عَــدْوَى الرَّحِــــــــــــيل موسم الهجرة إلى الشمال ونظرية “مــا بعـــد الاستعمار”

“إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جربته في

هذه القرية، مع هؤلاء القوم السعداء.ولكن أشياء مبهمة في

روحي وفي دمي تدفعني إلى مناطق بعيدة تتراءى لي ولا

يمكن تجاهلها. واحسرتى إذا نشأ ولداي، أحدهما أو كلاهما، وفيهما جرثومة هذه العدوى، عدوى الرحيل.”[1]

خيري دومة

1- موسم الهجرة / ما بعد الاستعمار

“موسم الهجرة إلى الشمال” كما هو معروف، رواية شهيرة للكاتب السوداني الطيب صالح، نشرها أواسط الستينيات في بيروت ثم في القاهرة[2]، وسرعان ما جازت شهرتها الآفاق لأسباب متنوعة، وازدادت هذه الشهرة بعد ترجمتها إلى الإنجليزية وغيرها من اللغات الحية.

          أما”نظرية ما بعد الاستعمار”، فواحدة من نظريات الـ”ما بعد”: ما بعد البنيوية، وما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وهي النظريات التي راحت – على مدار العقود الثلاثة الماضية – تتكاثر وتهيمن على الساحة الثقافية، وتنتقل من حقل من حقول الثقافة إلى آخر: من السياسة والاقتصاد، إلى الفلسفة، إلى الأنثربولوجيا، إلى التاريخ والجغرافيا، إلى العمارة ، إلى الأدب والنقد الأدبي.. إلخ.

          بين الموضوعين علاقات بديهية وواضحة نكاد نلحظها من العنوانين: عنوان الرواية (موسم الهجرة إلى الشمال) التي صدرت أولاً ، وعنوان تلك الحركة الثقافية (ما بعد الاستعمار) التي تبلورت بعد عقد على الأقل من ظهور الرواية ؛ فالموضوعان كلاهما – الحركة والرواية – يتأسسان على بعد زمني واضح، تعكسه كلمتا “مَوسِم” في عنوان الرواية و”بَعد” في عنوان الحركة.

          غير أن بينهما علاقات أكثر عمقًا وأشد تعقيدًا ؛ فالرواية – التي سبقت النظرية  – كانت بمثابة دراسة استكشافية، اعتمدت طاقات الفن الروائي، لترسم صورة مركبة للآثار اللاواعية التي تركتها حركة الاستعمار الأوروبي، على نفسيات الشعوب المستعمِرة والمستعمَرة على السواء، لاسيما نفسيات مثقفيها وعقولهم، سواء  خلال  فترة الاستعمار أو بعدها. أما نظرية “ما بعد الاستعمار”، التي تبلورت تمامًا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين – فقد نهضت على أكتاف مجموعة من المثقفين المنفيين، أو أولئك الذين هاجروا،  تمامًا مثلما هاجر مصطفى سعيد والراوي والطيب صالح نفسه، من الجنوب إلى الشمال، من البلدان المستعمَرة في آسيا وأفريقيا، إلى المركز الاستعماري، سواء القديم في أوروبا، أو الجديد في الولايات المتحدة. وهكذا نشأت نظرية ما بعد الاستعمار على يد مهاجرين من المستعمَرين، ولكن في استضافة المستعمِرين، وبموافقتهم، وبمساعدات حثيثة منهم. ودرست النظرية ما درسته الرواية من قبل، أي الآثار التي تركتها حركة الاستعمار على المستعمَر والمستعمِر.

          وقد حظي الموضوعان كلاهما (الرواية والنظرية) باهتمام بالغ، ولقيا من عناية الدارسين والمتابعين ما أفضى إلى حصاد هائل من الندوات والمقالات والكتب، وهو حصاد ربما يصعب على بحث سريع كهذا أن يحيط به.. أما العلاقة بينهما فلم تحظ بما فيه الكفاية من الدرس؛ إما لأن الرواية تثير موضوعات أخرى لها أهميتها وصداها، خاصة على المستوى الجماهيري، مثل موضوع الجنس ؛ أو لأن النظرية – التي تبلورت فيما بعد – بدت أكثر تركيبًا وغموضًا وحذلقة، فيما يتعلق بالإشكاليات التي طرحتها، والمصطلحات التي صكتها، والعلاقات المركبة التي دخلت فيها مع نظريات أخرى، وذلك في مقابل الإشكالية البسيطة التي طرحتها الرواية حول علاقة المستعمِر بالمستعمَر، وهي الإشكالية التي بدت في بساطتها عنيفة وعميقة وواضحة.

 العلاقة ما بين موسم الهجرة ونظرية ما بعد الاستعمار، وهي العلاقة التي سأحاول رصدها هنا، علاقة متبادلة؛ فكل منهما يبدو كأنه صدى للآخر. ورغم أن بينهما مسافة من الزمن، فإن بعض دارسي ما بعد الاستعمار قد عبروا بوضوح عن إعجابهم بالرواية واكتشافاتها[3]، كما أن الطيب صالح نفسه، كان قد عبر وفي وقت مبكر ، عن اتفاقه مع ما كتبه فرانز فانون (أحد المبشرين الأوائل بنظرية ما بعد الاستعمار) وثـمّن أفكاره عن عنف الاستعمار وآثاره الغائرة على المدى البعيد،  وهي الأفكار التي ظهرت للوجود أوائل الستينيات مواكبة لرواية الطيب صالح.

إن عنوان الرواية نفسه، موسم الهجرة إلى الشمال، يبدو توصيفًا حقيقيًا للحالة الإشكالية التي يمثلها مثقفو ما بعد الاستعمار ومنظروه. وربما تكون صيغة الهجرة إلى الشمال هذه،  أعمق من الصيغة التي  نجدها في عبارة سلمان رشدي، التي يتحدث فيها عن أطراف الإمبراطورية البريطانية القديمة في الهند وأفريقيا، التي أخذت ترد بقوة الكتابة على المركز الإمبراطوري الاستعماري في شكل كتابات ما بعد الاستعمار، وهي العبارة ذاتها التي أصبحت عنوانًا لواحد من أشهر الكتب وأكثرها تأسيسًا حول نظرية ما بعد الاستعمار، أعني كتاب : The Empire Writes Back    أو “الإمبراطورية ترد كتابةً” الذي صدر في نهاية الثمانينيات[4].

          يحار الباحث في الإحاطة بكتابات على هذا القدر من الاتساع والتنوع. لقد نهضت حركة الاستعمار الأوروبي  على طمس ثقافات الشعوب الأصلية، سواء في قارات العالم القديم في آسيا وأفريقيا، أو قارات العالم الجديد في أمريكا واستراليا. وقد عملت كل هذه الشعوب المتنوعة ثقافة وتاريخًا وجغرافيا، على مقاومة ما تعرضت له هويتها وثقافتها من طمس، ليس فقط عن طريق حركات التحرر الوطنية التي عرفناها، بل من خلال كتابات متنوعة امتدت على كل هذه المساحة من كوكب الأرض.

ورغم أن كل هذه الكتابات لا تكاد تدخل فيما يسمى الآن “نظرية ما بعد الاستعمار”، فإنها تشكل خلفية ضرورية قامت هذه النظرية على محاولة نقضها وتجاوزها. فإذا كانت هذه الكتابات المقاومة للاستعمار قد تأسست مثلاً على مقولة القومية ، فإن نظرية ما بعد الاستعمار –كما سنرى – تعمل على محاولة هدم هذه المقولة، وبيان عبثيتها ولا جدواها.

غير أن هذا لا ينفي الغزارة والتنوع في الحالتين على السواء، حالة كتابات مقاومة الاستعمار Decolonization التي جاءت من أصقاع الأرض المختلفة وغطت مجالات متنوعة، أو حالة نظرية ما بعد الاستعمار Postcolonial Theory التي جاءت أيضًا مهاجرة من أنحاء المستعمرات السابقة، لكنها تمركزت في أوروبا وأمريكا. وهذا التمركز في أوروبا وأمريكا، أعطاها من ناحيةٍ وضعيةً قلقة ممزقة تكاد تقف على شفا الخيانة، لكنه أعطاها من ناحية أخرى زخمًا نظريًا، استمدته من التفاعل مع أبرز الأفكار التي طرحتها مدارس الفكر الأوروبي الحديث، كالماركسية، خاصة في نقدها للأيديولوجيا، والبنيوية وما بعدها، ومدرسة التحليل النفسي، والنقد النسوي الصاعد .. إلخ.

لقد حظيت نظرية “ما بعد الاستعمار” وما يسمى”الدراسات الثقافية” باهتمام فائق خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وبدت كأنها إعادة نظر في تاريخ آداب الامبراطوريات السابقة، بحيث تشمل مستعمراتها التي كانت منتشرة في أنحاء العالم، وما أنتج في هذه المستعمرات من أدب بالإنجليزية على وجه الخصوص. كما بدت النظرية من ناحية أخرى، وكأنها إعادة نظر في ماهية الأدب وأنواعه وموضوعاته التي تستحق الدراسة النقدية الحديثة. ويكفي للتدليل على هذا أن نراجع الدوريات وسلاسل الكتب التي تخصصت في خطاب ما بعد الاستعمار في كل من بريطانيا وأمريكا، فضلا عن الأعداد الخاصة من كبريات المجلات النقدية في الغرب التي خصصت لمتابعة التطورات في هذا الحقل الناهض[5] .

وعلى الجانب الآخر، كانت رواية موسم الهجرة إلى الشمال قد لقيت، وفور صدورها، اهتمامًا واسعًا من قبل النقاد والدارسين. إن ما خصص لها من ندوات ومقالات وكتب لم يكن مجرد متابعات نقدية عاجلة من النوع العابر، بل دراسات معمقة، تستشعر في كل مرة ما أنجزته هذه الرواية من رؤية استكشافية، وتحاول استخلاص هذا المنجز الغامض. ولعلها الرواية العربية الوحيدة التي عقدت لدراستها وحدها، ندوةٌ دولية صدرت أعمالها في صورة كتاب أواسطَ الثمانينيات[6]. كما أنها الرواية العربية الوحيدة، إلى جانب أولاد حارتنا، التي اختيرت ضمن أفضل مائة نص أدبي في تاريخ الآداب[7].

2- ما بعد الاستعمار: تاريخ شائك ومصطلح ملتبس.

ما بعد الاستعمار مقولة سياسية في أساسها. إنه مصطلح مختصر يحاول العثور على قاسم مشترك بين مجتمعات العالم الثالث، التي تأسست على قوميات مختلفة نهضت في مواجهة الاستعمار الأوروبي وما تركه من آثار، كما يحاول المصطلح أيضًا العثور على قاسم مشترك بين ما أنتجته هذه المجتمعات من فنون وآداب. ولقد أصبحت دراسات ما بعد الاستعمار مجالاً مرموقًا منذ أواخر السبعينيات، وهو مجال أشعل شرارته جزئيًا كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد عام 1978، حين لفت الانتباه إلى الطريقة التي انتهجها الخطاب الأدبي الغربي في وصف “الشرق”، حيث نظر هذا الخطاب إلى الشعوب والثقافات غير الأوروبية بصفتها  “الآخر” بالنسبة للغرب، لا بصفتها جزءًا من الثقافة الكونية، تلك التي يمثلها الغرب وحده!!

هناك شبه إجماع بين الدارسين على الدور المؤسس الذي لعبه كتاب إدوارد سعيد عن “الاستشراق”، في صياغة اللبنات الأولى لنظرية ما بعد الاستعمار. فقد استدعى هذا الكتاب بما طرحه من أفكار، طائفة أخرى واسعة من الكتابات التي ناقشت هذه الأفكار، أو ردت عليها، أو طورتها، سواء كتابات اللاحقين من منظري ما بعد الاستعمار مثل سلمان رشدي، وهومي بابا، وجاياتري سبيفاك، أو من تصدوا للنظرية من منظور مخالف وكشفوا عن تناقضاتها، مثل إعجاز أحمد وعارف ديليرك. وقد شارك إدوارد سعيد نفسه بعد ذلك في تطوير النظرية وتأملها، ، من خلال كتاباته ومراجعاته المتعددة التالية لكتاب الاستشراق، وخاصة في كتب مثل “الثقافة والإمبريالية” و ” صور المثقف” و “تأملات حول المنفى” وغيرها. وكان أن انتهت هذه الكتابات جميعًا، وفي زمن قصير نسبيًا،  إلى بلورة حقل ثقافي جديد يعرف الآن باسم “ما بعد الاستعمار”

معظم مؤرخي ما بعد الاستعمار ودارسيه يرون في كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق عملا مؤسسا لهذا الحقل الثقافي؛ نظرًا للأدلة القوية التي ساقها على أن “الشرق” كان شيئًا من اختلاق الخطاب الغربي، وهو الخطاب الذي صاغ من الوجود الحقيقي والمتخيل لشعوب الشرق، صورةً خاصة متخيلة فانتازية إلى حد بعيد. وقد بذل سعيد جهدًا هائلاً في رصد أبعاد هذه الصورة  في خطاب الاستشراق، وكيف كانت – بطريقة ما – جزءًا غامضًا ومراوغًا من سياسة الاستعمار الأوروبي لبلاد الشرق.

 الاستشراق – كما يقول إدوارد سعيد في مقدمة كتابه – “طريقةٌ في التعامل مع الشرق، تقوم على المكانة الخاصة التي يحتلها الشرق في التجربة الغربية. فالشرق ليس مجرد مكان متاخم لأوروبا، بل هو أيضًا مكان لأعظم مستعمرات أوروبا وأغناها وأقدمها. إنه مصدر حضاراتها ولغاتها، وغريمها الثقافي، وواحد من أعمق تصوراتها عن الآخر وأكثرها إلحاحًا. أضف إلى هذا، أن الشرق قد ساعد في تحديد ماهية أوروبا ( أو ماهية الغرب) بصفته الصورة المقابلة، الفكرة والشخصية والتجربة المقابلة. غير أن ذلك لا يعني في النهاية أن الصورة التي صاغتها أوروبا عن هذا الشرق كانت مجرد صورة متخيلة … الشرق جزء مكمل للحضارة المادية وللثقافة الأوروبية. والاستشراق يعبر عن هذا الجزء، ويقدمه ثقافيًا، وربما أيديولوجيًا، وذلك باعتبار أن الاستشراق نوع من الخطاب تدعمه مؤسسات ، ومعجمات، وهيئات دراسية، ومخيلة، ومبادئ، وربما بيروقراطيات وأساليب استعمارية..”[8]

ولم يتوقف دور إدوارد سعيد هنا عند مجرد طرح هذه الأفكار المهمة؛ بل إنه كان أيضًا واضعَ الكثير من المصطلحات المؤسسة التي استخدمها الدارسون اللاحقون في مجال ما بعد الاستعمار، بما في ذلك مقولة صنع “الآخر” “الشرقي” طريقًا إلى تصور الذات “الغربية”. هذا فضلاً عن إسهاماته التالية، خاصة ما يتعلق بمصطلحات من قبيل “المنفى” و”المثقف” و”الهجنة”.

لقد دخل مفهوم “ما بعد استعماري” بمعناه الحالي إلى الخطاب النقدي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. بيد أن نظرية مقاومة الاستعمار وكذلك ممارسة هذه المقاومة أقدم من ذلك بكثير، وربما تعود إلى بداية حركة الاستعمار ذاتها.

 وإذا كان إدوارد سعيد هو مؤسس هذا الحقل المعرفي، فإن فرانز فانون هو المبشر الأول بنظرية ما بعد الاستعمار؛ نظرًا لأعماله عن سيكولوجية الاستعمار ومقاومته، وهي الأعمال التي ركزت على دور اللغات الاستعمارية ( بما في ذلك اللغة الفرنسية، لغته التي تعلمها في موطنه الأصلي في جزر المارتينيك) في بناء العقل المستعمَر. ولا تزال أعماله مقروءة ومؤثرة. وقد كان له تأثيره العظيم على الأجيال السابقة في ثورات العالم الثالث إبان الكفاح من أجل الاستقلال والتحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات. والمنافس الوحيد لفانون في هذا التبشير بنظرية ما بعد الاستعمار هو ألبرت ميمي، اليهودي التونسي الذي قدم في الفترة نفسها كتابه الصغير بعنوان “المستعمِر والمستعمَر”.

يمكن تقسيم عمل فانون رغم حياته القصيرة،  إلى ثلاثة مراحل: مرحلة البحث عن الهوية السوداء، ومرحلة النضال ضد الاستعمار، ثم مرحلة العمل على التخلص من آثار الاستعمار. وقد تشكل عمل فانون عن الهوية السوداء أثناء عمله في الطب النفسي، وتأثر هنا بعمق بكل من فرويد ولاكان. وهذه المرحلة من عمله يجسدها أحسن تجسيد كتابه ” بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” وهذا الكتاب يمكن اعتباره نموذجًا رائدًا في استخدام نظرية التحليل النفسي أداة نقدية في كتابة النظرية السياسية.

في هذا الكتاب يرى فانون أن الاستعمار، بإعلائه من شأن الجنس الأبيض على الشعوب غير البيضاء، قد خلق إحساسًا بالانقسام والاغتراب في هوية الشعوب المستعمرة غير البيضاء. ففي ظروف الاستعمار، تم اعتبار تاريخ المستعمر الأبيض، وثقافته ولغته وتقاليده  ومعتقداته، كونيةً ومعياريةً ومتفوقةً بالنسبة لثقافة المستعمَر،وهذا يخلق  إحساسًا قويًا بالدونية داخل ذات هذا المستعمَر، ويقوده إلى تبني لغة المستعمِر وثقافته وتقاليده في محاولة لمواجهة هذا الشعور بالدونية. يقول فانون:”ما إن أدرك أن الزنجي هو رمز الخطيئة، فإنني أضبط نفسي متلبسًا بكراهية الزنجي. لكنني أدرك فيما بعد أنني زنجي. وهناك طريقان للخروج من هذا الصراع: إما أن أطلب من الآخرين ألا يعيروا انتباها لبشرتي، أو أود لو التفتوا لها، وهنا أحاول أن أجد قيمة لما هو سيئ، بما أنني مقتنع بأن الرجل الأسود هو لون الشر. ولكي أنتهي من هذا الموقف العصابي الذي أجد نفسي فيه مضطرًا لاختيار حل غير صحي، حل صراعي قائم على الوهم والعداء، إنه باختصار موقف لا إنساني، ليس لدي هنا إلا حل واحد: أن أتعالى على هذه الدراما العبثية التي يلعبها الآخرون من حولي، أن أرفض المصطلحين معًا فهما غير مقبولين وبنفس الدرجة، وذلك للوصول إلى كائن إنساني كوني واحد”[9].

وفي مرحلة تالية، أي في كتابه “المعدمون في الأرض” The Wretched of The Earth  ، يركز فانون على العنف الضروري المصاحب لعملية تفكيك الاستعمار Decolonialisation ومقاومته. يقول: “مقاومة الاستعمار ظاهرة عنيفة على الدوام. وتفكيك الاستعمار هو – ببساطة شديدة – إحلال لأنواع معينة من الرجال محل أنواع أخرى، هو تحول كامل ومطلق ودون مراحل انتقالية. ودليل النجاح يكمن في تبدل البنية الاجتماعية كاملة من القاع إلى القمة. إن تفكيك الاستعمار ليس عصًا سحرية، ولا صدمة من صدمات الطبيعة، ليس تفاهمًا أخويًا. إنه كما نعرف عملية تاريخية. إنه لقاء قوتين متعارضتين أصلاً وبطبيعتهما. لقاؤهما الأول اقترن بالعنف، ووجودهما معًا ظل مقترنًا بالعنف على الدوام”[10].

ما فعله إدوارد سعيد إذن، كان تطويرًا لأفكار سبقه إليها دارسون كثيرون، لكنه كان أول من اقتحم موضوع الشرق والمستشرقين، وأول من ألقى –مستعينًا بجرامشي وفوكو – أضواء كاشفة على الآليات المراوغة التي استخدمها الاستعمار الغربي في السيطرة على ثقافات الشرق وأرضه. هذا ما يقوله سعيد نفسه في مراجعةٍ لكتابه: ” إن ما قلته في كتاب الاستشراق على كل حال، كان قد قيل مثله من قبل، لدى الطيباوي، وعبد الله العروي، وأنور عبد الملك، وطلال أسعد، والعطاس، وفانون، وسيزار، وبانيكار، وروميلا سابار .. كلهم عانوا من  دمار الإمبريالية والاستعمار، وكلهم تحدوا السلطات و تحدوا نشأتهم، وتحدوا مؤسسات العلم التي قدمتهم لأوروبا؛ فكان أيضًا أن عدوا أنفسهم شيئًا أكبر مما قاله ذلك العلم. التحدي الأكبر بالنسبة لكتاب “الاستشراق”، وللفترة الاستعمارية التي هو جزء عضوي منها، كان تحدي الصمت المفروض على الشرق كموضوع”[11].

بدأت دراسات ما بعد الاستعمار منذ فترة طويلة، ولا تزال فاعلة حتى اليوم، أما نظرية ما بعد الاستعمار فقد تبلورت في أواخر السبعينيات وعلى طول عقدي الثمانينيات والتسعينيات، على يد منظرين ودارسين محددين من قبيل إدوارد سعيد، وجاياتري سبيفاك، وهومي با با. ولم يعد لدي هذه النظرية الجديد الذي يمكن أن تقدمه. فقد تعرضت وتعرض أصحابها لانتقادات عميقة وواسعة، بعضها أخلاقي وبعضها علمي. هكذا يفرق جلبرت بين دراسات ما بعد الاستعمار ونظرية ما بعد الاستعمار، خاصة في خاتمة كتابه التي استعار عنوانها من رواية النيجيري شينوا أشيبي “الأشياء تتداعى” . وتشير خاتمة كتاب جلبرت  إلى مستقبل النظرية واتجاهها إلى الأفول، بسبب ما تنطوي عليه النظرية من تناقضات[12].

غير أنه لا فانون ولا إدوارد سعيد كان صاحب مصطلح “ما بعد الاستعمار”، وهو المصطلح الأساسي الذي يبدو أكثر المصطلحات خلافيةً. لقد استخدم المصطلح للمرة الأولى في مجال النظرية السياسية أوائل السبعينيات، وذلك لوصف مأزق الأمم التي تخلصت من سطوة الإمبراطوريات الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لكنه لم يكتسب معناه الذي نعرفه الآن، ولم يصبح تسمية لنظرية في الدراسات الثقافية والنقد الأدبي إلا خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. وحينما جاء كتاب “الإمبراطورية ترد كتابة” في أواخر الثمانينيات، بدأ المؤلفون الثلاثة كتابهم بتعريف للمصطلح على النحو التالي:

“ونحن نستخدم مصطلح “ما بعد استعماري” لنغطي كل الثقافات التي تأثرت بالعملية الإمبريالية من لحطة الاستعمار حتى يومنا الحالي؛ ذلك أن هناك خطًا متصلاً من الاهتمامات، على مدار ا لعملية التاريخية التي بدأها العدوان الإمبريالي.. ونحن نشير كذلك إلى ملاءمة المصطلح للنقد الجديد العابر للثقافات الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي تكوّن من خلاله ذلك النقد. وبهذا المعنى فإن كتابنا هذا يهتم بالعالم كما كان خلال فترة الهيمنة الإمبريالية الأوروبية وبعدها، وتأثير ذلك على الآداب المعاصرة… وعلى هذا النحو تكون آداب البلاد الأفريقية، واستراليا وبنجلاديش وكندا وبلاد البحر الكاريبي والهند … كلها آداب ما بعد الاستعمار… وما يجمع  بين هذه الآداب  – بعد سماتها الإقليمية الخاصة – أنها ظهرت بشكلها الحالي في أعقاب تجربة الاستعمار، وأكدت نفسها من خلال إبراز التوتر مع القوة الإمبريالية، وبالتركيز على ما يميزها عن فرضيات المركز الإمبريالي. وهذا هو ما يجعلها آدابًا ما بعد استعمارية”[13]

والحق أن غالبية الدراسات في نظرية ما بعد الاستعمار، تتحدث عن الاستعمار باعتباره  “تجربة” التقى فيها مختلفان، أحدهما بـ”الآخر”، مما أفضى إلى التأثير العميق فيهما معًا، وتغير مفاهيمهما معًا عن الحياة والفلسفة والأدب .. إلخ. ونادرًا ما ينظر إلى هذه التجربة باعتبارها تجربة صدام عنيف دام لم ينته، تجربة اقتحام وغزو كان تأثيرهما في اتجاه واحد، لمصلحة طرف وضد طرف آخر.

تجربة الاستعمار كما يراها هؤلاء، تجربة تاريخية تركت آثارها على الغرب/ الشمال المستعمِر، تمامًا كما تركت آثارها على الشرق /الجنوب المستعمَر. لقد أدت هذه التجربة وما صاحبها من صدمة اللقاء بين الحداثة الأوروبية من ناحية وأفريقيا البدائية من ناحية أخرى، إلى آثار هائلة على المجتمعات المستَعمَرة، مما قسم هويتها –في كل المجالات – قسمة لا سبيل إلى إصلاحها، ومما دفعها إلى الدخول في مواجهات وعملية بحث رعناء عن هويتها التي تشظَّت. غير أن هذه الصدمة تركت آثارها الهائلة أيضًا على اتجاهات الفن والفكر الأوروبي، وأدت – كما يقول مثقفو ما بعد الاستعمار – إلى إعادة اكتشاف الأوروبي لذاته في مرآة الآخر. وكأن تجربة الاستعمار قد أدت فيما أدت إلى نشوء منطقة لقاء وتفاعل بين نوعين من الحضارة وأسلوبين من أساليب التفكير. وهكذا دخلت دراسات ما بعد الاستعمار في عملية تأثير وتأثر مع الماركسية ونظريات الأيديولوجيا، ومع علم الأنثربولوجيا، وعلم النفس، ومع النزعة النسوية..إلخ.

حتى دراسات باختين عن الرواية أصبح ينظر إليها الآن جزءًا من رؤية ما بعد الاستعمار، ولم لا إذا كانت الرواية – من وجهة نظر باختين – نوعًا ينهض على “تعددية” الأصوات، والخيال “الديالوجي”، و”التهجين” من أنواع أدبية مختلفة؟ أليست هذه كلها مصطلحات قريبة من مصطلحات ما بعد الاستعمار؟ أليست الرواية نفسها نوعًا ما بعد استعماري يقوم على رفض “هيمنة” الصوت الواحد؟ ثم ألم يكن باختين نفسه واحدًا من أولئك المثقفين الدوليين المهاجرين، شأن مثقفي ما بعد الاستعمار؟ وحتى النقد الأمريكي الجديد، كان في وجه من وجوهه، استجابة أمريكية خاصة لتجربة الاستعمار وفكر ما بعد الاستعمار، لأنه كان بمعنى ما، محاولةً للتخلص من الموروث البريطاني، والانطلاق من النص وحده دون سياق[14]. هكذا يجد خطاب ما بعد الاستعمار طريقه إلى كل مدارس الفكر واتجاهاته، يعطيها ويأخذ منها.

وتحاول إحدى الدارسات أن تقدم تصورًا أكثر توازنًا، تعرض فيه للمشكلات التي يمكن دراستها في إطار دراسات ما بعد الاستعمار، وهي تصوغ هذا التصور على شكل مجموعة من الأسئلة، يتعلق السؤال الأول منها فقط بتأثير تجربة الاستعمار على المستعمِر والمستعمَر معًا. أما بقية الأسئلة فتنصرف لمعالجة تأثيرات التجربة المدمرة على حياة المستعمَر بمختلف مستوياتها، من الاقتصاد إلى التعليم إلى الثقافة إلى المجتمع ..إلخ:

“كيف أثرت تجربة الاستعمار على هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات ما بعد الاستعمار؟ وكيف أثرت النزعة الاستعمارية؟كيف أثر التعليم الاستعماري واللغة المستعمرة على ثقافة المستعمرات وهويتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة؟ما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل المستعمر؟ إلى أي مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا؟ هل تركز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمار على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية؟ هل ينبغي استمرار معاداة الاستعمار عبر العودة الحادة إلى الماضي السابق على فترة الاستعمار؟ كيف تلعب مسائل الجنس والنوع والطبقة دورًا في الخطاب الاستعماري وما بعد الاستعماري؟ هل حلت أشكال جديدة من الإمبريالية محل الاستعمار؟ وكيف؟”[15]

ومهما يكن من أمر الخلاف حول تعريفه، فإن خطاب ” ما بعد الاستعمار” قد أصبح عملة رائجة. وآية ذلك أن روايات سلمان رشدي وأمثاله من كتاب ما بعد الاستعمار من الآسيويين والأفارقة تحقق أعلى نسبة توزيع، وبعضهم يحصل على نوبل مثل سوينكا ونايبول وغبرهما. ومن آيات ذلك الرواج أيضًا أن أقسام اللغة الإنجليزية والفرنسية المنتشرة في كل أنحاء العالم، تجعل آداب ما بعد الاستعمار جزءًا حيويًا من مقرراتها الدراسية، وتبذل جهودها في صناعة الباحثين المتخصصين في هذا المجال.

 في أيامنا هذه يتم استخدام “نظرية ما بعد الاستعمار” فرعًا من مجال أوسع لا يقل عنها غموضًا في تسميته، أعني: “الدراسات الثقافية”. وقد أصبح المصطلح يشير الآن في العادة إلى مجمل ما ينتجه النقد والنظرية اليسارية، بما في ذلك النظرية الماركسية، ونظريتي جرامشي وفوكو، ومدارس فكرية نسوية متعددة، ونظريات أخرى. وما يجمع بين هذه المدارس الفكرية هو إلحاحها الدائم على تحليل علاقات القوة، وهي علاقات غير عادلة تتجلى في المنتجات الثقافية، مثل الأدب والسينما والفنون .. إلخ. وممارسو هذه النظريات يعدون أنفسهم منخرطين سياسيًا في عمل له علاقة بشكل أو بآخر مع عملية التحرر في العالم الثالث. وأولئك الذين يطلقون على أنفسهم “دارسي ما بعد الاستعمار” يرون أنفسهم جزءًا من حركة أوسع، حركة غير محددة ولا تخضع لتنظيم ما. وهدف هذه الحركة هو النضال ضد تأثير الأمم الأكبر والأغنى في الشمال، أي في أوروبا وأمريكا،  على الأمم الأفقر التي يعيش معظمها في نصف الكرة الجنوبي.

بيد أن هذه المزاعم التحررية قد لا تستقيم مع التناقضات الكامنة في المصطلح نفسه؛ فالمصطلح يتضمن وهمًا مؤداه أن الاستعمار قد انتهى، وأننا أصبحنا في مرحلة “ما بعد”، في حين أن معظم الأمم لا تزال خاضعة ثقافيًا واقتصاديًا للدول الصناعية الغنية، عبر أشكال متنوعة من الاستعمار الجديد،حتى وإن كانت مستقلة اسمًا، ناهيك عن العودة مؤخرًا إلى شكل الاستعمار العسكري القديم السافر.

أضف إلى ذلك أن هذه الطريقة في تسمية منطقة بحثية كاملة، هي طريقة أوروبية في الأساس؛ ذلك أن هذه التسمية تعني ضمنًا أن التجربة الاستعمارية هي الحقيقة الأهم بالنسبة للبلدان المستعمرة. وهي تجربة كان لها – ولا شك –  تأثيرها البالغ، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن كاتبًا من الهند، أو من مصر، أو غيرها من البلدان ذات التاريخ الأدبي والحضاري الطويل، سيجد نفسه مضطرًا للكتابة في إطار تجربة الاستعمار الأوروبي وحدها، أو حتى تجربة الخروج من هذا الاستعمار. هذا المنظور الأوروبي الكامن يتناقض تمامًا مع مزاعم التحرر من المركزية الأوروبية، وهي المزاعم التي تنهض عليها نظرية ما بعد الاستعمار.

لقد أصبحت دراسات ما بعد الاستعمار تنقسم الآن عمليًا وبحدة، وفقًا للغات المستعمِر الأوروبي نفسه، بحيث تتحول إلى مجرد تدعيم مواقف المركزية الأوروبية؛ فدراسات ما بعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية مثلاً، نادرًا ما تحتل مكانًا في أقسام اللغة الإنجليزية. كما أن الأدب الفرانكفوني في أفريقيا يتم تجاهله من قبل دارسي الأدب الأنجلوفوني في القارة نفسها. وهكذا تتم المبالغة في الدور الذي تلعبه إنجلترا وفرنسا ، فيحاول كل منهما أن يغطي على دور الآخر، ويحاول – قبل ذلك – أن يغطي على دور المناطق المستعمَرة نفسها.

مصطلح ” ما بعد الاستعمار” مصطلح ملتبس كذلك؛ لأنه يرسم حدودًا تحكمية، فبعض كتاب جنوب أفريقيا – نادين جورديمر مثلاً – يستبعدون عادة من دراسات ما بعد الاستعمار، لا لشيء إلا لأنهم من البيض، رغم أن أعمالهم قد تحتج بقوة على سياسة الفصل العنصري، ورغم أنهم ربما عاشوا في أفريقيا أكثر بكثير  من كتاب آخرين من السود، هاجروا إلى إنجلترا وأنتجوا معظم كتاباتهم هناك. كما يتم مثلاً إهمال طائفة ممتازة من الكتاب الهنود، لا لشيء إلا لأنهم لا يكتبون بالإنجليزية، بسبب إحساسهم بالتاريخ الطويل للهند وتقاليدها في الكتابة، وهو تاريخ لا يمكن قسره على الارتباط بفترة الإمبريالية البريطانية وحدها.

وهذا نفسه ما يمكن أن نجد نماذج منه في حالة العالم العربي ما بعد الاستعمار؛ فالذين يكتبون بالإنجليزية (من مصر أو من العراق أو من السودان) والفرنسية (من بلدان المغرب العربي) أو الذين يترجَمون إليهما على الأقل، سرعان ما يصبحون ممثلين لأدب العالم العربي ما بعد الاستعمار، خاصة إذا ما هاجروا إلى أوروبا وهاجموا حكوماتهم القومية المتخلفة والمستبدة، تلك التي ورثت التقاليد الاستعمارية وأعادت إنتاجها باسم الوطن والتحرر. وهكذا، ينظر إلى ما كتبه محمد ديب أو الطاهر بن جلون أو آسيا جبار  بالفرنسية – مثلاً – بصفته نموذجًا للكتابة العربية ما بعد الاستعمار، بينما لا ينظر إلى كتابة يوسف إدريس أو الطيب صالح أو يحي الطاهر عبد الله مثلاً، بصفتها نموذجًا لكتابة ما بعد الاستعمار، لا لشيء إلا لأنها بالعربية ولم يرها المركز الأوروبي. ما الذي يقرر هنا أنك من أدباء ” ما بعد الاستعمار”: مكان مولدك؟ كم من السنوات عشت بالخارج؟ اللغة التي تكتب بها؟ الموضوع الذي تتناوله؟ هذه مسائل خلاف لا ينتهي.

إن كتاب ” ما بعد الاستعمار” غالبًا ما ينتقلون إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية؛ ربما لأنهم يُنفوَن، أو لأنهم ببساطة يجدون جمهورًا أوسع هناك، أو ربما لمجرد أنهم يبحثون عن طريقة لحياة أكثر راحة ورفاهية. وهناك كثيرًا ما ينقلبون على ثقافاتهم الأصلية في إدانة لهذه الثقافات  تبدو ثورية وجارحة (سلمان رشدي، ونايبول مثلاً). وأحيانًا لا يتورعون عن الاستنجاد بحكومات هذه الأمم الاستعمارية الجديدة التي هاجروا إليها، حتى تأتي لمساعدة الحركات التي تسعى للإطاحة بالحكومات الوطنية البدائية المستبدة في بلدانهم (سوينكا مثلاً).

ومن الغريب أن ينظر إلى هذه النوعية من مثقفي ما بعد الاستعمار، سواء كانوا كتابًا مبدعين كسلمان رشدي، أو منظرين ودارسين كإدوارد سعيد، باعتبار أنهم الممثلون لثقافات بكاملها، وأنه لولاهم لما وجدت ثقافاتهم من يعبر عنها. والنتيجة – كما يقول إعجاز أحمد – “أن الكتاب الذين تصادف أنهم يكتبون بالإنجليزية، هؤلاء يقدرون تقديرًا فوق العادة. انظر على سبيل المثال، إلى ما كُتِبَ عن رواية سلمان رشدي “أطفال منتصف الليل” في النييورك تايمز تحت عنوان: ” قارة تجد صوتها”، وكأن المرء لا صوت له ما لم يكن يكتب بالإنجليزية. أو انظر إلى تقريظ ريتشارد بويرير لإدوارد سعيد، وهو التقريظ الذي يزين غلاف آخر إصدارات سعيد: “أهم إنجازات سعيد أن الفلسطينيين لن يضيعوا في التاريخ” . إنه عالم مقلوب رأسًا على عقب؛ فبدلا من أن تكون رؤية سعيد نفسها آتية في إطار تجربته الفلسطينية، يصبح لا مكان لفلسطين في التاريخ من دون كتاب إدوارد سعيد. سيلصق على رأس المثقف الآسيوي أو الأفريقي أو العربي الذي حدث أنه يكتب بالإنجليزية لسبب من الأسباب، أنه (أو أنها) يمثل وحده جنسًا، أو قارة، أو حضارة، أو حتى العالم الثالث كله”[16].

3- القومية، المنفى، الهجنة.

معظم كتاب ما بعد الاستعمار، ومعظم دارسي هذا الأدب ومنظريه، يعيشون في الغرب ويكتبون عادة إلى غير مواطنيهم، ويشعرون أنهم مواطنون عالميون، ويستفيدون غالبًا من هذه الوضعية، وضعية المهاجر المهمش المنفي صاحب القلم و الصوت. إنهم يمثلون المستعمَر ولا يمثلونه. يحملون “جِينَهُ الوراثي” ويكتبون باسمه، لكنهم لا يعيشون الآن معه. يعملون على تفكيك خطاب المستعمِر، لكنهم يتجهون بخطابهم إليه هو: الحر المثقف. إنهم باختصار يعبرون عن وضعية ممزقة مؤلمة، هي ذاتها النتاج الحقيقي لفترة الاستعمار وفلسفته وتمزقاته.

وهم يواجهون وضعيتهم الذاتية الممزقة هذه، إما بمحاولة تفكيك مفاهيم يرونها مُختَلَقَة وبائدة مثل مفهوم الوطن أو “القومية” Nation، أو بتطوير مفاهيم بديلة يرونها واقعية ومبشِّرة كمفهوم التعددية أو “الهجنة” Hybridity ، أو يواجهونها أحيانًا وفي أحسن الحالات، بمزيد من التأمل لوضعيتهم البينية المأزومة واتخاذها حالةً للدراسة. هكذا يتحدث إدوارد سعيد مثلاً في “صور المثقف”، حين يكتب عن فكرة المنفى و الوضعية البينية والهامشية باعتبارها جوهر المثقف وحقيقته التي لا يرتضي سواها ولا يستريح في غيرها؛ “فالمنفى بالنسبة للمثقف – بهذا المعنى الميتافيزيقي – هو حالة من عدم الراحة، حالة حركة، ألا يستقر أبدًا، وألا يدع الآخرين يستقرون؛ إذ ليس بإمكانك أن ترجع إلى حالة من حالات وجودك الأولى في وطنك، ربما تكون الحالة الأكثر استقرارًا، كما أنه ليس بإمكانك أبدًا – ويا للأسف – أن تصل إلى وطنك الجديد أو حالتك الجديدة”. ثم يستطرد سعيد في فصول كتابه الصغير، إلى توصيف وضعية ذلك المثقف المأمول الذي يمكنه أن يقول الحقيقة للسلطة  في وجهها[17].

ويرى منظرو ما بعد الاستعمار أن تحليلاتهم لذواتهم – كمثقفين من العالم الثالث يعيشون ويعملون في أكاديميات العالم الغربي – تمثل جزءًا حيويًا من نظريتهم المفتوحة القابلة للمراجعة. هذا ما يشير إليه مثلاً الناقد الكيني الأصل عبد الرحمن جان محمد، حين يقول: ” أعتقد أننا نحتاج إلى الإفصاح بشكل أكثر انتظامًا، عن الواجبات التي تفرضها علينا هذه الوضعية البينية، وهي واجبات أشعر أنه يمكن استشعارها من وضعية مثقف “العالم الثالث” في الأكاديميات الغربية. إننا لا نزال نكافح ضد الهيمنة المعرفية للغرب، لا نزال نحارب “الاستعمار” و” الاستعمار الجديد”. ولكن بالمقارنة مع التابع في “العالم الثالث”، نحن نعيش في ظروف بالغة الرفعة. بعض النقاد يؤكدون أن نوعًا معينًا من نظرية ما بعد الاستعمار يمثل هو نفسه جزءًا من البنية القائمة على الهيمنة، أي أنه نوع مستمر ومكرر من الاستعمار. ولهذا أعتقد أنه لابد لنا أن نستمر على خطى جاياتري سبيفاك وآخرين، فنتفحص وضعية ذواتنا في كل هذه النواحي وبشكل أكثر انتظامًا”[18].

وتحدثنا سبيفاك نفسها في تأملاتها، عن الوضعية المستحيلة لـ”التابع” الذي لا يستطيع أن يتكلم. هذا هو السؤال الذي تطرحه في عنوان مقالتها الشهيرة ” هل يمكن للتابع أن يتكلم؟” إنها تنتهي – مستعينة  بالتسمية التي ابتدعها جرامشي للمقموعين – إلى أن أي شخص إذا أنجز قدرًا من معرفة الكتابة والتحذلق يكفي فقط لكتابة قطعة قصصية مقروءة (ناهيك عن أن يكون كاتبًا أو مثقفًا عاملاً في الأكاديميات الغربية) فسيصبح في اللحظة نفسها، غير مؤهل لتمثيل الناس الذين يفترض أنه يمثلهم[19]. وهكذا، فإنه ما إن يتم الاعتراف بكتاب ما بعد الاستعمار – مثل سوينكا، ورشدي – فإنهم سرعان ما يدانون بصفتهم غير ممثلين، وأنهم أقل من غيرهم. إن حديثهم باسم ما بعد الاستعمار مشكوك فيه، لكنهم مع ذلك متحدثون أكثر “شرعية”.وبقدر ما ينطبق سؤال سبيفاك على التابع الذي يعيش في العالم الثالث، فإنه ينطبق – وربما بصورة أكثر دراماتيكية – على مثقفي ما بعد الاستعمار، الذين هاجروا وانخرطوا في أكاديميات العالم الأول، فقطعوا شوطًا أوسع في الابتعاد عن تمثيل مجتمعاتهم الأصلية، مجتمعات ما بعد الاستعمار التابعة.

ويرفض مزيد من الكتاب  – سلمان رشدي  وإدوارد سعيد مثلاً – النموذج الأقدم للـ” منفى” الذي كان له معنى سلبي بالنسبة للكتاب من الجيل الأقدم، أولئك الذين هاجروا لكنهم لم يقتنعوا قط أن في الثقافة المختلطة جانبًا إيجابيًا. المنفى عند سلمان رشدي مثلاً، شيء إيجابي، هوية جديدة قائمة على أصول ثقافية متعددة، ولهذا فهو هوية أغنى وأخصب من الهوية القومية التقليدية[20].

ويشن إدوارد سعيد هجومًا متزايدًا على مفهوم القومية، منذ كتابه “الثقافة والإمبريالية”، لأنه يرى أن مقولة القومية كأساس للهوية هي فكرة إمبريالية جاءت من أوروبا مع الاستعمار، ثم ورثتها مجتمعات العالم الثالث مع ما ورثت من الاستعمار، فأعاقت استقلالها الحقيقي وأدخلتها في أوهام وضلالات عميقة:”إن مبدأ الهوية، وهو مبدأ سكوني أساساً، يشكل لباب الفكر الثقافي خلال العهد الإمبريالي. إن الفكرة الوحيدة التي لم يمسها التغير إطلاقاً، عبر التبادلات التي بدأت بانتظام قبل نصف ألف من الزمن بين الأوروبيين “وآخريهم” هي أن ثمة شيئاً هو “نحن” وشيئاً هو “هم”، وكل منهما مستقر تماماً، جلي مبين لذاته وشاهد على ذاته بشكل حصين منيع” كما أن هذا الفكر “مع حلول القرن التاسع عشر، كان قد أصبح العلامة المائزة للثقافات الإمبريالية، إضافة إلى تلك الثقافات التي كانت تسعى إلى مقاومة التطاولات العدوانية الأوروبية عليها.. ونحن لا نزال ورثة ذلك الأسلوب الذي يتحدد المرء، تبعاً له، بالأمة: الأمة التي تستقي، بدورها، سلطتها من تراث يفترض أنه مستمر من دون انقطاع..” ولهذا؛ فإن “فكفكة الاستعمار ومقاومة الإمبريالية تظلان إلى حد مأساوي غير منجزتين، حين تصبح رموز الاستقلال القومي أهدافاً قائمة بذاتها. إن جماع التاريخ الحديث للعالم الذي كان خاضعاً فيما مضى للاستعمار – من شبه القارة الهندية، وأندونيسيا والوطن العربي، إلى معظم أفريقيا- هو التاريخ المؤسسي لهذا التقديس الضال للدولة –الأمة، بدكتاتورييها المتغطرسين، ومجتمعاتها المعسكرة المعادية للديمقراطية..”  وهنا يقدم سعيد منظومته البديلة، فيقول:ومنظومتي هنا هي.. أن جميع الثقافات، جزئياً بسبب تجربة الإمبراطورية، منشبكة إحداها في الأخريات، ليست بينها ثقافة منفردة ونقية محض. بل كلها مولدة مهجنة متخالطة.. وإن هذا ليصدق على الولايات المتحدة المعاصرة بقدر ما يصدق على الوطن العربي الحديث ..[21]

أما هومي بابا، فقد طور هذا المصطلح نفسه: ” الهجنة”، وذلك في محاولة لتوصيف الحالة التي يكون فيها كثير من الكتاب منتمين إلى ثقافتين في الوقت نفسه.  إنه يبدأ من تكسير مفهوم القومية الرومانتيكي الزائف ذي الجذور الإمبريالية، لينتهي – مثل سعيد – إلى تحبيذ هذه القومية الجديدة الهجينة التي تستجيب لواقع ما بعد الاستعمار. لقد تضمنت إحدى المراحل الباكرة من تحليل ما بعد الاستعمار ترميمًا لأشكال التاريخ والثقافة التي كانت قبل الاستعمار، كما تضمنت تشكيل الهويات القومية الجديدة التي قامت على معارف وتواريخ محلية معينة. وكانت عملية تشكيل الهوية هذه  – في كثير من وجوهها، وعبر بناء أساطير القومية والهوية القومية- تستند إلى المقولة الديكارتية الإنسانية القائلة بأن الهوية الذاتية مقولة ثابتة، بديهية، لا مناص منها …غير أن التحليل الدقيق يكشف أن أنماطًا من الهجرة – سواء حركة المستعمرين إلى المستعمرات أو الهجرة من المستعمرات إلى مركز القوة المستعمِرة – أدت إلى هوية قومية أكثر تداخلا وتهجينًا مما كان يعرفه الناس في الماضي.

إن الحاجة إلى تأكيد مثل هذه الأساطير المتصلة بالأصل كانت – كما يقول بابا –  “سمة مهمة من سمات النظرية والكتابة فيما بعد الاستعمار، وكانت جزءًا حيويًا من المقاومة السياسية الجماعية التي تركزت على قضايا الهوية المستقلة والتمايز الثقافي. كل هذا كان واضحًا. غير أنه كان واضحًا كذلك، مدى ما يعتري مثل هذه المفاهيم من غموض وإشكال، و لقد تزايد هذا الغموض والإشكال مع مرور الزمن .. التهجين  والتداخل في مجتمعات ما بعد الاستعمار يحدثان نتيجة لحركات القمع الثقافي الواعية، سواء حين تغزو القوى الاستعمارية لتدعم سيطرتها السياسية والاقتصادية، أو حين يهيمن الغزاة المستعمرون على الشعوب الأصلية ويجبرونهم على التكيف مع الأنماط الاجتماعية الجديدة. وقد يحدث التداخل والتهجين كذلك في مراحل لاحقة، حين ينتج عن بعض أنماط الهجرة (من مجتمعات متروبوليتانية، ومن مناطق التأثير الإمبريالية الأخرى) تبدلات ثقافية في العالم ما بعد الاستعماري.”

هكذا تصبح القومية عند هومي بابا مفهومًا خياليًا يختلق كما تختلق القصص: “القوميات –مثل السرد – تضيع أصولها في أساطير الزمان، ولا تبلغ آفاقها الكاملة إلا في عيون العقل. صورة كهذه للقومية – أو للسرد – قد تبدو صورة رومانتيكية على نحو مستحيل، ومجازية إلى أبعد حد. ولكن من موروثات الفكر السياسي، ومن مثل هذه اللغة الأدبية، جاءت القومية في الغرب فكرةً تاريخيةً قويةً ، فكرة يكمن تعنتها الثقافي في الوحدة المستحيلة للقومية كقوة رمزية… ما أريد أن أركز عليه هنا في هذه الصورة التي بدأت بها للقومية، هو تناقض محدد ينتاب فكرة القومية، تناقض بين ما يلغو به أولئك الذين يكتبون عنها ، وما يحياه أولئك الذين عاشوها. إنه تناقض ناشئ عن وعي متزايد بأن كون القومية فكرة مؤقتة يعني واقعًا اجتماعيًا انتقاليًا، وذلك رغم الحسم الذي يتحدث به المؤرخون عن “أصول”القومية كعلامة على “حداثة” المجتمع… إن ظهور فكرة القومية – منظومةً من الدلالات الثقافية، وصورةً للحياة الاجتماعية، أكثر منها نظامًا للدولة الاجتماعية – يؤكد ما أقوله عن تغير المعرفة؛ فمجتمع القومية في العالم الحديث، هو ذلك المجال الهجين الذي تكتسب فيه المصالح الخاصة دلالة عامة،. ويتدفق المجالان العام والخاص بلا توقف وبلا تحديد، كلاهما في اتجاه الآخر، كموجات في مجرى عملية الحياة نفسها، وهو مجرى لا نهاية له”[22].

وكأن حقل ما بعد الاستعمار يريد ألا يتحول إلى مجرد حقل معرفي جديد، يضاف إلى حقول أخرى. إنه يريد – بدلاً من ذلك – أن يكون عملية تقوم على التمحيص والنقد الدائم للمعارف، عملية تنبني على نزعة شكية عميقة تطارد كل أساليب المعرفة القديمة التي وصلت إلى طريق مسدود. ويتصور دارسو ما بعد الاستعمار أنهم بهذه الطريقة سيوجهون سهامهم المميتة إلى المزاعم التي جاءت بها الحضارة الغربية، أي المزاعم الخاصة بـ”عالمية” المعرفة.

 لكن مفاهيم من قبيل القومية الهجينة، ولسوء الحظ، لا تبدو أقل رومانتيكية ولا أقل ضلالا من قومية الإمبرياليين القديمة!! هذا إذا لم نقل إن هذه القومية الهجينة ذاتها، تُستخدم الآن أداةً لتفكيك ما بقي من القوميات القائمة (المتخيلة!!) لإخلاء الطريق أمام مزيد من الهيمنة الإمبريالية (غير المتخبلة!!)

كيف يمكن لاتجاه ما بعد الاستعمار أن يتجاوز أزمته وتناقضاته الضاربة الأصيلة ؟ كيف يمكنه – كما تقول افتتاحية العدد الأول من مجلة “دراسات ما بعد الاستعمار” – أن يتحايل، أو يتمرد على السلطة النابعة من جذوره الأوروبية؟كيف يمكنه أن يعلن مجرد إعلان، عن رغبته العارمة في ابتكار أساليبه الخاصة دون أن يتكلم دائمًا إلى الغرب؟ ومع كل طاقاته المعارضة هذه، هل يمكن للمشروع ما بعد الاستعماري على الإطلاق،  أن يحرر ثقافاته وتواريخه الخاصة – أي ثقافات العالم الثالث التي يمثلها – من وهدة “التبعية”، من عزاءات “الاختلاف”، من لغة “الآخرية”؟ وإلى أي حد يا ترى يتورط المثقف ما بعد الاستعماري، وعلى نحو قاس، في تحويل قضيته الخاصة إلى قضية “آخر”؟ ثم هل من الممكن أن تتلاشى التعارضات المربكة بين المركز والهامش، بين العاصمة والإقليم، بين الغرب وبقية العالم، دون الخضوع لعزاءات واهية اسمها ” التهجين” و” التوفيق بين المعتقدات”؟ هل يمكن لنا بدلا من ذلك، أن نتخيل حوارًا يقوم بين معارف متنافسة، أن نتخيل لقاء الأعداء وجهًا لوجه في أعقاب العنف الاستعماري؟![23]

4- موسم الهجرة يتكرر، و”العالم في طفولة لا تنتهي”

هنا تبدو لي رواية موسم الهجرة محاولةً للإجابة بطريقة ما، على هذه الأسئلة المربكة التي لا سبيل للإجابة عنها في بحث علمي. أو قل إن الرواية تطرح هذه الأسئلة نفسها ، ولكن بشكل رهيف قد ينطوي على إجابة من نوع ما. وهذا شأن الرواية وقيمتها التي لا تتوفر للدراسة العلمية.

الرواية هي النوع الأدبي المركزي في أدب ما بعد الاستعمار. لا يكاد يزاحمها في هذه المكانة نوع أدبي آخر. وهذا أمر بديهي؛ لأنها نوع ينهض بطبيعته على تمثيل الواقع؛ ولذلك فهو الأقدر على تمثيل مجتمعات ما بعد الاستعمار، وعرض تناقضاتها وأصواتها المتضاربة، فضلاً عن تسجيل ما يعتمل في نفوس مثقفيها من مآس وصراعات عميقة الغور ومتشعبة الأبعاد. وكل هذا على خلفية من خبرة ذاتية لا تخلو من درس واستقصاء للواقع بأبعاده المركبة، وهو أمر ربما لا يتوفر مثله لا  لنوع أدبي آخر، ولا حتى لأي درس علمي موضوعي أو محايد.

حين كتب الطيب صالح روايته أواسطَ الستينيات، كانت مجتمعات العالم العربي وأفريقيا والعالم الثالث قد خرجت لتوها من ربقة الاستعمار العسكري الطويل، مفعمة بالأمل في التخلص من آثاره المزمنة، أو من جرثومته التي تركها في نسيج هذه المجتمعات. لم تكن موجات الهجرة إلى الشمال قد تشكلت ملامحها أو تجددت مواسمها على النحو الذي نراه في حركة ما بعد الاستعمار. لم تكن حتى آليات رصد العلاقة بين السلطة والمعرفة، أو بين الإمبريالية والثقافة، قد تشكلت على النحو الذي يمنح مثقفي ما بعد الاستعمار أدوات للتحليل.

انبنت الرواية على خبرة ذاتية لكاتبها، وهي خبرة شديدة الشبه بخبرة المهاجرين من مثقفي ما بعد الاستعمار. ربما استعان الكاتب بتحليلات فرانز فانون وألبرت ميمي التي ظهرت في الفترة نفسها، وإن نفى معرفته بتحليلات فانون تلك قبل كتابة الرواية[24]. وقد كشف الكاتب عن استلهامه تجربة جوزيف كونراد[25]، خاصة في رواية “قلب الظلام”، بحيث بدت “موسم الهجرة إلى الشمال” ردًا على “قلب الظلام”، التي كانت هجرة مع الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر إلى الجنوب، أو إلى أفريقيا حيث يوجد قلب الظلام.

غير أن الشيء المؤكد أن هناك وشائج عميقة بين رواية موسم الهجرة (وغيرها من روايات ما بعد الاستعمار) من ناحية، وهي روايات تصف أبطالاً ممزقين، يبحثون عن هويتهم المنقسمة، ويواجهون أحلامهم وأوهامهم، وتحليلات مثقفي ما بعد الاستعمار من ناحية أخرى، وهي تحليلات تنهض في كثير من وجوهها، على تأمل الخبرة الذاتية لأصحابها، الذين هم أبطال روائيون بامتياز، تعتمل في نفوسهم تجربة التمزق ذاته، والأحلام ذاتها، والأوهام ذاتها أيضًا.

ومهما يكن من أمر، فإن أية رواية جيدة، ناهيك عن أن تكون موسم الهجرة للشمال بما تحتله من مكانة، لا يمكن أن تتحول إلى مجرد دراسة علمية، أو إثبات لمطلوب أو فرضية. إنها –شأن كل عمل فني كبير – تعكس واقعًا محددًا وتجيب عن أسئلة، في الوقت الذي تحافظ فيه على غموضها منتجًا، وعلى أسئلتها معلقةً مفتوحةً.

تطرح الرواية أسئلة متعددة، وتفتح أبعادًا متنوعة وزوايا وتفاصيل مثيرة، كلها تغري بالدراسة[26]. غير أن لكل عمل فني كما تقول سيزا قاسم – تطبيقًا لنظرية شبتسر – “نسقًا كليًا” أو “مبدأً تنظيميًا”، بغيره تصبح الجزئيات والتفاصيل غير قابلة للفهم أو التفسير. وبغض النظر عن ذلك النسق، أو المبدأ التنظيمي الذي اختارته الناقدة في قراءتها لموسم الهجرة إلى الشمال[27]؛ فإن العنصر الذي يحكم قراءتنا للرواية هنا هو وقوعها في سياق الاستعمار وما بعده. إن جوهر رواية الطيب صالح كما يقول أحد نقادها[28]، هو موضوع الاستعمار وما بعده في بلادنا؛ “فبعيدًا عن هذا السياق تتحول رواية الطيب صالح إلى مجرد فانتازيا جنسية”.

ورغم أن دراسات غير قليلة تناولت رواية موسم الهجرة من منظور ارتباطها بالاستعمار وما بعده، ووقوعها في سياقه[29]؛ فإن هذه الدراسات لم تلتفت إلى التشابه اللافت بين بطل الرواية وراويها وكاتبها من ناحية، ومثقفي ما بعد الاستعمار من ناحية أخرى. إنه تشابه فيما يعانونه من مأساة انشطار الذات، الذي لا سبيل معه إلى التحرير، وتشابه أيضًا فيما يطرحونه من أفكار تبدو براقة، لكنها تنطوي على “أكذوبة” كأكذوبة مصطفى سعيد.

ثمة ثلاث شخصيات تلعب دورًا في رواية موسم الهجرة: في المقدمة يأتي البطل مصطفى سعيد، باسمه الرنان ومغامراته المجازية التي تصنع منه أسطورة. وفي المرتبة الثانية يأتي الراوي الذي لا اسم له، ولا وظيفة إلا تقديم أسطورة مصطفى سعيد وحمل تركته الثقيلة. ثم في النهاية يأتي الكاتب الذي خلق الراوي، ومن داخل هذا الراوي خلق مصطفى سعيد ، واختفى هو تمامًا عن الأنظار، لكنه سيعود بعد سنوات من نشر الرواية، محاولاً توجيه النقاد والقراء إلى مسالكها الوعرة.

والحق أن الشخصيات الثلاث ليست سوى تنويعات على شخصية واحدة مفترضة: ذلك المثقف الوطني المستعمَر، الذي أتقن لغة الأوروبي المستعمِر، ثم أخذته شهوة المعرفة في رحلة طويلة إلى جنة المنبع في الشمال، ليعود منها – حينما يعود – مثقلاً بالتمزق. ليست الشخصيات الثلاثة سوى طبقات من تجربة شخصية واحدة مفترضة، ولكن في مراحل مختلفة من التجربة نفسها. وتتركنا الرواية أمام افتراض مغرٍ، مؤداه أن الشخصيات الثلاثة تشكل أسرة واحدة مفترضة: جد، وأب، وابن.

من الطبيعي والحالة هذه أن يختلط الأمر على كثير من القراء، فلا يميزوا بين الراوي ومصطفى سعيد. صحيح أن أحدهما(مصطفى سعيد) مندفع بكل قواه الأسطورية إلى خوض التجربة وإكمال المأساة، والآخر(الراوي) يعيد تأمل التجربة وتنتابه درجة أعلى من التمزق بين عالمين في تاريخه، ونزوعين في نفسه. لكنهما كليهما يحكيان بضمير المتكلم، يحاولان كتابة الشعر، يتكئان على صور شعرية تكاد تكون واحدة في غورها، ويتوجهان بحكايتيهما المتشابهتين لنا نحن القراء/ المستمعين وبالتعبير نفسه: “سادتي”. أحدهما يفكر بأنه أكذوبة(ص 36-37) فيفكر الآخر بأنه أيضًا ربما يكون أكذوبة (ص 52). أحدهما ينظر إلى صورة الآخر في ظلام غرفة الاكتشافات المدهشة، فيفزع لأنه كأنما يرى وجهه في المرآة (ص 136). وفي مرة أخرى، يفزع الراوي حين يفاجئه سؤال زميل دراسته في لندن: “هل أنت ابنه؟”. وهنا يفكر الراوي أن هذا الزميل الذي درس هو الآخر في لندن، “قد يكون ابن مصطفى سعيد”، فكل شيء يبدو محتملاً (ص 60).

أما ثالثهما (المؤلف)، فيقف هناك بعيدًا خارج النص، محاولاً دون جدوى أن يتخلص من ميراث جده مصطفى سعيد، ومن أسطورته الجاذبة ومأساته الدامية. يكاد المؤلف أن يتقمص موقف والده/ الراوي، وهو الذي ظل طول الرواية صامتًا لا يذكر شيئًا عن تجربته مع لندن، ولا يعلن عن موقف ولا يخوض مغامرة، ولا يتكلم إلا إلى نفسه وإلينا، إلى أن ينتهي ممزقًا في مجرى النهر بين الشمال والجنوب. يكاد المؤلف، ونكاد نحن القراء، أن نعيش معه ومع راويه، لحظةَ النهاية هذه المشحونة بالكشف والمقاومة وطلب النجدة. 

بيد أن العلاقة بين الشخصيات أو الأجيال الثلاثة، ليست علاقة التطابق أو حتى التشابه، بقدر ما هي علاقة الغرماء. مصطفى سعيد هو النموذج الأصلي للمثقف البطل في مجتمع الاستعمار وما بعده: عاش تجربة الاستعمار طازجة وكاملة حتى النخاع، تشربها مع اللغة الإنجليزية التي جاءت مع النظام الجديد والحياة الجديدة، استوعبها استيعابًا كاملاً وأدرك قواها الفاعلة جسديًا وروحيًا وتاريخيًا، تلوث بها واستفاد منها، حللها وواجهها، هاجر وراءها هجرة كاملة وعاد حين عاد غريبًا ومستعمِرًا، ثم مات أو اختفى في النهاية وعلى جسده وفي روحه أثر من بصماتها.

الراوي. لا نكاد نعرف شيئًا عن تاريخه الشخصي، قبل السفر إلى لندن وخلال إقامته هناك. لقد عاد في بداية الرواية، تمامًا كما عاد مصطفى سعيد من قبل. لكنه يعلن عن هذه العودة إعلانًا. وعلى عكس مصطفى سعيد، لا يذكر الراوي شيئًا، أي شيء، عن السنوات السبع الطوال التي قضاها في لندن[30]. هذه فترة تبدو ساقطة من الحساب العلني. فقط عرفنا أنه درس في الدكتوراه شاعرًا إنجليزيًا مغمورًا، وهو ما تعرض لازدراء (الدكتور) مصطفى سعيد .

لكنه مع ذلك يتركنا إزاء استنتاج واضح بأنه عانى هناك، ولا يزال يعاني هنا، من صراع لا آخر له؛ وإلا فلماذا هو لا يفتأ يؤكد لنفسه أولاً، ولنا نحن القراء أو المستمعين من أبناء قريته، أن له جذورًا في هذه الأرض، وأنه ليس غريبًا عنها، ليس أكذوبة مثل مصطفى سعيد؟ والغريب أن الراوي كان كلما أمعن في تأكيد ارتباطه بهذه الأرض، راودَهُ الشكُّ وراودَنا.

إنه ينظر إلى اغترابه /اغترابنا بعيون أوسع من هذا؛ إذ إن هناك “جرثومة”، أو “عدوى”، وهذه الجرثومة أو العدوى لم تصب مصطفى سعيد وحده، ولم تصبه هو (الراوي) وحده، لقد أصابت “الملايين”، حتى أولئك الذين لم يغادروا البلد إلى الشمال حيث منبع الداء، حتى “حسنة” و”ود الريس”و”محجوب”، كلهم أصابهم من الداء جانب. إنه وباء “يتنزى به جسم الكون”، كما يؤكد الراوي لنفسه بعد المواجهة مع صديق طفولته محجوب:

 “وتركته وذهبت، وإن كنت قد أيقنت من حقيقة ستأخذ كثيرًا من راحة بالي فيما بعد. إنني، بشكل أو بآخر، أحب حسنة بنت محمود، أرملة مصطفى سعيد. أنا، مثله ومثل ود الريس وملايين آخرين، لست معصومًا من جرثومة العدوى التي يتنـزَّى بها جسم الكون” (ص107).

توجُّسُ الراوي من مصطفى سعيد لا ينتهي، وثورته عليه لا تهدأ منذ التقى به في بداية الرواية؛  فقد أصر على رحلة البحث المضنية ، يسمع منه شخصيًا، يسأل عنه الآخرين أحيانًا، يسجل ما يقال عنه من حوارات عابرة، ويقلب كل الأوراق، ويفتح غرف الأسرار.. كل هذا بحثًا عن جذور الداء المشترك في مظانِّها المختلفة. لكنه كان يقتفي أثر غريمه مصطفى سعيد، كأنما يقتفي شجرة عائلته هو. يبحث في مكتبة مصطفى سعيد وأوراقه، كأنما يقلب أوراقه هو الشخصية التي نسيها، فتصدمه الحقائق. لقد بدا كأن مصطفى سعيد وتاريخه يصادف الراوي أينما ذهب، في القطار، في الخرطوم، في القرية، عند جده، عند ود الريس، عند محجوب، في كل مكان. كأنه القرين، الطيف الذي لا وجود له، أكذوبة، حلم أو كابوس، فكرة في الذهن. هذا ما قاله الراوي غير مرة:

“.. أحيانًا تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقًا، وأنه فعلاً أكذوبة، أو طيف أو حلم، أو كابوس، ألمَّ بأهل القرية تلك، ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه.” ( ص 50)

” .. مات مصطفى سعيد منذ عامين، ولكنني ما أفتأ أقابله من حين لآخر. لقد عشت خمسة وعشرين عامًا، وأنا لم أسمع به ولم أره. ثم هكذا فجأة أجده في مكان لا يوجد فيه أمثاله. وإذا بمصطفى سعيد، رغم إرادتي، جزء من عالمي، فكرة في ذهني، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله..” ( ص 54)

 ” .. عرض لي طيف مصطفى سعيد .. كأنه جن أطلق من سجنه، سيظل بعد ذلك يوسوس في آذان البشر، ليقول ماذا؟ لا أدري” ( ص 58 )

وعلى مدار الرواية، لا يترك الراوي فرصة للرد على غريمه أو قرينه مصطفى سعيد إلا اغتنمها. لكنه أبدًا لا يرد عليه وجهًا لوجه. إنه يصوغ ذلك الرد في شكلين دالين:

أولهما شكل المونولوج، أي أنه رد إلى الداخل، حينما ينفرد الراوي بنفسه ويفتح الباب لخواطره؛ ففي المونولوجات المتناثرة على مدار الرواية، يتخذ الراوي مسافة واضحة من دعاوى مصطفى سعيد ضد الاستعمار، وهي الدعاوى التي سمعنا معظمها في مشهد المحكمة، لكنها دعاوى موزعة هي الأخرى على أركان الرواية، تمامًا مثل قصة مصطفى سعيد نفسه. ردود الراوي مبعثرة، تمامًا مثل دعاوى مصطفى سعيد. ولا يوجد تلازم بين الدعوى والرد؛ فالمشاهد متباعدة، والصفحات متباعدة.  غير أن الرد يتم مع ذلك، بالكلمات نفسها وبالنبرة نفسها.

نصف مشهد المحكمة مونولوج درامي طويل، حيث يقف مصطفى سعيد رافعًا دعواه ضد الاستعمار وأهله، ممثلاً في الدفاع والمحكمة والمحلفين والجمهور البريطاني:

“..والمحلفون أيضًا، أشتات من الناس، منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم والتاجر والحانوتي، لا تجمع صلة بيني وبينهم، لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض، وإذا جاءت ابنة أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي، فيحس حتمًا بأن العالم ينهار تحت رجليه. ولكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته. وأنا أحس تجاههم بنوع من التفوق، فالاحتفال مقام أصلاً بسببي، وأنا فوق كل شيء مستعمِر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره. حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا، قال له: “لماذا جئت بلدي تخرب وتنهب؟”، الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئًا. فليكن أيضًا ذلك شأني معهم. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل أللنبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول “نعم” بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي. إنني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ ..” (ص 98)

سيرد الراوي على هذه الدعاوى وغيرها، ولكن في مواضع أخرى،  وسياقات أخرى، وصفحات أخرى.  ففي أحد مونولوجاته يقول الراوي مثلاً:

” ..وكونهم جاءوا إلى ديارنا، لا أدري لماذا، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا. إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة. سكك الحديد، والبواخر، والمستشفيات والمصانع، والمدارس، ستكون لنا، وسنتحدث لغتهم، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل. سنكون كما نحن، قوم عاديون. وإذا كنا أكاذيب، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا.” (ص 53.)

ويقول أيضًا:

“.. مصطفى سعيد قال لهم : “إنني جئتكم غازيًا”. عبارة ميلودرامية ولا شك. لكن مجيئهم، هم أيضًا، لم يكن مأساة كما نصور نحن، ولا نعمة كما يصورون هم. كان عملاً ميلودراميًا سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة عظمى ..” (ص 64)

وإذا طلب مصطفى سعيد في وصيته للراوي:

“..أن تشمل أهل بيتي برعايتك وأن تكون عونًا ومشيرًا ونصيحًا لولديَّ، وأن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر. وساعدهما أن ينشآ نشأة عادية ويعملا عملاً مفيدًا ..” ( ص 51)

فسوف يرد الراوي في أحد مونولوجاته، وضمن سياق آخر:

“.. قال “جنبهما مشقة السفر“. إنني لن أفعل شيئًا من هذا القبيل. إذا أرادا، حين يكبران، أن يسافرا فليسافرا. كل أحد يبدأ من أول الطريق، والعالم في طفولة لا تنتهي. ” ( ص 92 )

أما الشكل الثاني للرد، فيأتي غالبًا في صورة حوارات عابرة، في أماكن عابرة، بين شخصين مجهولين. ويتصادف وجود الراوي في المكان، فيسجل لنا الحوار، وينقله غالبًا بحياد ودون تعليق أو تدخل[31]، تمامًا كما ورد على ألسنة السودانيين العاديين في القطار، كأنه كلام سيار أو إشاعات.

وفي هذه الحوارات السيارة التي تتضمن معلومات أو إشاعات، يتحول مصطفى سعيد إلى عبقري فذ أحيانًا، لكنه غالبًا ما يتحول إلى محتال، ودعيٍّ، وخائن، وصنيعة للاستعمار ..إلخ. أبرز الأمثلة هنا هو هذه الحوارات المتقطعة التي تتخلل مونولوج الراوي المطول، خلال رحلته إلى الخرطوم في الفصل الثالث. وهنا ترد المعلومات/الإشاعات، وتكتمل قصة مصطفى سعيد على ألسنة مجهولين (مأمور متقاعد – شاب سوداني – زميل دراسة في إنجلترا – رجل إنجليزي يعمل في وزارة المالية ..) لكن القصة تكتمل، ويتم تصحيحها وتوصيلها إلى القارئ، بضمانة الراوي ومعلوماته المتاحة عن مصطفى سعيد. في هذه الحوارات ستتكشف تفاصيل من التاريخ البعيد لمصطفى سعيد، مسبوقة في العادة بكلمة ” يُقال”، وخاصة حين يمس الأمر سمعة مصطفى سعيد وخياناته:

” ..إنما المأمور المتقاعد هو الذي استطرد:

قطع مصطفى سعيد مرحلة التعليم في السودان قفزًا – كان بالفعل كأنه يسابق الزمن. وبينما ظلننا نحن بعده في كلية غردون، أرسل هو في بعثة إلى القاهرة، وبعدها إلى لندن. كان أول سوداني يرسل في بعثة إلى الخارج. كان ابن الإنكليز المدلل. وكنا جميعًا نحسده، ونتوقع أن يصير له شأن عظيم .. كان ذلك يملؤنا غيظًا وإعجابًا في الوقت نفسه. وكنا نطلق عليه بخليط من الإعجاب والحقد “الإنجليزي الأسود” .

.. هكذا غرسوا في قلوب الناس بغضنا، نحن أبناء البلد، وحبهم هم المستعمرون الدخلاء. وتأكد من كلامي هذا يا بني. ألم تستقل البلد الآن؟ ألم نصبح أحرارًا في بلادنا؟ تأكد أنهم احتضنوا أراذل الناس. أراذل الناس هم الذين تبوأوا المراكز الضخمة أيام الإنكليز.

كنا واثقين أن مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر . كان أبوه من العبايدة، القبيلة التي تعيش بين مصر والسودان. إنهم الذين هربوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبد الله التعايشي، ثم بعد ذلك عملوا روادًا لجيش كتشنر حين استعاد فتح السودان. ويقال إن أمه كانت رقيقًا من الجنوب. من قبائل الزاندي أو الباريان الله أعلم. الناس الذين ليس لهم أصل، هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الإنكليز  إلخ” (من كلام المأمور إلى الراوي ص  56-57)

.. كان كما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات يتظاهرون بالتحرر. ويقال إنه كان صديقًا للورد فلان ولورد علان. وكان أيضًا من الأثيرين عند اليسار الإنكليزي. ذلك من سوء حظه، لأنه يقال إنه كان ذكيًا. لا يوجد على وجه الأرض أسوأ من الاقتصاديين اليساريين. حتى منصبه الأكاديمي – لا أدري تمامًا ماذا كان – يخيل إلي أنه حصل عليه لأسباب من هذا النوع. كأنهم أرادوا أن يقولوا : انظروا كم نحن متسامحون ومتحررون! هذا الرجل الأفريقي كأنه واحد منا! إنه تزوج ابنتنا ويعمل معنا على قدم المساواة، هذا النوع من الأوروبيين لا يقل شرًا، لو تدرون، عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا وفي الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة .. (  من كلام الرجل الإنجليزي في حواره مع منصور في الخرطوم، ص 62)

علاقة الغرماء هذه بين الراوي وقرينه أو غريمه مصطفى سعيد، ستتصاعد كلما تقدمت الرواية، إلى أن نصل إلى الفصل  قبل الأخير. في هذا الفصل يدرك الراوي تمامًا وندرك نحن معه، أن “غريمه في الداخل”، أنه يخوض معركته مع شق من ذاته ومن تاريخه لا مع مصطفى سعيد، أو قل مع مصطفى سعيد الذي هو شق من ذاته ومن تاريخه. كان عليه أن يختار، وما أصعب أن يختار بين شقين من نفسه: هذا الشق البارز القوي الذي حسم أمره واختار أن يهاجر إلى الشمال هجرة نهائية، أو عاد بقطعة من الشمال ليزرعها في غرفة سرية في قرية سودانية، هذا الشق الذي خلق الأسطورة أو الأكذوبة، وتعيَّش عليها ولا يزال. وذلك الشق الآخر المنزوي الذي يحلم بالالتحام بالجنوب والانسجام معه، ولكن دون قدرة حقيقية على ذلك.

العالم فجأة انقلب رأسًا على عقب. الحب؟ الحب لا يفعل هذا. إنه الحقد. أنا حاقد وطالب ثأر وغريمي في الداخل ولابد من مواجهته. ومع ذلك ما تزال في عقلي بقية تدرك سخرية الموقف. إنني أبتدئ من حيث انتهى مصطفى سعيد، إلا أنه على الأقل قد اختار وأنا لم أختر شيئًا. قرص الشمس ظل ساكنًا فوق الأفق الغربي زمنًا ثم اختفى على عجل. وجيوش الظلام المعسكرة غير بعيد وثبت في لحظة واحتلت الدنيا. لو أنني قلت لها الحقيقة لعلها لم تكن تفعل ما فعلت. خسرت الحرب لأنني لم أعلم ولم أختر. ووقفت زمنًا طويلاً أمام باب الحديد. أنا الآن وحدي، لا مهرب، لا ملاذ، لا ضمان ..” (ص 135)

سيختار الراوي أن يقتحم باب الحديد المغلق، ويدلف إلى غرفة الأسرار، ليحسم أمره في النهاية ويقرر أن يحرق هذه الغرفة وما تمثله، وأن يترك غريمه للنار تأكله. غير أن الغموض والتجريد سيصلان إلى الذروة مع الفصل الأخير القصير، الذي يذكرنا بنهايات النوفيلا التي تتضمن نقطة تحول مدهشة، لكنها لا تتضمن ختامًا ولا تحديدًا للمصائر، بل نهاية مفتوحة على كل التأويلات. وهنا لن نصبح إزاء إجابات بل إزاء مزيد من الأسئلة.

في رحلة الفصل الأخير الرمزية القصيرة المكثفة، الممزقة في مجرى النهر، وفي منتصف الطريق بين الشمال والجنوب، سيرى الراوي فيما يرى أسرابَ القطا لا تزال في موسم من مواسم الهجرة أو الرحلة، لا يدري، لكنه سيختار أن يقاوم حتى النهاية وأن يتخذ القرار لأول مرة في حياته: أن يحيا، وأن يحيا هنا، وأن يصرخ على المسرح – كما ظل يصرخ طول الرواية – طالبًا النجدة:

” ..كنت أعي ولا أعي. هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟… وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابًا من القطا متجهة شمالاً. هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف؟هل هي رحلة أم هجرة؟ … كان ذهني قد صفا حينئذ، وتحددت علاقتي بالنهر. إنني طاف فوق الماء ولكنني لست جزءًا منه. فكرت أنني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي. طول حياتي لم أختر ولم أقرر. إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة. سأحيا لأن ثمة أناس(؟) قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ولأن عليَّ واجبات يجب أن أؤديها. لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنت لا أستطيع أن أغفر فسأحاول أن أنسى. سأحيا بالقوة والمكر، وحركت قدمي وذراعي بصعوبة وعنف حتى صارت قامتي كلها فوق الماء. وبكل ما بقيت لي من طاقة صرخت، وكأنني ممثل هزلي يصيح في مسرح: “النجدة. النجدة”…   (ص 168- 171)

          في هذه النهاية  يتجسد ما تركه الاستعمار على الذات المستعمَرة، يتجسد في أبشع صوره مأساوية وعنفًا: انشطار الذات، لا على المستوى الاقتصادي والثقافي فحسب، بل على المستوى الوجودي. لقد انشطر المجتمع الأصلي إلى شطرين، أولهما – وبسبب من الاستعمار نفسه – لم يعد تقليديًا، بينما الآخر – وبسبب من شوقه العارم إلى هوية أصيلة – لم يستطع أن يصبح حديثًا بمعنى الكلمة. هذا هو جذر الإنسان المشطور : مصطفى سعيد .. قصة حياته لم تكن سوى صفحة واحدة، إهداء ليس له ما بعده؛ لأن ما بعده لم يكن ممكنًا : ” إلى أولئك الذين يرون بعين واحدة، ويتحدثون بلسان واحد ، ويرون الأشياء إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية”(ص 152). إهداء حزين لمخلوق ربما كان له وجود في الماضي، لكنه – وبسبب الاستعمار – توقف عن الوجود .. إن المجتمع الذي أصبحت ثقافته هجينة، يتولد عنه الآن ذات منقسمة: ذات ترى بعينين، وتتكلم بلسانين، وترى الأشياء بيضاء سوداء معًا، لا شرقية ولا غربية[32]. تلك كانت مأساة مصطفى سعيد. أما مأساة الراوي، فهي أنه يحاول التخلص من ميراث مصطفى سعيد، يحاول أن يختار، لكي يتاح له أن يكتب حتى صفحة الإهداء من قصة حياته: بعين أم بعينين؟ أسود أم أبيض؟ شرقي أم غربي؟ أم هما معًا؟!  

تنتهي الرواية، ولكن السؤال يظل معلقًا: أيهما الذي اختار حقًا وحسم أمره وأيهما الذي لم يختر؟ مصطفى سعيد أم الراوي؟ أيهما هو البطل الأساسي الذي يريدنا المؤلف أن نتعاطف مع مأساته ونقترب من موقفه؟ من منهما يختار الذات الصافية ومن منهما يختار الذات الهجينة؟ أم أنهما معًا شطران من ذات واحدة، ووجهان لمأساة واحدة، هي مأساة الكاتب ومأساتنا؟

          أسئلة متعددة سيجتهد النقاد ويختلفون في الإجابة عنها، وسيتدخل المؤلف لسنوات طويلة بعد صدور الرواية، موجهًا سهامه – مثل الراوي – إلى مصطفى سعيد والأوهام التي يمثلها، مصطفى سعيد الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أكثر مما فعل المؤلف الطيب صالح نفسه!!

          العلاقة بين المؤلف والبطل، مثل العلاقة بين الراوي والبطل، هي علاقة الغرماء. وسنستمع إلى المؤلف الطيب صالح، بعد سنوات من صدور الرواية، وهو يقول عن مصطفى سعيد كأنه غريمه: “عندما بدأت أرسم الشخصية لم أكن أقصد أن تكون شخصية مصطفى سعيد طاغية إلى هذا الحد، إنما كنت أحاول أن أنظر إلى عالم القرية، ولو نظر المرء إلى هذه الروايات الثلاث على أنها وحدة واحدة، عرس الزين وموسم الهجرة وبندر شاه، لتبين له أن القرية هي الشيء الثابت في تجربتي، وعلى هذه القرية تدخل مؤثرات: مصطفى سعيد جاء من الخارج. والواقع هو جاء كمستعمر لو أننا قلبنا الشخصية .. والغريب في الأمر، وهذا نوع من السخرية في الشخصية، إنه ابن اليلد، ولكنه عاد إليها كمستعمر، ونظر إليها كشيء وهمي أيضًا. ثم لم ألبث أن أحسست بهذه الشخصية تكبر وتحاول أن تطغى، فحاولت أن أحيطها بشخصيات فرعية. ولكن أعتقد أن تجربتي لم تنجح. وأعتقد – ككاتب – بالرغم من كل ما لقيت هذه الرواية من نجاح، أن من الأشياء التي لم أنجح فيها هو أنني لم أكبح جماح أو شكيمة هذه الشخصية بحيث يكون دورها واضحًا من سياق القصة نفسها..”[33].

          ستؤدي كلمات الطيب صالح هذه، إلى توجيه كثير من النقاد لكي يعيدوا قراءة الرواية ملتفتين إلى الراوي بدلاً من مصطفى سعيد؛ باعتبار أن موضوع الرواية ربما يكون شيئًا آخر أبعد من مجرد سياسات الاستعمار ضد شعوب الشرق، وأن الراوي هو البطل الأول ومصطفى سعيد هو البطل الثاني[34]. مصطفى سعيد – كما ينبهنا المؤلف مرة أخرى – هو الوهم الذي ينبغي تحطيمه وتجاوزه والإفاقة من سكرته: ” وكانت تدور في ذهني أيضًا فكرة العلاقة الوهمية بين عالمنا العربي الإسلامي وبين الحضارة الغربية الأوروبية على وجه التحديد. إن هذه العلاقة تبدو لي من خلال مطالعاتي ودراساتي، علاقة قائمة على أوهام من جانبنا ومن جانبهم. الوهم يتعلق بمفهومنا عن أنفسنا أولا، ثم ما نظن في علاقتنا بهم، ثم نظرتهم إلينا أيضًا من ناحية وهمية. لقد فرضت أوروبا الغربية وحضارتها، فرضت نفسها على عالمنا مدة طويلة، وأصبحت جزءًا من تكويننا السيكولوجي والثقافي، سواء أردنا أم لم نرد .. إننا الآن نحطم الأوهام وقد نجد علاقة سوية كما يحصل الآن. ولو أن مصطفى سعيد حاول أن يلعب هذه اللعبة فإنه لن ينجح؛ فالأوهام بدأت تتحطم من جانبه، والشرق والبخور والعطور مجرد أوهام..”[35].

غير أن نقادًا آخرين سيدركون ما بين المؤلف وبطله من إحن، ويدركون أنه مهما تكن أسباب هذه الإحن، فإن مصطفى سعيد نموذج لثقافة كاملة، نموذج سابق على مؤلفه كما هو سابق على راويه، ولهذا فهو يتجاوز هذا المؤلف وذلك الراوي، ويتحول إلى ما يشبه النموذج الجمعي الأعلى للأفريقي العربي في مواجهة الاستعمار. مصطفى سعيد كان موجودًا في منطقة ما في عقل السادة القراء، وقد وجد ضالته في الطيب صالح الفنان وراويه السلبي المستقبل، وكلاهما يفهمانه جيدًا. مصطفى سعيد – كما يقول بيتر نازاريث – “كان يبحث عن نصه، وقد عثر على الشخص الذي يستطيع أن يبدعه؛ إذ بإنتاج هذا النص، هذا العمل الفني، تتحول سلبية الراوي إلى شيء جيد، ذلك أن الفنان يحتاج إلى بعض السلبية حتى ينخرط في الإبداع الفني. وبالمثل، فإن الراوي يأخذنا من سلبيتنا ويتحدانا، نحن السادة الذين يخاطبهم طوال الوقت، أن نكون شهودًا على محاكمته هو”[36].

وربما يمكن للمرء أن يقول أيضًا مع محمد شاهين : “إنَّ مصطفى سعيد لا يمكن أن يكون من نتاج كاتب غير عربي، أي إنّه نتاج لا وعي جمعيّ عربي يواجه وعياً جماعياً أوروبياً عبر التاريخ ابتداء من حضارة قرطاجنة والأندلس، مروراً بالمواجهات المختلفة مع الغرب التي ترد في سياقها قصّة عطيل، إلى أنْ تصل إلى دخول الجنرال اللنبي فلسطين وإنشاء الجسر الذي سمي باسمه .. وتصل إلينا هذه المواجهة من خلال صورة اللاوعي الجمعيّ، التي تؤثر روحها بطريقة غير مباشرة في شخصية مصطفى سعيد. ويعني هذا أنَّ مصطفى سعيد نفسه هو نتاج هذه المواجهة التي سبقته ولاحقته وظلّت تلاحقه، وأنها ليست من نتاجه كفرد. وعلينا هنا أن نميّز بين التاريخ والأسطورة ، فمصطفى سعيد ليس شخصية تاريخية أو شخصية روائية في سياق تاريخي يروي علينا التاريخ فحسب.ومهما تميز سلوك مصطفى سعيد بالفردية أو الذاتيّة، إلاَّ أنََّه في أصله سلوك لا وعي جماعي ..”[37].

ومهما يكن من أمر الخلاف بين النقاد حول من له البطولة والصدارة والأهمية في تجسيد الأزمة في موسم الهجرة، الراوي أم مصطفى سعيد؛ فإن ما لا خلاف عليه أنهما معًا، مضافًا إليهما مؤلف الرواية نفسه، وغالبية مثقفي العالم الثالث في عالم ما بعد الاستعمار، الجميع وجوه متعددة ومتنوعة من أزمة واحدة، هي نفسها الأزمة التي يحاول منظرو ما بعد الاستعمار دراسة أبعادها، والتي تفضي بهم إلى مأزق ذاتي وجودي لا سبيل للهروب من تناقضاته. إنه نفسه مأزق مصطفى سعيد ومأزق الراوي والمؤلف. وكأن “كل أحد يبدأ من جديد” كما قال راوي موسم الهجرة، أو كأن “العالم في طفولة لا تنتهي”.  

***

كان هذا – ولا يزال – هو المأزق الذي نعيشه نحن مثقفو ما بعد الاستعمار، سواء أولئك الذين طلبوا الهجرة إلى الشمال وخاضوا معركتهم المستحيلة هناك، لأنهم تعيشوا على الأوهام واستغلوها واستمرأوها كمصطفى سعيد، أو أولئك الذين عادوا وظلوا هنا يطلبون الصفاء والعدل، يطلبون لؤلؤة المستحيل الفريدة، ويقاومون طوفانًا يكتسحهم، يومًا بعد يوم، وسنة بعد سنة. إنهم على مسرح هزلي، عبثًا يطلبون النجدة ، تمامًا كما فعل راوي موسم الهجرة؛ ذلك أنهم ملوثون بالعدوى، عدوى الرحيل، سواء الرحيل بالجسد أوالرحيل بالعقل.

مأزق ليس له الآن حل بسيط أو حاسم، أو قل إنه مأزق يتكرر ويتعمق في عالمنا يومًا بعد يوم. هل نحافظ على “الوطن” أو “القومية” الصافية، كلمة حق أريد بها باطل، باسمها يتم الاستيلاء على السلطة، ويقمع الناس ويقتلون، وتنتهك كل الحقوق؟! أم نطلب “الهجنة” مع قوميات الأرض و”أوطانًا” في الخيال، كلمة حق أخرى أريد بها باطل، فباسمها يتم قهر قوميات كاملة وتدميرها وربما إبادتها في آخر المطاف؟!

هل يكون الحل هو أن نقرر كما قرر الراوي في نهاية موسم الهجرة : أن نختار الحياة، أن نحيا؛ لأن ثمة أناسًا قليلين نحب أن نبقى معهم أطول وقت ممكن؛ ولأن علينا واجبات يجب أن نؤديها. لا يعنينا إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإذا كنا لا نستطيع أن نغفر فسنحاول أن ننسى. أن نحيا بالقوة والمكر؟! 

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial