع أو العودة إلى المنبع التي تتماشى مع تقدم السن!”
قارئي الكريم، إدراكاً مني لسمو مكانة عبد الرحمن بدوي في الفكر العربي المعاصر، أعمد في الملاحظات التالية لتثمين سيرة الرجل، وإسهاماته الفكرية:
1. مشوار بدوي الفكري وحديثه مع الجورنالجي المصري يُعطيان العديد من الانطباعات المُؤرقة! الانطباع الأول: تباعد وانفصال الثقافة العربية عن الحضارة الإنسانية، وكأن أبناء أمتنا العربية استثناءًا من ناموس الحياة! في حين أن أبناء أي أمة لم ولن يفضلوا غيرهم إلا بقدر ما يُضيفوا للتراث الإنساني. فللإنسان في كل زمان ومكان الحق ـ كل الحق ـ بأن يوجد وأن يتميز بقدر ما يُضيف للحياة، وبقدر ما يُسهم في دفعها إلى الأمام.
2. الانطباع الثاني: إمكانية اكتفاء محبي الحقيقة، في سعيهم لتزخيم ثقافتنا، بالزحف على جبهتي الحضارة الإسلامية والإنسانية، دون السعي لحرث التراث والاشتباك مع الحضارة الإنسانية! ففي سعيه الدؤوب لتزخيم حضارتنا، اكتفى بدوي بالإبحار في روائع الحضارتين الإسلامية والغربية، فضلاً عن اهتمامه برصد تاريخ ومظاهر التأثير المُتبادل بينهما! وهو ما قد يُغري غيره من محبي الحقيقة بإتباع النهج نفسه، ويثير التساؤل حول طبيعة تصور الرجل لكيفية التعاطي العربي مع إشكالية الوافد والموروث!
3. الانطباع الثالث: إمكانية اتخاذ محبي الحقيقة لمعايير ضبابية في الحكم على الأمور!! فأحكام بدوي في معاركه الفكرية العديدة لا تستند في معظمها لمعيار واضح! فعلى سبيل المثال، النقيصة الوحيدة عند الجورنالجي أنيس منصور ـ في رأي بدوي ـ هي حبه للمفكر المُجتهد عباس العقاد! الأكاديمي المرموق محمد أركون هو تلميذ الاستشراق ومشكوك في وطنيته! الأكاديمي فؤاد زكريا تقطر كتبه سُماً على الإسلام والمسلمين!
4. الانطباع الرابع: تواضع إسهام بدوي الفلسفى، مقارنة باسهام نظرائه من الموقظين العظام في الحضارات الأخرى، أو حتى مُقارنة بإمكانيات بدوي نفسه الفلسفية! صحيح أن طه حسين قال في مدح بدوي أثناء مناقشة رسالته لنيل الدكتوراه “الزمان الوجودي”(6): “لأول مرة نُشاهد فيلسوفاً مصرياً”، غير أني أظل على قناعتي بأن المفكر عبد الرحمن بدوي لم يتفلسف قدر اعتنائه بالفلاسفة، ومذاهبهم! ولشد ما يؤسفني هذا الأمر!
5. الانطباع الخامس: إمكانية تورط محبي الحقيقة في تلاسن ساذج مع أصحاب الفهم غير الفلسفي للأديان! فيلسوفنا بدوي أحجم على نحو غامض عن إيضاح التعريف الفلسفي للأديان؟ والأكثر إثارة للدهشة انه لم يكتف بالسكوت عن فلسفة الضرار، بل اتهم بعض مخالفيه بازدراء الأديان!
6. السؤال المُلح: هل يُعقل عدم إدراك الفيلسوف بدوي للبون الشاسع الفاصل بين الأصل الديني للإسلام وبين الإسلام كحضارة متكاملة؟! هل يُعقل أن يكون هذا قد حصل، رغم ما هو معروف عن الرجل من عبقرية فذة وشغف بالمعرفة، إلى جانب اعتزازه المُفرط بكرامته الشخصية واستقلاليته الفكرية، إضافة لعدم تكالبه على المناصب أو الجوائز والأوسمة..الخ!
7. صحيح أن الإسلام كحضارة كاملة نشأ وتطور في كنف الأصل الديني للإسلام، بيد أنه لا يصح أن تنسحب القداسة التي نعترف بها للأصل الديني على أمور هي من صميم الإسلام كحضارة كاملة، أعني حقوق الإنسان والتاريخ والسياسة والقانون والأخلاق…إلخ! أمور حياتية كهذه لا يصح أن تُشفر ضد النقد والتطوير! فحياة الإنسان في حراك دائم، ومن يحلم بتأبيد اللحظة يُراود المستحيل، ويُورث نفسه وأبناء حضارته العار والهوان!
8. أما بالنسبة لدراسة بدوي: “مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية”، والتي أوردنا في الجزئية السابقة عرضاً مُطولاً لها، فعنوانها ـ وكما نرى ـ يشي بعناية صاحبها بالفلسفة الوجودية، كونها أحدث “الموضات” الفكرية الرائجة إبان سفره إلى ألمانيا عام 1937 للدراسة، واعتقاد بدوي بكون الوجودية خير مذهب فلسفي يُطابق روح العصر آنذاك، ويُعبر عن حال الإنسان، ويهتم بكل ما يتعلق بالإنسانية. موقف كهذا لا يُحسب لبدوي!
9. الفيلسوف بدوي انبهر على ما يبدو بالمذاهب الفكرية الغربية، ولم يجرؤ على بناء مذهب فلسفي مُبتكر، تُلمس فيه تجربتنا الحضارية، ويرى معذبو أرضنا الطيبة في مرآته آلامهم، بل وخلاصهم إن أمكن! فالشائع في مجتمعاتنا المتخلفة أن نجد من يُميز نفسه على أنه وجودي أو ماركسي أو فيورباخي أو بنيوي أو تفكيكي أو سريالي..الخ! غير أن المُضحك حقاً هو أنك تجد بين هؤلاء الأتباع الأكفاء من هو أشد تشبثاً ورفضاً لنقد وتطوير المذهب الغربي من مُبتكر المذهب نفسه! ملكيون هم أكثر من الملك!
10. على أية حال، الوجودية، كبقية المذاهب الفلسفية (ومنها فكرنا الأنسني)، تُعنى ـ وعلى طريقتها الخاصة ـ بالإنسان، وحياة يعيشها ولم يطلبها!
11. لا يُقصد بالوجودية، وكما جاء في مُحاضرة لسارتر بعنوان “الوجودية مذهب إتساني”، سوى أن للانسان كرامة أكبر مما للحجارة أو المنضدة، لأنها تعنى أن يُقال إن الانسان يوجد أساساً ثم يُريد أن يكون، ويكون ما يريد أن يكون بعد القفزة التى يقفزها إلى الوجود!! الانسان يكون شيئاً، يمتد بذاته نحو المستقبل، وهو يعي أنه يمتد بها إلى المستقبل! فالانسان مشروع، مشروع يمتلك حياة ذاتية، بدلاً من أن يكون شيئاً كالطحلب(7).
12. هدف الوجودية إذن، وكما يتضح من كلمات الفيلسوف الوجودي سارتر، هو تعميق وعي الانسان بذاته، وبالحياة التي أُعطيت له، ولم يطلبها! من هنا، يأتي حرصنا على تثمين دراسة بدوي لـ”مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية”، والإفادة منها في تزخيم معالجتنا للمشكلة نفسها في ثقافتنا(8).
لنبدأ من حيث انتهى بدوي:
ـــــــــــــــــــــــــــ
الفلسفة الوجودية، وعلى خلاف فكرنا الأنسني، تتسم بقدر يُعتد به من الغموض والتعقيد! ولا عجب، فروادها الأوائل استندوا في بنائها، وكما يتضح من عرضنا لدراسة بدوي، إلى ميراث فلسفي ضخم، يصعب توافره في الحضارات غير الغربية. كما أن صيتها ذاع في مجتمعات، ملآى بالأحرار ومحبي الحقيقة.
بعبارة أخرى، يمكن تفهم الغياب المنطقي لتجربتنا الحضارية عن الفلسفة الوجودية، كون الوجودية لا تُعنى بخلق وعي الإنسان بذاته وبالحياة، بقدر ما تُعنى بتعميق هذا الوعي! بُناة الوجودية ـ على ما يبدو ـ افترضوا قدراً يُعتد به من الوعي بالذات وبالحياة لدى المُتلقي الغربي وهم على حق فيما ذهبوا إليه!
الفلسفة الوجودية إذن مُحاولة لتعميق وعي الإنسان بذاته وبالحياة! ولا أدري كيف لمجتمعات كمجتمعاتنا العربية المتخلفة، أن تتمكن من تثمينها، في ظل ولع أبنائها الكارثي بـ”العبودية المُختارة”، وتسيد “تُجار الآلام” و”فلاسفة الضرار” للدوائر الفكرية والأكاديمية، ناهيك عن افتقاد مجتمعاتنا المنكوبة لبنية تحتية فلسفية، تسمح بحرث التراث والاشتباك مع الحضارة الإنسانية، على نحو مؤثر.
في دراسته لـ”مشكلة الموت”، خلص العملاق بدوي إلى النتائج التالية:
• الموت إشكالية، من الناحية الوجودية، ومن ناحية المعرفة.
• يكون الموت مشكلة حينما يشعر الإنسان ـ أي إنسان ـ شعوراً قوياً واضحاً بإشكال الموت، وحينما يحيا هذا الإشكال في نفسه بطريقة عميقة، وحينما ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه. ويحاول أن ينفذ إلى معناه من حيث ذاته المستقلة. يقتضي هذا كله أشياء من الناحية الذاتية (الحرية/الشخصية/الخطيئة)، وكذلك من الناحية الموضوعية.
• ثمة حاجة لإقامة مذهب فلسفي عام على أساس مشكلة الموت، ينقسم إلى الأقسام التقليدية للفلسفة، فيتناول:
1ـ الناحية الفلسفية بعنوان “ظاهريات الموت”.
2ـ الناحية التقويمية بعنوان” تقويمية الموت”.
3ـ الناحية الإلهية بعنوان “إلهيات الموت”.
4ـ الناحية الوجودية بعنوان “وجوديات الموت”.
نتائج عديدة ومهمة لدراسة بدوي، ملت إنتظار من يحرص على تثمينها!
بالنسبة لي، أكتفي هنا بتطبيق بعض مقولات دراسة بدوي على مجتمعاتنا، بغية التعرف على مدى قوة ووضوح شعورها بإشكال الموت، وهل يحيا هذا الإشكال في نفوس أبنائها بطريقة عميقة، وهل ينظرون إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه. وهل يحاولون النفاذ إلى معنى الموت من حيث ذاته المستقلة.
من مقولات دراسة بدوي انه كلما كان الشعور بالشخصية أقوى وأوضح، كان الانسان أقدر على إدراك الموت! وكل إضعاف للشخصية يُشوه حقيقة الموت!
تخلف شعوبنا وضعف شخصيتها، لابد إذن وأن يُشوه ادراكها للموت!
فكرة الشخصية تقتضي بدورها فكرة الحرية، فلا شخصية حيث لا حرية، ولا حرية حيث لا شخصية. وذلك من ناحيتين: 1ـ أنه لا وجود للشخصية إذن إلا مع الحرية. 2ـ أن الحرية هي الاختيار، ولا اختيار إلا بالنسبة إلى شخصية تميز. من هذا الارتباط بين الموت والحرية، نستطيع أن نستنتج أن كل المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا المتخلفة، التي تكتفي شعوبها بالحرية الموضوعية، دون الذاتية، لم يكن حظها أن تُدرك مشكلة الموت على نحو حقيقي غير مشوه.
في مقالتي الأخيرة(9): “أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية”، أوضحت كيف أن الانسان الشرقي عموماً، والانسان العربي على وجه الخصوص، ينظر إلى الأوامر والقوانين على أنها شيء ثابت مُحدد ومُجرد، يخضع له في عبودية مطلقة، وأنه لا يتعين أن تلبي هذه القوانين أمانيه، وبالتالي فإن المواطنين يكونون للأسف أشبه بالأطفال الذين يُطيعون آباءهم بغير إرادتهم أو بصيرتهم الخاصة!
الحرية عندنا موضوعية لا ذاتية! الدولة هي الحياة الروحية الكلية التي يرتبط معها الأفراد بمولدهم بعلاقة ثقة ويعتادونها ويتمثل وجودهم وواقعهم الحقيقي فيها. العربي يفتقر إلى البصيرة، والإرادة، والشخصية. إنه يفتقر إلى الحرية الذاتية، التي لا تتحقق إلا في الفرد، ولا تتجسد إلا في وعيه بحرية عقله وقلبه. إنه حر بقدر ما يُسمح له، ولا يجرؤ على الدخول المُنفرد لملكوت الحرية.
مجتمعاتنا المتخلفة لا تعرف من الحرية إلا حرية الحاكم، أي حرية القوى الحاكمة! أبناء أمتنا لديهم قناعة راسخة انه انما ينهض بالأمة مستبد عادل، يتمتع هو وحده بالحرية الذاتية، بينما يُسمح لبقية أفراد المجتمع بالحرية الموضوعية.
الحالمون بالمُستبد العادل يفتقرون دوماً إلى البصيرة والإرادة والشخصية وينفرون ممن يسعى لاضاءة عقولهم وقلوبهم بمصابيح الحرية. الحالمون بالمستبد العادل/البطل المُخلص في أوطاننا لا يدخلون، بل لا يجرؤن حتى على مجرد التفكير في دخول ملكوت الحرية، دون اذن! البطل العربي بائع لصكوك الحرية!
فهم مُخنث كهذا للبطولة والحرية لابد وأن يقترن بادراك مشوه للموت!
الحرية هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد. بمعنى آخر، لابد للحرية أن تكون قدرة على فعل الشر وإلا فإنها لن تكون حينئذ حرية.
من هنا جاء الارتباط الوثيق بين الحرية وبين الخطيئة: فحيث لا توجد الخطيئة لا توجد الحرية، وحيث توجد الحرية توجد الخطيئة بالضرورة. وعن طريق هذا الارتباط بين الحرية والموت من جهة، وبين الحرية والخطيئة من جهة أخرى، كان الارتباط بين الخطيئة وبين الموت. والارتباط بين الخطيئة وبين الموت قد بلغ أول درجة عليا من درجات التعبير عنه في المسيحية، وصُور أصرح تصوير في عبارة القديس بولس: “بواسطة إنسان نفذت الخطيئة إلى العالم، وعن طريق الخطيئة نفذ الموت”. فهذه العبارة تدلنا على أن المسيحية نظرت إلى الموت على أساس أن مصدره الخطيئة، أى أنها أدركت منذ ابتدائها ما هنالك من صلة وثيقة جداً، هي هنا صلة العلة بالمعلول، بين الموت وبين الخطيئة.
هي أيضاً قد ربطت بينهما عن طريق فكرة الحرية الفردية، خصوصاً إذا لاحظنا أن الحرية الفردية ـ وبحسب دراسة بدوي ـ تحتل مقاماً عالياً في الفكر المسيحي، ومصدر هذا ارتباط الحرية بالخطيئة: فإذا كانت فكرة الخطيئة تلعب الدور الأكبر في الحياة الروحية المسيحية، كان لابد إذاً من القول بالحرية الفردية بل وتوكيدها، ما دامت هي مصدر الخطيئة. وهكذا نرى أن الناحية الذاتية كان من شأنها أن تهيئ للمسيحية أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً، إن توافرت الناحية الموضوعية إلى جانب الناحية الذاتية، ونعني بها الشخصية، والحرية، والموت.
قارئي الكريم، لن أتطرق هنا للعلاقة بين الخطيئة والموت في ثقاقتنا العربية، لأنه ـ ومقارنة بالمجتمعات الغربية مثلاً ـ ثمة غموض نسبي يكتنف هذه العلاقة، يزيد من حدته إحجام “فلاسفة الضرار” عن تعهده بالبحث الفلسفي!
قلنا سلفاً إن الانسان في مجتمعاتنا المتخلفة يفتقر إلى البصيرة، والإرادة، والشخصية. قلنا أيضاً إنه يفتقر إلى الحرية الذاتية، التي لا تتحقق إلا في الفرد، ولا تتجسد إلا في وعيه بحرية عقله وقلبه. إنه حر بقدر ما يُسمح له، ولا يجرؤ على الدخول المُنفرد لملكوت الحرية. إنه في انتظار أبدي لباعة صكوك الحرية!
وهكذا، ومادامت الحرية الذاتية، والتى هي مصدر الخطيئة أو هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد، مهيضة الجناح في ثقافتنا العربية إلى هذا الحد المُتطرف، فلابد إذن وأن يتشح إدراك مجتمعاتنا للموت بالتشوه! صفوة القول ان ضعف الناحية الذاتية في ثقافتنا، وأعني بها الشخصية والحرية والخطيئة، ينال بشدة من قدرتنا على وضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً!
من مقولات دراسة بدوي أيضاً ما يتعلق بالناحية الموضوعية: انه لكي تكون النظرة إلى الموت صحيحة، يجب أولاً أن تجعل الموت جزءا من الحياة، وإلا فلن يكون له مكان داخل نظرة الانسان إلى الوجود، وإنما سيكون شيئاً عرضياً يمكن إغفاله! ويجب ثانياً ألا تجعل الموت مُضاداً للحياة، على نحو ما تفعل المسيحية!
ثقافتنا العربية ـ وكما هو واضح ـ استطاعت أن تضع الموت وضعاً حقيقياً من حيث أنه مشكلة فحسب. القرآن يقول(10): “كل نقس ذائقة الموت”.
ثقافتنا العربية نفسها، حينما أرادت أن تُعرف هذا الموت من حيث ماهيته اتسمت نظرتها للموت بتشوه مُرعب، يجد المرء اثاره في كل زاوية من حياتنا!
ولمن لا يستسيغ كثيراً زعمنا بوجود ارتباط وثيق بين انحطاط مجتمعاتنا العربية وبين تشوه نظرتها للموت، أقول: ليست الفكرة مجرد معنى ذهني، ولكنها تحتوي في ذاتها على قوة دينامية قادرة على أن تحرك الأفراد، والشعوب، وتدفعهم إلى الاتجاه لتحقيق غايات بعينها، وخلق الأنظمة التى تساعد على ذلك.
أنظر إلى مجتمعاتنا العربية مثلاً، تجد هرماً من الأفكار الحاكمة ـ وفي مقدمتها نظرتنا للموت ـ، يُتهم في شرفه وكرامته من يتصدى لنقده وتطويره، كونه مُحاطاً بسياج مُخيف من الاجلال والتوقير، رغم تأثيره الشديد على حياة أمتنا وصياغة مستقبلها، وتحديد علائقها الاجتماعية. والسؤال الذى يفرض نفسه: هل من الحكمة أن تُترك هذه الأفكار الحاكمة ليبثها فينا من يشاء ويُبلورها في ضمائرنا من يشاء؟ أم أن الحكمة أن يُخلى بين مُحبي الحقيقة عندنا، وبين هذه الأفكار(التى يمتزج فيها الشعور باللاشعور وما هو غيبي بما هو واقع..الخ).
مواطن التشوه في النظرة العربية للموت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنه لأمر طبيعي أن ترسخ في وجدان كل فرد نظرة الموت العامة السائدة في مجتمعه. فإذا ما طبق الفرد هذه النظرة السائدة على زواله شخصياً، لاعتنق كإنسان وجهة النظر عينها. وهذا ما يفعله غالبية الناس بنجاح، إذ أن أول ما يقابلون هي النظرة العامة مصحوبة بأوسع ما يمكن من القوة والسلطان والهيبة.
ما يحدث هو أن الجميع ـ فيما عدا الشخص نفسه ـ يستطيعون التفكير في موته على أنه موت شخص آخر غيرهم. أما بالنسبة للميت، فإن موته شخصياً إن هو إلا خبرة خاصة به وحده لا يستطيع المجتمع أن يتدخل أو يشترك فيها، وعلى هذا يعجز عند إصدار حكمه عليها. الجهد الفلسفي حتمي إذن لتوضيح أن الانسان إنما يموت وحده، في خلوة وانفراد. وكذا تعرية مواطن التشوه في نظرة المجتمعات للموت. من هنا، أحرص في هذه الجزئية على تعرية أبرز مواطن التشوه في نظرة مجتمعاتنا العربية المتخلفة للموت، على أمل الاسهام في محوها.
• خلف باب الموت الموصد إله قاس كاره للحرية والأحرار!
الديانة الإسلامية ـ وهي الآن الأكثر انتشاراً بين العرب ـ تبدو بسيطة واضحة في الركن الأول من أركانها، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. ومعنى هذا في الاسلام هو أن الله وحده هو الاله الحق دون سائر الآلهة التى كان يعبدها أهل مكة. شهادة لا إله إلا الله لم تتعرض لماهية الله، وإنما تعرضت فقط لبيان مقامه.
وعلى هذا فلفظ الجلالة “الله” كان ولا يزال اسم العلم الذى يُطلق على الخالق عند المسلمين. وهو يقابل ـ بحسب ماكدونالد ـ كلمة “يهوه” Yahwe عند اليهود، لا كلمة “إلوهيم” Elohim. وليس لكلمة “الله” جمع، وإذا أراد المسلمون الكلام عن الآلهة بالجمع فإنهم يلجئون إلى جمع كلمة “إله”، وهي إسم جنس يُرجح ماكدونالد أن كلمة الله اشتقت منه. القرآن الكريم يستعمل هذا الجمع عند كلامه عن الآلهة الأخرى، التى كان أهل مكة يشركونها مع الله (سورة الأنعام، الآية 19). وقد حذا المسلمون حذو كتابهم المقدس في ذلك، ولو أنهم ـ فيما يبدو ـ آثروا أن يُطلقوا على تلك الآلهة اسم الأصنام أو الأوثان تمييزاً لها.
على أنه وإن كان اسم “الله” واحداً عند أهل مكة وعند النبي محمد ـ كما ذكرت تواً ـ، فإن تصورهم لحقيقة الله لابد وأن يكون مختلفاً اختلافاً بيناً. فالواضح أن أهل مكة بوجه عام لم يكونوا يخافون الله، وإنما خوفه كان من أركان الديانه الاسلامية. كان أهل مكة يظنون الله بعيداً عنهم بُعداً عظيماً، في حين يقول القرآن إن الله قريب جداً في كل لحظة، بل هو أقرب إلى الناس من حبل الوريد (سورة ق، الآية 16). أهل مكة لم يترددوا في عصيان الله وعبادة آلهة أقل شأناً. في حين عرفت رسالة النبي محمد الله بأنه الملك، المنتقم الغيور، وأنه سيحاسب الناس من غير شك ويعاقبهم في اليوم الآخر، وبذا تحولت تلك الفكرة الغامضة عن الله إلى ذات لها خطر عظيم(11). شرارة الخوف من الله في مُجتمعاتنا، وجدت على مر القرون، من ينفخ فيها ويؤججها، لتصير نيراناً تأكل الرحمة.
القرآن الكريم أتى بالحقيقتين الكبيرتين، وهما قدرة الله على كل شيء ومسئولية الانسان، وأن الصالحات يُثاب عليها والطالحات تُجازى. وقد جاهد المفكرون المسلمون بلا كلل لايجاد حل لهذا التناقض الظاهر. غير أن الصراع على ما يبدو حُسم بدربة وصرامة لصالح مُناهضي حرية البشر وباعة الأوهام، رغم أنه لايمكن للانسان في هذه المرحلة من تطوره أن يحسم هذه القضية والتى ليست قصراً على الاسلام وإنما تعرضت لها كل الأديان، فهي قضية عامة(12)!
من هنا، يشيع في مُجتمعاتنا العربية المتخلفة أن خلف باب الموت إله قاس، يكره الحرية والأحرار، يُثيب الجبناء فحسب، أما النبلاء فيُصليهم عذاب الجحيم! إله لا يبلغ مجده إلا على جماجم الثوار، وصراخ “مُحبي الحقيقة” في قاع الجحيم!
ما أشقانا نحن العرب بهذا الفهم المُشوه للخالق العظيم. لا يمكن أن يكون الله عز وجل بمثل هذه البشاعة والشراسة. إلهنا الرحيم يوجد حيث يسكن النور! كيف أصدق أن إلهاً عظيماً كإلهي، يمكن أن يعاملني بمثل هذه القسوة والوحشية! لا أصدق أن لالهي الرحيم مُعتقلات تُنافس في بشاعتها “سجن أبو غريب العراقي” و”سجن العقرب المصري” و”مُعتقل جوانتانامو الأمريكي” و”سجن المزة السوري”!
• الحياة “أمة”، تُشتهى وتُعاشر، لكن لا تُعامل كـ”حرة”:
الوجدان العربي مُتشبع على نحو كارثي بقناعة بالية مفادها أن الانسان مخلوق آثم، شقي بالفطرة، يرفل في الشقاء، وأن العالم سيصل إلى نهايته يوماً ما، وأن ليست الحياة على الأرض غاية في ذاتها، ولكنها أشبه بتمهيد للجنة أو الجحيم. الوجدان العربي لا يستريح لفكرة وجود مستقبل زاهر للبشر الفانين!
الحياة عند شعوبنا تُسرع الخُطى نحو الفناء، والزمن يسير حتماً نحو الأسوأ! السلف لا يُعوض! والاستثمار الرابح لا يكون إلا في “ما وراء الموت”!
غير أن المدهش هو عدم نجاح قناعات كالمذكورة تواً في لجم تكالب أصحابها على مظاهر الرفاهة بمختلف أنواعها! بل والأكثر إثارة للدهشة هو عدم خُلوها من خطر عظيم، إذ غالباً ما تُتخذ كحجاب لستر دناءة أصحابها. فضلاًً عن وقوفها حائلاً دون إحترام أصحابها للحياة، وإحجامهم عن اثرائها ودفعها للأمام.
الحياة عندنا إذن “أمة” أو “بغي”، يقضى المرء منها لبانته، ثم يُلقي بها في عرض الطريق متاعاً للآخرين! يالنذالة وانتهازية تعامل أمتنا البائسة مع الحياة!
إن كلاً منا، معشر البشر، على الأرض في زيارة عابرة، نجهل سببها، ولكننا نعتقد في قرارة أنفسنا أننا نحس ونُدرك هذا السبب! بالنسبة لي، أراني قانعاً اننا هنا من أجل أولئك الذين نستمد كل سعادتنا من ابتسامتهم وبهجة حياتهم، فلذات أكبادنا وأحباؤنا، وكذلك أيضاً من أجل الجمع الغفير من الناس الذين وإن كنا لا نعرفهم، تربطنا وإياهم روابط الرفقة الإنسانية. إننا هنا للدفاع عن الحرية، هدية الله للبشر. الخصائص التي تتكون منها طبيعتنا البشرية، والتى تُميزنا عن بقية الكائنات المُحيطة بنا، إنما مُنحت لنا وأُعطيت كبذرة، يجب أن نستثمرها.
حياتنا الداخلية والخارجية تعتمد على جهود معاصرينا وأسلافنا، ولذلك حتماً علينا أن نسعى ما وسعنا بأن نرد جميلهم بقدر ما نلنا ومازلنا ننال من ثمرات جهودهم. مظاهر النجاح الظاهري، كالرفاهة المادية والشهرة، كلها بضاعة تعسة. الحياة أخطر من أن تكون مُجرد تمهيد للجنة أو الجحيم. الحياة رسالة(13).
إنها لقصيرة وعاجزة حقاً، حياة الانسان، فقد قُضي عليه اليوم أن يفقد أحباءه، وقُضي عليه أن يلتقي نهر حياته ـ هو نفسه ـ غداً صحراءه! يحدد الانسان معنى حياته يما يُضيفه إلى الانسانية. غير أن الانجاز أو بلوغ المأرب ليس المصدر الوحيد لمعنى الحياة! لأنه لو كان الأمر كذلك، لوجد أولئك الذين يُحرمون من إنجاز عمل، أن حيواتهم خلو من المعنى، لامناص. ولكن هناك أولئك الذين يؤدون عملاً تافهاً أو ضئيلاً، ويجدون ما يكفي من معنى للحياة في خبرة حبهم عندما يحبون ويحبون. في وسع الانسان أن يبقى كائناً بالرغم من عدم انجاز أى شيء فوق الحفاظ على ذلك التواصل الرائع، مع “الله” ورفاق الطريق!
لدى كثير من الناس شعور أو لعله اعتقاد وهمي، بأنهم مكلفون برسالة من نوع خاص عليهم إنجازها! الاقتناع بوجود مهمة يحول بينهم وبين الاحساس بالضياع والعدم. للحياة معنى ما دام الانسان مستمراً في الرقي وفي دفعها للأمام.
إن مجرد وجودنا على قيد الحياة قيمة. وعار ثقيل علينا، معشر العرب، أن نشتهي الحياة ونُعاشرها كـ”أمة”، وهي “الحرة الأبية”! ما الحياة إلا وقفة عز، وإذا كان لابد لنا أن نموت، فلنمت نبلاء، على حد تعبير الراحل النبيل إيميه سيزير!
• ديمقراطية الموت لا تُجيز ديمقراطية الثروة والنفوذ:
ثمة اصرار حديدي في ثقافتنا العربية المتخلفة على تحريم ووأد أية محاولة لمحاكاة ديمقراطية الموت وتطبيقها في ميادين أخرى كالثروة والنفوذ والسلطة! أتذكر نصاً قرأته للمفكر المصري فؤاد زكريا، لشد ما يعضد زعمنا. قال الرجل عما أسماه بالاسلام البترولي(14): “لا يجد الاسلام البترولي أي تناقض بين دعوته إلى شمول الشعائر(كالصلاة والحج..الخ)، ونشرها على كافة المستويات، وخصوصية الثروة والنفوذ وفردية القرار السياسي. انه باختصار، إسلام يوظف لحماية المصالح البترولية للقلة الحاكمة، وحلفائها من الدول الأجنبية المستغلة”!!
فعلاً، لشد ما يُعضد حديث فؤاد زكريا عن “الاسلام البترولي” زعمنا المذكور تواً بأنه ثمة اصرار في ثقافتنا المٌتخلفة على تحريم ووأد أية محاولة لمحاكاة ديمقراطية الموت، وتطبيقها في ميادين أخرى كالثروة والنفوذ والسلطة!
تفرقة صارمة كهذه بين ديمقراطية الموت والشعائر وبين ديمقراطية الثروة والنفوذ والقرار السياسي، تعكس تشوهاً مُخيفاً في النظرة العربية للموت، لسببين: أولاً، تحقير هذه النظرة للـ”حياة” في عيون أبناء ثقافتنا، وابرازها في صورة العاجز عن محاكاة “ديمقراطية الموت”! ثانياً، تفريغ النظرة نفسها لواقعة الموت من مغزي أبدع طاغور في وصفه(15): “فكرة أن الحياة ليست شيئاً دائماً ساعدتني على تنوير ذهني، إننا لسنا سجناء إلى الأبد خلف سياج الحقائق المُتحجرة!”..
التفلسف هو أن تتعلم كيف تموت(16):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قارئ هذه الجزئية، لابد وأن يكون قد طالع ولو مقالة واحدة من تلك التى أنشرها بين الحين والآخر على “الانترنت”، وأتعهد فيها مذهبي الأنسني بالنقد والتطوير! فأنا في هذه المقالة، وخروجاً على عادتي، لن أعرض لمذهبي إلا بقدر ما يخدم ما أريد قوله هنا! وللقارئ الكريم أن يعود لمقالاتي إن هو أراد المزيد!
ليس لكاتب هذه المقالة، ولا لغيره من محبي الحقيقة، الحق في ادعاء القدرة على صياغة نظرة للموت وما وراءه لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. لا لشيء، وإنما لكون الموت وما وراءه مشكلة تجريبية، ليست لدينا معشر البشر بينة تجريبية عنها. إنها مسألة تتعلق بالحقيقة والتى لا مكان لها سوى صدر الاله. كل ما نملكه إذن، ونرمي إليه، نحن محبو الحقيقة، هو حماية أنفسنا ورفاق الحياة، من مُشعلي حرائق الخوف. التفلسف هو خير وسيلة لقهر الخوف من الموت!!
خلصنا فيما سبق إلى ان ضعف الناحية الذاتية في ثقافتنا، وأعني بها الشخصية والحرية والخطيئة، ينال بشدة من قدرتنا على وضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً! كما خلصنا أيضاً إلى أن ثقافتنا العربية استطاعت أن تضع الموت وضعاً حقيقياً من حيث أنه مشكلة فحسب. بيد أنها حينما أرادت أن تُعرف هذا الموت من حيث ماهيته اتسمت نظرتها للموت بتشوه مخيف، يجد المرء اثاره في زوايا حياتنا! وعضدنا ذلك بعرض موجز لأبرز مواطن التشوه في نظرتنا للموت.
والسؤال، الذى لابد وأنه يجول بصدرك قارئي الكريم بعد فراغك من قراءة ما سبق، هو: من المسئول عن اضعاف قدرتنا على ادراك الموت على نحو صحيح؟ ومن المسئول أيضاً عن انتاج وتكريس هذا الفهم العربي المُشوه للموت؟
الاغتراب الثقافي للذات العربية، والآخرية العربية/المحلية الآثمة، مسئولان ـ برأي فكرنا الأنسني ـ عن انتاج وتكريس هذا الفهم العربي المُشوه للموت..
في تثمينها لقدر الإنسان في الزود بشرف عن حرية عقله وقلبه، تذهب رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني إلى القول بأن تطور التاريخ الإنساني إنما يُعد نتاجاً لصراع طويل ومرير بين إنسان (ذات) لا يملك سوى حرية عقله وقلبه التي وهبه الخالق إياها، ليستعين بها على ترويض الحياة، وبين (آخر) يُصر على الاستئثار بالحرية، ليتسنى له العبث بمقدرات رفاق الحياة! فـ (الآخر)، في رؤيتي المُقترحة للفكر الأنسني، عادة ما يعمد إلى آليات بعينها لتكريس تنازل أخيه (الذات) عن حقه في نقد وتطوير ثقافته، أي طريقة حياته الشاملة، ليظل هذا الأخ المسكين (الذات) تابعاً ذليلاً طيلة مقامه في ضيافة الحياة، يستهلك فقط ما يجود عليه به عقل (الآخر)، حتى أنه بمرور الزمن، يفقد هذا التابع الذليل تماماً قدرته على النقد والتطوير ويُصبح مسخاً عاجزاً، لا يملك سوى الانتظار الابدي!
من هنا، يتضح ضلوع الآخرية العربية/المحلية، ومن خلفها الآخريتين العالمية والاقليمية في أمرين: أولهما، انتاج وترويج نظرة عربية مشوهة للموت، تبرر الممارسات اللاانسانية في حق الذات العربية، وتُضفي أيضاً شرعية عليها!
الأمر الثاني، هو اضعاف قدرة الذات العربية على محو التشوه الحاصل في نظرتها للموت، عبر ادامة اغترابها الثقافي، أي إدامة تنازلها عن حقها المشروع في نقد وتطوير ثقافتها. الاغتراب الثقافي للذات لابد وأن يُديم ضعف الناحية الذاتية(الشخصية والحرية والخطيئة) في ثقافتنا، على نحو ما هو حاصل.
ادراك أبناء ثقافتنا العربية للموت على نحو صحيح وصحي مرهون إذن بكسر نير اغترابنا الثفافي واستعادة حقنا المشروع في نقد وتطوير ثقافتنا، كبقية شعوب الأرض. ومرهون أيضاً بتعرية الآخرية العربية/المحلية والسعي لتفكيكها.
لم يعد مقبولاً أن يُشوه الله “الرحيم” في عيون أبناء أمتنا، فيتصورونه جلاداً قاسياً، يسومهم سوء العذاب إن عن لهم يوماً تحطيم نير اغترابهم أو تعرية مُشعلى حرائق الخوف من الله. الله لم ولن يكون جلاداً للأحرار! الحرية هدية الله للبشر!
اعتقادي بأن المحبة تطرد الخوف، يزيدني حباً في الله وثقة في رحمته! واعتقادي بأن “الضمير” هو صوت الله داخلنا، يجعلني حريصاً على الانصات له!
قارئي الكريم: الموت عندي نهاية الحياة، لحظتها الأخيرة، لكنه ليس هدفها! الموت عندي أن ينفتح أمامي باب يُطل على الأبدية، وأن يضمني وآلامي حضن “الألوهة” الرحب الرحيم! الموت عندي أن أغادر في هدوء ورضا عندما يُطلب مني الرحيل! أنا لم أطلب هذه الحياة، لكنني عشتها، وفعلت أفضل مالدي!
__________________
د. حازم خيري كاتب وباحث مصري
الهوامش:
__________________
(1) كثيراً ما يُقال إن الغزالي قضى على الفلسفة في الحضارة الاسلامية قضاءً مُبرماً، لم تقم لها بعده قائمة، وهو قول أراني أقره! غير أني أزيد عليه أن الغزالي بمواقفه الكارهة والمناهضة لحق أبنا حضارتنا الاسلامية في التفلسف (النضال من أجل الحقيقة)، يُؤرخ على الأرجح لميلاد “فلسفة الضرار”! وأعني بها الفلسفة حين تتنكب لمهمتها، وينتهي بها الأمر إلى التهافت في دوجماطيقية، في معرفةٍ موضوعة في صيغ، نهائية كاملة، تنتقل من واحد إلى آخر بالتعليم! فلسفة الضرار تُصيب هدفين: أولاً، إضعاف قيمة وأهمية نُشدان الحقيقة. وثانياً، إشاعة العُقم الفلسفي، فأقصى ما يستطيعه فلاسفة الضرار هو فهم الفلسفات القائمة والتشدق بمقولاتها! للمزيد راجع مقالتي: “فلسفة الضرار واقع كارثي”، منشورة على الانترنت.
(2) عبد الرحمن بدوي، الموت والعبقرية، (الكويت & بيروت: وكالة المطبوعات & دار القلم، بدون تاريخ).
(3) راجع: عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي 1&2، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000).
(4) انظر: سعيد اللاوندي، عبد الرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الاسلام، (القاهرة: مركز الحضارة العربية، 2001)، ص 51ـ53.
(5) نفس المرجع، ص 154ـ155.
(6) عبد الرحمن بدوي، الزمان الوجودي، (بيروت: دار الثقافة، 1973).
(7) للمزيد راجع: جان بول سارتر، ترجمة عبد المنعم الحفني، الوجودية مذهب إنساني، (القاهرة: مطبعة الدار المصرية، 1964).
(8) لا يختلف مفهوم الحضارة عن نظيره الخاص بالثقافة كثيرا، فكلاهما يشير إلى طريقة حياة شعب معين، غير أن الحضارة هي الكيان الثقافي الأوسع، أو بمعنى آخر هي أعلى تجمع ثقافي من البشر وأعرض مستوى من الهوية الثقافية يمكن أن يميز الإنسان عن الأنواع الأخرى. وهى تعرف بكل من العناصر الموضوعية العامة مثل اللغة، والتاريخ، والدين، والعادات، والمؤسسات، والتحقق الذاتي للبشر. وهناك مستويات للهوية لدى البشر، فساكن القاهرة قد يعرف نفسه بدرجات مختلفة من الاتساع: مصري، عربي، مسلم. والحضارة التي ينتمي إليها هي أعرض مستوى من التعريف يمكن أن يعرف به نفسه، أي أنها “نحن” الكبرى التي نشعر ثقافيا بداخلها أننا في بيتنا، في مقابل “هم” عند الآخرين خارجنا. وقد تضم الحضارات عددا كبيرا من البشر مثل الحضارة الصينية، أو عددا قليلا مثل الكاريبي الأنجلوفوني. وعلى مدى التاريخ وجدت جماعات صغيرة كثيرة ذات ثقافات مائزة وتفتقر إلى معين ثقافي أوسع لهويتها. وكانت الفروق تتحدد حسب الحجم والأهمية بين الحضارات الرئيسية والفرعية أو بين الحضارات الرئيسية والحضارات الجهيضة. وطبقا لهنتنجتون تتمثل الحضارات الرئيسية المعاصرة في الصينية، واليابانية، والهندية، والإسلامية، والغربية، والروسية الأرثوذوكسية، والأمريكية اللاتينية، فضلا عن الأفريقية. إلا أن الباحثين وإن اتفقوا بشكل عام في تحديدهم للحضارات الرئيسية في التاريخ وتلك الموجودة في العالم الحديث، فإنهم غالبا ما يختلفون على إجمالي الحضارات التي وُجدت في التاريخ. لمزيد من المعلومات راجع: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات ـ إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998)، ص 67 ـ 80.
(9) راجع مقالتي: “أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية”، منشورة على الانترنت.
(10) قرآن كريم، سورة العنكبوت، آية رقم 57.
(11) للمزيد راجع: ماكدونالد & كارديه، لجنة ترجمة دائرة المعارف الاسلامية، الله، (القاهرة: مطابع دار الشعب، 1979).
(12) راجع: و. مونتجمري وات، ترجمة عبد الرحمن عبد الله الشيخ، القضاء والقدر في فجر الإسلام وضحاه القرون الثلاثة الأولى، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، الألف كتاب الثاني، 1998).
(13) العبارة للمُفكر الايطالي الشهير متسيني راجع: جوزيبي متسيني، ترجمة طه فوزي وسامي محفوظ، واجبات الانسان، (القاهرة: دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع، سلسلة الألف كتاب، رقم 325، 1962).
(14) راجع: فؤاد زكريا، الحقيقة والوهم في الحركة الاسلامية المعاصرة، (القاهرة: القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ص27ـ34.
(15) رابندرانات طاغور، ترجمة صلاح صلاح، ذكرياتي، (أبو ظبي: منشورات المجمع الثقافي، 1995)، ص218.
(16) جاك شورون، ترجمة كامل يوسف حسين، الموت في الفكر الغربي، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1984)، ص 107.