سيداتي وسادتي، أود أن أبدأ كلمة التكريم بدعوتكم في جولة بطائرة الزنانة (الدرون) فوق البلدين الذين ينحدر منهما الفائزيْن بالجائزة: العراق ولبنان. أنا متأكدة من أنكم جميعًا شاهدتم أفلام التقطتها طائرات الزنانة تظهر الدمار الشامل لمدنٍ وقرى عبر مناطق هذين البلدين. لقد أدت الانفجارات الهائلة، والأضرار البيئية الجسيمة، والقتل الجماعي، والجرائم ضد الإنسانية، والدمار، والتهجير، والاختفاء، والتعذيب والفقر إلى تخريبهما بشكل لا يمكن محي آثاره. ويوجد بين هذين البلدين بلدٌ مدمَرٌ آخر يشهد على المزيد من الفظائع. بالطبع أنا أتحدث هنا عن سوريا. هذه المنطقة اليوم منطقة منكوبة تحكُمها قتلة ولصوص. كان الانحدار إلى الهاوية انحداراً طويلًا وازداد الانحدار سرعة في الآونة الأخيرة: وكأنها ساعة الصفر ببرلين، ولكن بدون إثنا عشر سنة من الحكم النازي، بل مع عقود عديدة من الحكم الوحشي، وبدون نقطة الصفر للبدء منها، حيث يبدو أن لا نهاية لسلسلة الرعب. والناس تتوق للوصول إلى قاع الهاوية ورؤية “شاعة الصفر”.
في ظل دمار شامل كهذا من الصعب الحفاظ على الثقة بأي شخص أو الايمان بأي شيء. وفي حين يضعف الإيمان بالإنسانية بشدة، يصعب الحفاظ على الإيمان بالله أيضا – خاصة أن الشر يحدث في كثير من الأحيان باسم الله. في الواقع، لقد تم استخدام الدين في البلدان الثلاثة في تأجيج الصراع وتغذية الكراهية والخوف والعنف. وتبدو لنا وكأنها منطقة هجر عنها الله بل تبدو أكثر من ذلك وكأنها منطقة تركها الإنسان والإنسانية. ومع ذلك، نحتفل هذا المساء بشابين، امرأة من لبنان ورجل من العراق، تمكَّنا من الحفاظ على الثقة والإيمان بالإنسانية والإيمان بالله حفاظاً حيا. كيف استطاعوا الحفاظ على إنسانيتهم وإيمانهم العقيدي في خضم هذا القدر من الإبادة والعدمية؟ كيف تغلبوا على الانقسامات الطائفية والمخاوف، وبنوا سلاسل من الجسور الروحية والمدنية؟ كيف طوروا اللاهوت السياقي الإنساني ومارسوا التضامن الروحي الجماعي؟
اسمحوا لي أن أتحدث عن الأستاذة نايلة طبارة، وهي عالمة دين مسلمة من بيروت ومقيمة في بيروت، مؤسس مشارك لمؤسسة أديان والآن رئيستها والرئيس المشارك وعضو المجلس العالمي للأديان من أجل السلام. نشأت الأستاذة الدكتورة طبارة في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، في مدينة مقَسَمة وممزقة بين مجتمعات سياسية دينية.
تنحدر نايلة من تقليد سني ثم طورت معرفتها في وقت مبكر لفضولها بالمعرفة وطرحها أسئلة دينية، بما في ذلك أسئلة حول التصوف والأديان القديمة وعلم المصريات. عرّفتها سنوات دراستها الجامعية في بيروت وروما وباريس على التقاليد الإسلامية والمسيحية، مما زاد من اهتمامها بالدراسات المقارنة للديانات. تهمها على سبيل المثال أسئلة التنوع والغموض والالتباس، وكذلك مسألة قداسة القرآن. بالتجول عبر السلفية والصوفية والليبرالية، أخذتها الرحلة إلى محطات التأمل في المعتقدات والذاكرة المشوهة للصراعات السياسية والدينية وقضايا الجندر (“النوع الاجتماعي”).
ظهرت أولى ثمار هذه الرحلة الغنية في كتابها الصادر عام 2018 بعنوان L’islam pensé par une femme (تفسير المرأة للإسلام). حصل كتابها على العديد من الجوائز في فرنسا، وتلاه كتاب L’itinéraire spirituel d’après les commentaires du Coran (المسار الروحي وفقًا لتفسير المتصوفين للقرآن) الذي صدر عام 2018. هذان فقط عنوانان اثنين من ضمن سجل زخم من الكتب، لكني سأذكر هنا عنوانًا آخراً واحداً فقط، وهو كتاب صدر بالاشتراك مع الأب فادي ضو ونُشر في عام 2014، L’hospitalité divine: l’autre dans le Dialogue desology chrétienne et musulmane، ترجم إلى اللغة الإنجليزية بعنوان: Divine Hospitality: A Christian-Muslim Conversation وترجم إلى الألمانية بعنوان
Göttliche Gastfreundschaft. Der Andere – Christliche und muslimische Theologien im Dialog؛ كما ترجم إلى اللغة العربية بعنوان “الرحابة الإلهيّة: لاهوت الآخر في المسيحيّة والإسلام”.
لم ينتج عن اللقاء مع الأب الكاثوليكي الماروني فادي ضو هذا الكتاب فحسب، بل أيضا تأسيس منظمة كاملة اسمها “أديان”، شاركا في تأسيسها عام 2006 لمعالجة قضايا التنوع والاختلاف الديني بلبنان بطريقة ملموسة. لم يكن خطابهم مجرد خطاب تسامح وتعايش، بل خطاب “تضامن روحي”، حيث كان يُنظر إلى إيمان الآخر وممارساته الدينية على أنه دعم وغذاء للعقيدة الشخصية وللممارسات الدينية، وليس مصدر تهديد وخوف. رغم كل الصعاب، طورت مؤسسة “أديان” برامج عملية في المواطنة الشاملة ودليل للمعلمين للدراسة التعددية حول تعليم التنوع الديني بالاتفاق مع المؤسسات الدينية القائمة والوزارات الحكومية. على الرغم من كل الاضطرابات الأخيرة في العالم العربي، وسعت “أديان” أنشطتها عبر العديد من البلدان، بما في ذلك العراق، وأقامت علاقات تعاون مع منظمات مثل مسارات الدكتور سعد سلوم، والتي نحتفل بها اليوم أيضًا. إن تقديم جائزة ابن رشد بشكل مشترك للـ “جولتين” أو “المساريْن” أو “الطريقين”، وتكريم أبطالهما، الدكتورة نايلا طبارة والدكتور سعد سلوم، هو طريقنا نحن للاحتفال بهذه الشبكات من “التضامن الروحي” المفيدة وسط وحشية التي لا تقدر على الوصف.
تشكل مناطق الصراعات الدائمة مثل منطقتنا تحديات هائلة للعقيدة في جميع الأديان. من الصعب الحفاظ على رؤية وجه الله عندما يُداس البشر، أو أحيانا حتى من الصعب الحفاظ عليها دون أن يراودنا الشك. من هذه التحديات انبثقت نظريات جميلة عن التحرر والعيش المشترك. أفكر على سبيل المثال بمنظمة “كايروس فلسطين” وبإصدارها في 2009 للوثيقة التي توضح فيها معنى التمسك بالإيمان في ظل الاحتلال ووثيقة “نختار الحياة الوفيرة” الصادرة حديثاً في عام 2021 في بيروت والتي تدعو إلى موقف ثابت وقوي يؤكد الحياة في مواجهة اليأس الكئيب والمعاناة. كما جاءت أصوات الوئام الدينية من بغداد، حتى في أحلك ساعاتها، في أعمال عبد الجبار الرفاعي، الذي اعترفنا نحن في لجنة التحكيم بإنجازاته أيضًا. وقد قدمت النساء مساهماتهن الخاصة في هذه القضايا. وقد أعربنا سابقاً عن تقديرنا لعمل الأستاذة الدكتورة أم الزين بن شيخة في هذا الصدد. إننا نراهن اليوم على هؤلاء وكثيرين آخرين على أصواتهم الراسخة بعيدة النظر في تقاليد متعددة المرفوعة في وجه فظائع عالمنا.
إنه لشرف لي، ناهيك عن سروري، دعوة الدكتورة نايلة طبارة، وكذلك الدكتور سعد سلوم، إلى فلك الشخصيات المعترف بفضلها في مؤسسة ابن رشد.
وشكرا.