بقلم الدكتور جورج تامر
منحت مؤسسة ابن رشد للفكر الحر جائزتها عام 2000 للمناضلة الفلسطينية السيدة عصام عبد الهادي. وقد اتخذت قرارَ منح الجائزة لجنةُ تحكيم ضمَّت شخصياتٍ فكرية وادبية عربية، خصت السيدة عبد الهادي بالتكريم “تقديراً لكفاحها المتواصل من اجل حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل”. وتم منح الجائزة في التاسع من كانون الاول (ديسمبر) الماضي في احتفال اقيم في بيت الادب (Literaturhaus) في برلين، وحضره حشد من المثقفين، واعضاء من السلك الدبلوماسي العربي، وممثلون عن الصحافة والاعلام، واعضاء الجاليات العربية، وممثِّلو النقابات الطبية الفلسطينية والعربية، والجمعيات النسائية العربية في المانيا، وجمعيات الصداقة العربية ـ الالمانية، الذين تقاطروا من مختلف المدن والاماكن القريبة والبعيدة ليشاركوا في تكريم السيدة عبد الهادي.
ولدت السيدة عصام عبد الهادي سنة 1928 في مدينة نابلس وهي رئيسة اتحاد المرأة الفلسطينية منذ تأسيسه عام 1965، وعضو المجلس الوطني والمجلس المركزي في منظمة التحرير الفلسطينية. انتخبت عام 1949 امينة سر لجمعية الاتحاد النسائي العربي في نابلس، وبقيت في هذا المنصب حتى ابعادها عام 1969. وهي اليوم مقيمة في الاردن. ومنذ السماح لها بالعودة عقب محادثات السلام عام 1993، تتنقل ما بين عمان والقدس. وقد لعبت السيدة عبد الهادي دوراً بارزاً في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي من الداخل والخارج، وكان دور المرأة العربية الفلسطينية في المقاومة، على اختلاف طرقه، هو لبّ كلمتها في الاحتفال. كما اكدت مدى ارتباط الحرية الوطنية بالحرية الشخصية التي ينالها الفرد في المجتمع، وأنه لا يمكن تجريد حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل في فلسطين عن القضية الفلسطينية.
افتُتح الإحتفال بكلمة ترحيب القاها رئيس المؤسسة الدكتور نبيل بشناق، شدّد فيها على اهمية ان تسود الحريةُ والمساواةُ والعدالةُ الاجتماعية البلادَ العربية، وان يعتبَرَ المواطنُ، لا الحاكم، فيها “هو جوهر المجتمع والدولة.” واشار الدكتور بشناق الى ان مؤسسة ابن رشد للفكر الحر تسعى من خلال جائزتها السنوية الى دعم حرية الرأي وتشجيع البحوث البناءة في المجتمعات العربية. اما كلمة التقدير للمحتفى بها، فالقتها باسم المؤسسة السيدة بولين عون، وعرضت فيها محطات هامة من حياة السيدة عبد الهادي. واشارت الى أن تحرير المرأة العربية من القيود الاجتماعية ومساواتَها بالرجل العربي ليست مسؤولية النساء وحسب، بل هي بالقدر نفسه مسؤولية الرجل العربي أيضاً، الذي يجب ان يتحرّر من “التقاليد الرجعية الموروثة التي تسوّغ له ممارسة الاستبداد بالمرأة والتحكم في مصيرها وحريتها، لكي يجعل من نفسه، سواءٌ اكان أباً، او أخاً، او زوجاً او ابناً، وصياً عليها، ومسؤولاً عن كل تصرفاتها، ورقيباً على تفكيرها واقوالها.” ونوّهت السيدة عون بان السيدة عبد الهادي جمعت في نضالها من اجل الحرية بين حرية الشعب الفلسطيني وحرية المرأة العربية، فهي لذلك تستحق التقدير والتكريم، وهما جديران أيضاً بالمرأة الفلسطينية، التي ما زالت تعاني ما يعانيه الشعب الفلسطيني بأسره، وتشارك على مختلف المستويات في النضال من أجل الحرية والسلام العادل.
تأسست مؤسسة ابن رشد للفكر الحر في 10 كانون الاول (ديسمبر) 1998 في مناسبة الذكرى المئوية الثامنة لوفاة الفيلسوف العربي، والذكرى الخمسين للاعلان الدولي لحقوق الانسان. وهي تهدف الى تشجيع العلم والمعرفة والفنون والدراسات والابداع في العالم العربي من خلال تقديم جوائزها السنوية التي تُمنح الى من يسهم في تحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان في البلاد العربية. وقد خصّصت المؤسسة جائزتها الاولى، التي منحت في 10 كانون الاول (ديسمبر) 1999، لقناة الجزيرة الفضائية التي تبث من الدوحة في قطر، تقديراً لدورها الرائد في فتح قنوات الحوار والتعبير الحر بين العرب. ونشير في هذا السياق الى ان المؤسسة اصدرت مجلة في الانترنت تمكن قراءتها على صفحة المؤسسة www.ibn-rushd.org.
ويستدعي الجمع بين ابن رشد والفكرِ الحر التساؤلَ عن الاهمية الحالية لافكار هذا الفيلسوف في المجتمعات العربية. أين تكمن أهمية ابن رشد اليوم بالنسبة لمثقفين عرب، يقيمون داخل البلاد العربية وخارجها، ويدعون الى تحرّر الفكر والى تحرير المجتمع والانسان، ليس فقط في بلدانهم، بل في العالم باسره من مختلف القيود الاجتماعية والسياسية والدينية؟ وإن عدنا الى التاريخ وجدنا انه ما من فيلسوف عربي لاقى فكره المصير الذي لاقاه فكر الفيلسوف الاندلسي، وصار موضع جدل ورفض وقبول على حدٍّ سواء. ففيما اهمل الشرق العربي قروناً عديدة كتابات ابن رشد، اهتمت بها اوروبا اللاتينية اهتماماً عظيماً. وصارت الرشدية مذهباً فكرياً، ساد اوروبا في القرون الوسطى وعصر النهضة، فكان له اتباع ومناوئون على حد سواء ولعب دوراً كبيراً ليس فقط في مجال الفلسفة النظرية، بل ايضاً في تطوير النظريات السياسية والاجتماعية. والمعروف ان اسم ابن رشد اقترن باسم ارسطو. ولكن اسمه كان ايضاً رمزاً للالحاد ولازدواجية الحقيقة. ابن رشد اسيء فهمه بقدر ما عُظِّم. آثاره موضع تفاعل حضاري، تلاقى فيه الشرق والغرب، والعرب واليهود والاوروبيون. ظاهرةٌ حضاريةٌ ما احوجنا اليوم الى مثلها!
ربما كان اول ما يخطر في البال حين نتكلم عن تحرّر فكر ابن رشد هو تحرّره من أثر التقليد الديني ومحاولته التوفيق بين الدين والفلسفة من دون التضحية بشيء من أصول كلٍّ منهما. وقد قاد تمسّك ابن رشد بالحكمة والشريعة على حدّ سواء الى الظن بانه اعتقد بوجود حقيقتين: حقيقة الدين وحقيقة الفلسفة. وهذا برأيي خطأ. فابن رشد لم يعتقد الا بوجود الحقيقة الواحدة التي يجتهد في اكتشافها العقل البشري المتعاطي العلم، ويكشف عنها الوحي الالهي للانبياء، ويضمِّنونها كتبهم. ابن رشد اعتقد بحقيقة واحدة ودروب مختلفة اليها. واعتقاده بتعدّد الطرق التي تفضي الى الحقيقة هو اساس حرية الفكر لديه. الاديان والفلسفات والعلوم دروب مختلفة الى الحقيقة الواحدة، “والحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له.” (فصل المقال، تحقيق ألبير نصري نادر، بيروت 1995، ص 35) إنه لموقف رائع، يعلّم احترام الآخر وقبوله كما هو من دون تحفّظ.
وانطلاقاً من وحدة الحقيقة تنكّر ابن رشد لرفض دراسة العلوم، انى كان مصدرها، وقال بالاستفادة من انجازات الفكر، بصرف النظر عما اذا كان المفكر وثنياً، او تابعاً لدين آخر. المعيار الوحيد الذي أخذ به هو صحة المعرفة. ولم يعتبر ان مصدرها سببٌ لرذلها من دون فحص. وهذا لعمري انفتاحٌ حضاري، ما أمسّ الحاجة اليه لبناء ثقافة عربية، أهلٍ لان يكون لها مكان لائق في مجتمع حضارات العالم. الروح الرشدي لا يقبل التضاد الشائع اليوم لدى كثير من المثقفين العرب الذين يعيشون على ثنائية الشرق والغرب. الروح الرشدي يؤمن بأن الحقيقة تتجلّى في الشرق والغرب معاً، وان الحق يميَّز من الباطل نتيجة الدراسة والاختبار والتمحيص.
اما في مساواة المرأة بالرجل فقد قال ابن رشد قولاً كان سابقاً لعصره. فهو يعلن ان النساء والرجال نوع واحد وان لا فرقَ بين الرجل والمرأة في الغاية الانسانية. والفرق الوحيد الذي يراه هو في احتمال الكد الجسدي الذي يقدر الرجل عليه أكثر من المرأة، فيما ان النساء اكثر حذقاً في اعمال اخرى، كفن الموسيقى. وبما انه لا فرق بين المرأة والرجل في الطبع الانساني، وجب على النساء ان ينلن التربية نفسها التي يحظى بها الرجال وان يشاركنهم سائر الاعمال، حتى الحرب. ولا يسكت ابن رشد عن انتقاد حصر دور المرأة في الانجاب والرضاعة والتربية، معلناً ان النساء بسبب ذلك صرن “حملاً ثقيلاً على الرجال (…) وسبباً من اسباب فقر هذه المدن. وبالرغم من انهن فيها ضعف عدد الرجال فانهنّ لا يقمن بجلائل الاعمال الضرورية، وانما يُنْتَدَبْنَ في الغالب لأقل الاعمال، كما في صناعة الغزل والنسيج” (مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، تعريب أحمد شحلان، بيروت 1998، ص 125).
النضال من اجل تحسين وضع النساء وبالتالي من اجل تحسين الوضع الاجتماعي في العالم العربي بأسره هو نضال انساني اراده ابن رشد. وكلُّ من يساهم في هذا النضال وينفتح على الحضارات الاخرى في العالم، معترفاً بوحدة الحقيقة، يقتفي آثاره في سبيل تحرير الفكر وبناء مجتمع راقٍ.
من مجلة فكر وفن، العدد 73 سنة 2001 – صفحة 62-63.
الدكتور جورج تامر، 41 عاماً، درس عند هابرماس في فرانكفورت وقدم بحث الدكتوراة في برلين عن ” علاقة ليو شتراوس بالفلسفة الإسلامية في القرون الوسطى”، إشراف البرفيسور نيفونَرْ وبرفيسور فيلهلم شميدت-بيجيمان. وهو من الخبيرين بفلسفة التشائم عند كيركيغارد. يعمل حالياً محاضراً للغة العربيةفي جامعة فريدرش-ألكساندر في مدينة إيرلنجن-نورنبيرج