العولمة وغياب المشروع الحضاري العربي

مهنّد ابراهيم أبو لطيفه

قليلة هي المصطلحات التي تثير ضجة كبيرة على الصعيد الدولي، وتخضع لمثل هذا الرصد والتفسير والتحليل، التهليل والرفض والعديد من الفرضيات، مثل الذي خضع له مصطلح العولمة في السنوات الماضية. وهذا مرده أن مصطلح “العولمة” فرض نفسه بقوة ليطال عمق العالم بغرض احداث تغييرات نوعية في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية تقودها ثورة لتكنولوجيا المعلومات ذات طابع كوني، غاية في التطور والتعقيد ولأول مرة في التاريخ الإنساني، وفي ظل غياب توازن دولي على مستوى القوى الكبرى، ما يصطلح تسميته بعصر القطب الواحد.

تطور مصطلح العولمة :

تتحدث دراسة – صدرت حديثاً في ألمانيا، عن المركز الاتحادي للبحوث السياسية، الذي يعتبر من أهم المراكز البحثية المتخصصة في الاقتصاد السياسي والعلوم الاجتماعية، شارك في إعدادها نخبة من المتخصصين في هذا المجال – تتحدث عن تطور مصطلح العولمة الذي ظهر -كما جاء فيها – للمرة الأولى في السبعينات بعد بث صورة الكوكب الأزرق(الأرض) التي التقطت بواسطة الأقمار الصناعية، ليتطور المصطلح مشيراً إلى الاسواق العالمية الجديدة للبضائع ورأس المال مصحوباً بثورة الاتصالات والمعلومات التي حوّلت العالم إلى قرية إعلامية صغيرة.

يضاف إلى ذلك تطور اقتصاديات الدول لتتجاوز الحدود وتتداخل فيما بينها، ويمكن تصور حجم هذا التطور إذا علمنا -كما جاء في الدراسة- أنّ أربعين ألف مؤسسة اقتصادية شملها هذا التغيير لتساهم عبر استثماراتها وتعاونها إلى تقليص المسافة بين الدول الصناعية وغيرها في ظل غياب لأجزاء كبيرة من القارة الافريقية عن المشاركة بحكم ظروفها في هذه ” العملية التطورية المستمرة للإنتاج واتساع الأسواق في العديد من دول العالم، لتتداخل اقتصادياتها ويكتسب السوق العالمي ديناميكية جديدة تفتح أفاقاً واسعة لكافة القطاعات “.

لم تكن العولمة عملية منظمة مائة بالمئة، ولكنها في معظمها نتاج ” قرار سياسي للعديد من الدول ” مما يفسر هذا الاندفاع الذي يصعب ايقافه وتفسيره واستيعابه. الإرادة السياسية دفعت بالعديد من الدول لتطوير (أو تطويع) سياستها الاقتصادية الخارجية على حساب الاقتصاد الوطني تحت تسميات عديدة مثل : الانفتاح، الخصخصة، الإصلاح الاقتصادي … مما أدى إلى إفلاس العديد من شركات ومؤسسات القطاعين العام والخاص التي لم تستطع الصمود في وجه هذا المد الهائل المنافس ذي التقنيات والمواصفات. يشير مصطلح العولمة كذلك إلى جملة من التغييرات المراد أن تشهدها جميع جوانب الحياة تحت شعارات الانعتاق والحرية في ظل النظام الجديد من العلاقات الدولية تقرب المسافات بين الشعوب بعيداً عن التطرف الديني والقومي والاقليمي، وازدياد الاعتراف الدولي بحقوق الأفراد، ونهاية للصراع بين الشرق والغرب، الاهتمام بالبيئة على المستوى العالمي، كما يروج دعاة العولمة.

نحن والعولمة : مواقف بعض المفكرين العرب

اهتم المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي بشكل كبير بكل جوانب العولمة، وحظي هذا المشروع الكوني باهتمام منقطع النظير في جميع هذه الاوساط نتيجة الإحساس المبرر بمخاطره في ظل غياب واضح للمشروع الحضاري العربي ومقومات دخول الألفية الثالثة بشكل يضمن حجم وفاعلية التعاطي مع هذه التغييرات الجامحة.

عُقدت المئات من الندوات وحلقات النقاش والمحاضرات، وصدر العشرات من الكتب التي تناولت هذا الموضوع، ونقدم فيما يلي رصداً لأبرز المواقف التي اهتمت بالعولمة، بابعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية.

يفيد الباحث الاجتماعي الدكتور سيد ياسين ، أنّ جوهر العولمة هو :

أ ) انتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة بين الناس.

ب) تذيب الحدود بين الدول مما يضرب فكرة السيادة الوطنية أو القومية.

ج) زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات، مما يؤدي إلى تفكك الدولة القومة وعجزها عن السيطرة على مقاليد الأمور.

أما الدكتور اسماعيل صبري عبدالله فيؤكد على أنّ العولمة ستقود إلى عجز الدولة القومية عن السيطرة على مقاليد الأمور، ولا شك في تراجع الدولة في البلدان الصناعية المتقدمة وضعفها أمام الشركات متعددة الجنسيات والاتجاه الغالب لتخفيض الانفاق العام ولا سيما في مجال الضمان الاجتماعي، وتصغير حجم الدولة وتسريح الألاف من موظفيها، وأصبح رؤساء الدول والحكومات في زياراتهم الرسمية يحملون عقوداً تجارية خدمة للشركات الكوكبية (ربما مقابل مصلحة شخصية لرجل السياسة أو حزبه) وأصبح أكبر الساسة كمندوبي المبيعات Salesman .

فيما يرى الدكتور جلال أمين أنّ الشركات متعددة الجنسيات، في عصر العولمة، قد حلّت محل الدولة. كما حلت الدولة محل الاقطاعية تدريجياً منذ خمسة قرون، تحل اليوم الشركة متعددة الجنسية تدريجياً محل الدولة، والسبب في الحالين واحد : التقدم التكنولوجي وزيادة الإنتاجية والحاجة إلى أسواق أوسع، لم تعد حدود الدولة القومية هي حدود التسويق الجديدة، بل أصبح العالم كله مجال التسويق، سواء كان تسويقاً لسلع تامة الصنع، أو تسويقاً لمعلومات وأفكار، فقفزت الشركة المنتجة فوق أسوار الدولة، وأخذت هذه تفقد قيمتها الفعلية، بل أصبحت أكثر فأكثر أسواراً شكلية، سواء تمثلت في حواجز جمركية، أو حدود السلطة السياسية، أو حدود بث المعلومات والأفكار، أو حدود الولاء والخضوع… إنني ما كنت لأذرف الكثير من الدموع حزناً على انحسار سلطة الدولة لولا أنّ الذي يحل محل الدولة هو الشركات العملاقة متعددة الجنسيات.

فاي مؤشر هناك يدلني على انّ الحرية التي أتمتع بها في ظل سطوة هذه الشركات أكبر وأوسع مما كنت أتمتع به في ظل سطوة الدولة؟ هل أنا بحاجة إلى أن أذكركم بما تفعله وسائل الإعلام الحديثة بحرية الرأي والتفكير، أو بما تفعله سطوة هذه الشركات بحرية المرأة ومكانتها؟ أو بمدى تحملها للاختلاف الحقيقي في الرأي؟

يتفق الدكتور محد عابد الجابري مع الطرح القائل أن العولمة ” تتضمّن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها”.

أما الأستاذ صادق جلال العظم فيعترض على كل محاولات تسطيح مصطلح العولمة، ووصفها بامباراطورية الفوضى، أو بالمملكة، أو كونها عالم بلا دولة، بل هي رفع الدولة إلى تركيب أعلى، مما يعني التعديل في دورها ووظائفها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، ويقول :

” العولمة هي رسملة العالم على مستوى العمق، بعبارة أخرى، إن ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن، هي طليعة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي -إلى هذا الحد أو ذاك- إلى الأطراف، بعد حصرها طوال هذه لمدة كلياً في مجتمعات المركز ودوله. بمعنى إعادة صياغة مجتمعات الاطراف وتشكيلها على الصورة الملائمة لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته. إنّ صعود مرحلة عالمية دائرة الإنتاج ونشرها هي ما نسميه اليوم بالعولمة. وهي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ”.

إنها نقلة نوعية في حياة الرأسمالية التاريخية من التبادل والتجارة إلى الإنتاج. وهي لا تساوي الفوضى، أو هي الفوضى لا أكثر، ورغم كل التناقضات، فإن عملية العولمة تدار بكليته من مواقع المركز بكفاءة عالية، إنّ فينومينولوجيا العولمة كما أرصدها حالياً، تعمل في الغالب لا على تغيير العالم ولا على فهمه، ولا على تفسيره، بل تعمل على تكريسه وتسويغه وتبريره وعقلنته على حساب الطرف الأضعف في المعادلة.

وفي ندوة لدار المدى في دمشق حدد مجيد الراضي (مدير تحرير المجلة) أنّ جذور العولمة : فكرية، ثقافية، دينية كامنة، ” وهي ليست قبولا بالآخر كحامل لثقافة مختلفة بالاستناد لمعطيات معينة، وإنما محاولة سافرة من الأقوى لابتلاع الآخر – الأضعف والمختلف ثقافياً – من جذوره… إنّ انتصار الرأسمالية لا يعني نهاية التاريخ”.

في حين يعترض الدكتور ماهر الشريف على فكرة أن العالم توحد فعلاً أو يشهد صيرورة توحيد، اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجيا، كي يصبح في الإمكان الربط بين هذا التوحيد وتوحده على المستوى الثقافي ويعتبر أنّ السياسات الرأسمالية قد عمّقت الانقسام في العالم لا مثيل له.

تركز المستشارة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة الدكتورة نجوى الفوّال ، على البعد الثقافي لظاهرة العولمة، وترصد التغييرات الايجابية المصاحبة لها في النقاط التالية :

  1. تجاوز الفرد للدائرة الضيقة للإعلام الوطني في ظل الثورة التكنولوجية.
  2. اتساع مساحة الحرية أمام المتلقى، وتزايد قرة القنوات الفضائية غير الحكومية على مناقشة جميع القضايا بطرح الرأي والرأي الآخر، بحيث صارت تلك القنوات ساحات للممارسة الديمقراطية التي تفتقدها على مستوى الواقع أغلب دول الجنوب.
  3. تنشيط الصناعات المختصة للاتصال المرئي، وفتح مجالات للعمل أمام العمالة المتخصصة وان كان التطور المتلاحق في تكنولوجيا الفضائيات قد ترك أثراً حول عملية إحلال العمالة المدربة والاستغناء عن سواها، بحيث أصبحت سوق العمل هنا أكثر تخصصاً.
  4. فتح ظهور شبكة الإنترنت وانتشارها عالمياً مجالات لا حدود لها للمعرفة واكتساب المعلومات لتسهيل الاتصال بين الأفراد ومن ثم بين الثقافات، ومع نهاية القرن العشرين تنامى باطراد الاتجاه نحو المزج بين هذه الشبكة وبين وسائل الاتصال الجماهيري، إلى حد يتنبأ فيه البعض بأن يُصبح الكمبيوتر الشخصي هو وسيلة الاتصال المجمعة لباقي الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية، وذلك في المستقبل القريب.

كذلك تورد المستشارة بالمركز القومي، الجوانب السلبية في الظاهرة، مثل نقل أساليب وقيم حياة جديدة ومختلفة، ومخاطر التشوه الثقافي، والمنافسة الحادة بين التقاليد والمستورد، في ظل الهوة الكبيرة في امتلاك تقنيات الاتصال واستخدامها بين الشمال والجنوب.

ومذكِّراً بالفترات التي كان العرب هم القوة المحركة وراء عملية “كوكبة” للعالم، على المستويين التجاري والثقافي على الأقل، يطرح الدكتور سعيد -في مقال له بالأهرام_ سؤالا هاماً :

” هل الانكماش على الذات، والاكتفاء برفض “الكوكبة” أو “العولمة” قد حمى العرب ومكنهم من الحصول على الأمان؟ ناهيك عن “التقدم” . ويجيب بالنفي على السؤال معتبراً ” أننا لم نحصل على كل هذا لأننا أخذنا في تجنب العالم والتكنولوجيا، ورفضنا العقل وأخذنا نتعقب عقولنا العظيمة فنعمل فيها الذبح والسجن والنفي، وارتبط رفض كل موجة من موجات “العولمة” بموقف بدا دفاعياً وانتهى بالانكماش الحضاري والمادي لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، وبالخضوع في نهاية المطاف للاستعمار… العولمة ستكون بكل تأكيد تهديداً داهماً لأمن العرب وتقدمهم، إذا ما حررنا العقل من المخاوف واستجبنا للتحدي”. وتكون هذه الاستجابة للتحدي-حسب رأيه- بالعمل العربي المشترك على جميع المستويات وفي جميع المجالات، والانفتاح على الآخر بكل ثقة وديناميكية وتحرر من الانكماش، وإنجاز مهمات التحديث في جميع المجالات، واحترام الحريات الاساسية للإنسان، وإنجاز التحولات الديمقراطية، وصياغة سياسة علمية وتكنولوجية فعالة، والإصلاح السياسي والدستوري… أي مشروع حضاري عربي شامل ومتكامل.

عرضنا بعض المواقف العربية تجاه بعض موضوعات العولمة والتي لا يمكن بالطبع الإلمام بمختلف جوانبها، على امل أن نكون فد قدمنا للقارئ العربي ما يضيف إلى معرفته جديداً، ويضعه بصورة التحولات التي تترك أثرها كل يوم على واقعه المعيشي والحياتي بشكل عام.

=====================================

مصادر :

  1. الاهرام الدولي 29/اكتوبر 1999 .
  2. كتاب العرب والعولمة، أسامة أمين الخولي، بيروت، مركز دراشات الوحدة العربية.
  3. مجلة وجهات نظر، العدد العاشر، نوفمبر 1999 .
  4. مجلة الهدف، العدد 1291، 1999 .
  5. نشرة صادرة عن المركز الاتحادي للبحوث السياسية- ألمانيا، 1999 .
Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial