كلمة تكريم: أ. د. أودو شتاينباخ

English Deutsch

كلمة الاستاذ الدكتور أودو شتاينباخ التكريمية في حفل تسليم جائزة ابن رشد للفكر الحر للمحامية والناشطة الحقوقية السورية رزان زيتونه وأ.د. شتاينباخ مدير مركز
Center for Near and Middle Eastern Studies CNMS التابع لكلية Humboldt-Viadrina School of Governance
في برلين

كلمة الاستاذ الدكتور أودو شتاينباخ التكريمية في حفل تسليم جائزة ابن رشد للفكر الحر للمحامية والناشطة الحقوقية السورية رزان زيتونه

أ. د. أودو شتاينباخ

علينا اليوم أن نكتفي بتكريمها غيابيا دون حضورها الشخصي بيننا. وهذه ليست المرةَ الأولى التي يعجز فيها فائزون عن حضور حفل تكريمهم شخصيا. ويمكن القول عموماً إن هذه واحدةٌ من ظواهر الصراع بينهم وبين السلطه القمعية. لذلك فإننا في هذا المساء الذي يتحتم على فائزتنا أن تتخفى فيه، ننتهز هذه الفرصة لتكريمها، وبها نكرم كل نساء ورجالات الثورة السورية. إن اسمها معروف لنا، ونحن نعلم ما تمثله: النضالَ من أجل الكرامة الإنسانيةِ والحريةِ والعدالةِ في وطنها سورية. ونرى فيها في الوقت نفسه ناشطة وعيت ذلك التمرد الذي سرى في المجتمعات العربية منذ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 في انتفاضته للتخلص من نير القهر والظلم. وكانت قد قالت في مقابلة معها بمناسبة تكريمها بجائزة آنا بوليتكوفسكايا لها في نشرين الأول (أكتوبر) 2011 : “هذه الجائزة تمثل جائزة لجميع السوريين وثورتهم.”

هناك عدة مرجعيات لصراع السوريين الثوري. وإحداها هي تعطش الشعوب العربية إلى الاستقلال والحرية منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية. فالثورة العربية الأولى التي شهدتها سورية كذلك في عشرينات القرن الماضي قمعت من قبل القوى الامبريالية الأوروبية. ثم بدأت الثورة العربية الثانية مع استيلاء الضباط الأحرار على السلطة في مصر والإطاحة بالنظام الملكي، والتي غيرت الخريطة السياسية في المنطقة العربية بين الجزائر واليمن فيما يقرب من عقدين من الزمن. ثم انتهى الأمر بوقوع هؤلاء الزعماء في فخاخ طموحهم السياسي المتعاظم، والصراع بين الشرق والغرب، والصراع الإسرائيلي/الفلسطيني، وممارسة سلطة استبدادية وسياسة تنمية أدت إلى تنامي ثروتهم الذاتية واقتصاد الزمر والمحسوبيات واتساع التباينات الاقتصادية والاجتماعية.

اما الثورة العربية الثالثة فقد اختارت ان تمسك الخيوط من حيث فشل الفاعلون في الثورة الثانية. عندما أقدم محمد البوعزيزي على حرق نفسه في تلك البقعة المقفرة المنسية من سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010 احتجاجاً يائساً على إهانتة، كان هذا الحدث بمثابة مشعل أهاب بالملايين من الناس أن يعيدوا مجدداً تحديد موقع المجتمعات العربية في القرن الحادي والعشرين. واتّضح من ذلك في الوقت نفسه أيضاً أن الثورة اكتسبت قيمتها ومبررها من التاريخ نفسه، وأن انطلاقتها لا رجعة فيها. إذ ليس في العالم العربي مكان واحد لم تشمله هذه الحركة.

وهنالك مرجع آخر لثورة السوريين ناشئ عن تاريخهم الحديث. فعندما استولى حزب البعث عام 1963 ـ في خضم الثورة العربية الثانية ـ على السلطة في دمشق بدا لبرهة وكأن آمال الناس الموعودة بسورية جديدة سوف تتحقق. لكن طريقة الاستيلاء على السلطة بالاعتماد على الجيش بحد ذاته ألقى بظلاله على هذا الوعد. ومع حدوث انقلاب حافظ الأسد في عام 1970 لاحقاً واعتماد دستور جديد في عام 1973 أقر بإحكام هيمنة حزب البعث، بات واضحاً أن التطور في مسار الاشتراكية سيتعارض مع حقوق الإنسان والحريات المدنية، ولا يمكن التوفيق بينها. وقد قمعت حركات المقاومة ضد الديكتاتورية بوحشية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. ولوحظ مبدأ أولوية العنف في ممارسة السلطة على الشرعية الديمقراطية، وهو ما تمسك به بشار الأسد أيضاً.

لقد بدأت رزان زيتونه مقاومتها قبل أن يتكهن أحد باندلاع الثورة العربية الثالثة والعاصفة في سورية بعقد من الزمان تقريباً. بدأتها كمدافعة عن السجناء السياسيين أولاً، ثم كأحد المشاركين في تأسيس منظمات حقوق الإنسان فيما بعد. وربما حضورها هنا الليلة كان سيكلفها حياتها.

ولكن أين نقف نحن من هذا الحدث التاريخي؟ التزامنا هذا المساء في تناقض واضح مع تراخي السياسة الغربية. لا نرى ولا نسمع منها إلا كلمات جوفاء، وتهربٍ دبلوماسيٍّ ملتوٍ، وتحليلاتٍ عن “الطبيعة الخاصة” للتطورات في سورية تثير الشك في أمرها. فالعقوبات الاقتصادية ليست بالأساليب الفعالة، إنما هي واجهات زائفة. وظيفتها إعطاء انطباع بأن شيئا ما يحدث. بينما واقع الأمر يؤكد بالطبع على أن لا شيء تقريبا يحدث. ولكن ـ يا للتناقض الصارخ ـ ألا تعتبر أوروبا نفسها الأعلى صوتاً عندما يتعلق الأمر بالحرية؟ وثمة في الواقع شريط طويل من التفكير حول العلاقة بين الحرية والتمرد على السلطة المستبدة يمتد بين الأدباء والمفكرين مثل فريدريش شيلر وألبير كامو على سبيل المثال. فألبير كامو يسأل في مقالته الرائعة “الانسان والثورة” L’Homme révolté  “من هو الثوري؟” ويجيب “إنسانٌ يقول لا”. ملايين من العرب قالوا “لا”. وشيلر قال لا، في مسرحية “فيلهـِلم تِلّ”، التي أصفها دائما بأنها مسرحية عن إرادة الحرية.

“لا، فلسلطةِ الطاغيةِ حدود !
عندما لا يجد المقهورُ حقوقـَه ولا في أي مكان
عندما يصبح العبءُ لا يطـاق ـ حينها يمد يده
بتصميمٍ شجاعٍ يشقُّ عبابَ السماء
وينتزع من عليائها حقوقـَه الأبدية . .
المعلقةَ هناك، تأبى المساومة، . .
غيرَ قابلةٍ للانكسار، ثابتةً مثل النجوم عينِها”

لا حاجة هنا لذكر أوجه التشابه مع اندلاع الثورات العربية. فهو واضح للعيان.. لقد انتفضت رزان زيتونه من بين العديدين لانتزاع هذه الحقوق التي تأبى المساومة، والتي ما هي إلا حقوق إنسان من الأعالي تحضرها إلى مجتمعها السوري. وذلك لا يمكن تحقيقه إلا بدفع ثمن باهظ، وهو المجازفة بالحياة، وهو ما أودى بحتف أربعين الفاً حتى الآن. يقول كامو: “في أقصى الحالات يقبل المرء بالتهاوي الأخير: ألا وهو الموت إذا ما حُرم من الاعترافِ بما يسميه الآن حريتـَه. يفضل عندها الموت واقفاً بدلاً من الحياة في ركوع” – “الموت أفضلُ من الحياةِ في عبوديّة”، هكذا جاء في فيلهِلم تِلّ.
لماذا هذا الاستطراد؟ لكي أوضح أننا في البلاد الأوروبية والعربية نقف على أرضية مشتركة على الرغم من كل الاختلافات التاريخية والثقافية والدينية. كان “الغرب” على مدى عقودٍ ينظر إلى “العربِ” و”المسلمينَ” نظرة متعالية يمزجها الشفقة والغطرسة ومعرفةُ الخبير الزائفة، ويراهم غير مؤهلين جينياً لممارسة الديمقراطية. والأذكياء منهم طالبوا المسلمين بأن يمروا اولاً بمرحلة التنوير، عندها فقط يمكنهم اللحاق بالحداثة. بينما الثورة العربية والانتفاضة السورية أثبتتا لنا عكس ذلك: فنحن جميعا ملتزمون بالقيم الإنسانية. والحريةُ شرط أساسيٌّ لا غنى عنه. إن أفكارَ فلاسفةٍ وشعراءَ غربيين مثل فريدريش شيلر وألبير كامو مبنية على ذات قاعدة تفكير واستنتاجات العقول العربية مثل رفاعة الطهطاوي ومصطفى كامل وعبد الرحمن الكواكبي والكثيرِ غيرهم. وبناء على هذا الإدراك يجب أن تتكون أسس علاقاتنا القادمة. وعلى أساسها تتولد تصورات جديدة في إدراك كل طرفٍ للآخر. إن الكليشيهات المألوفة المتداولة هنا في هذا البلد حول “العرب”، “الإسلام”” أو “المسلمين” مكانُها في النفايات مثَلُها مثـَلُ الحكام الطغاة والمستبدين الذين أطاحتهم “شعوب بلادهم”.

ماذا نفعل الآن وكيف ندعم الأحداثَ التي نشأت في هذا السياق التاريخي؟ سؤالٌ يطرح نفسه بإلحاح. عندما تتواجد الثورة العربية عموماً وفي سورية خصوصاً في سياق الحرية والكرامة الإنسانية، الذي نعتبره في الغرب عنصراً وحقاً أساسياً للالتزام بالعلاقات لا يمكننا تجاهله..لذا فإن  فشل السياسة الغربية، وقبولها حدوث الذبح في سوريا (بالتفرج) دون حراك تقريباً ـ الذبح الذي يعني وللأسف، أن عدد الجناة يزداد كلما طالت مدته ـ وصل إلى حد السخرية. وعندما نربط ذلك بالذات بموقف المجتمع الدولي نحو”مسؤولية الحماية” التي يكثرون من مناشدتها، والتي كانت تبريرا سهلاً لمهمة حلف شمال الاطلسي العسكرية في ليبيا. إن تطبيق العقوبات كذريعة تحقق لهم التدخل وتطبيق الضغوط. إذ جاء في صحيفة فرانكفورتر ألغِماينه الصادرة في 16 أيار(مايو) 2012: “حظر الاتحاد الأوروبي تصدير السلع إلى سوريا التي تستخدم لقمع السكان. ووضعت قائمة البضائع المعنية. فكان من بين تلك السلع، الكافيار والكمأة والسيجار الذي يتجاوز سعر بيعه العشرة يورو، والنبيذ وأنواع أخرى من الخمور بقيمة أكثر من 50 يورو، والمنتجات الجلدية التي يتجاوز سعرها الـ 200  يورو، والأحذية التي تكلف أكثر من 600 يورو ، حسب مصادر المفوضية الاوروبية. “سورية ليست ليبيا، والعمليات العسكرية على غرار ما حصل في ليبيا لا يمكن تكرارها لأسباب عديدة. ولكن ـ  وهذا مطلب رزان زيتونه في المقابلة المذكورة سابقاً ـ “وجبت حماية السوريين، يجب أن يكون هناك بدائل جديدة، ويجب إيجاد حلول لحماية الشعب السوري، ولتقديم نهاية لهذا النظام”. لكن الحماية لا يمكن تحقيقها بالكلام – وفقا لواقع الأشياء – ولا بالعقوبات التي لا تهز النظام حقا. الحماية تعني التدخل أو إمداد من يحتاج الحماية بالوسائل التي تمكنه من حماية نفسه.

نحن نعلم أن كثيرين من الناس في سورية مترددون إزاء الانضمام إلى الثورة، نعم، لأن لديهم بالفعل خوف من المستقبل. وهناك العديد من الأسباب. إذ ما كل إنسان ولد ثورياً، هذا ما قد أدركه البير كامو الذي وضع الثوري أمام مسؤولية كبيرة. “لا تتنامى الحرية بنفس القدر الذي يتنامى وعي الإنسان بها. من هذه الملاحظة يمكن استخلاص شيء واحد فقط: الثورة هي فعل الانسان الواعي الذي لديه معرفة بحقوقه. ولكن لا شيء يسمح لنا بالقول إنها فقط لحماية حقوق الفرد. بل على العكس من ذلك، يبدو كأنها وعيٌ أكثرُ وأكبرُ اتساعاً يصبح من نصيب الجنس البشري في سياق مغامراته مع ذاته.” الثورة عند لكامو تصبح “البديهية الأولى”، وهي أساسية مثلما يمثل “التفكير” (cogito) عنصراً أساسياً عند ديكارت كتجربة أساسية في معرفة الذات. “أنا أفكر: إذاً أنا موجود”. وفي تعديله صياغة هذه النتيجة الأساسية يقول كامو”أنا أغضب، إذاً نحن موجودون”. أي أن الانسان يعمل في الثورة بنفس الوقت للآخرين، واحتجاجة يتجاوز الفرد. لذلك نحن نفهم تصريحات رزان زيتونه المنقولة سابقا “هذه الجائزة تمثل جائزة لجميع السوريين ولثورتهم.”

مقاومة رزان لم تبدأ مع اندلاع الثورة. كانت ناشطة في مجال الدفاع عن انتهاكات حقوق الإنسان قبل فترة طويلة من بدء الاحتجاج الجماعي في آذار (مارس) 2011. ولكن هنا بالذات ـ مع نقلة الاحتجاج من الفردي إلى الجماعي ـ يكمن الجوهر الغامض في الثورة في سورية ـ وفي البلدان العربية الأخرى، حيث ارتفعت وقفات الاحتجاج ضد الظلم. وفي هذا السياق يشار مجددا إلى أهمية وسائل الإعلام الاجتماعية. وهذا بالطبع صحيح. لكن وسائل الإعلام هذه ما هي إلا الوسيلة التي عبروا بها عن سعيهم العميق الفعال للتغلب على نظام بقى على قيد الحياة ولم يعد يُحتمـَل. فمن المؤكد أن مرحلة قد انتهت فترتها الزمنية، حتى ولو كانت السلطات تحاول بأي ثمن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.

على عكس الانقلابات التي حدثت في الدول العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، والتي كان زمام مبادرتها من الأفراد و/أو فئات محددة، من الجيش على وجة الخصوص، فإن الثورة الجديدة هي حركة نشأت من الشعب. “نحن الشعب! . . هذا الشعار المعروف لدينا بصيغ مختلفة قد وحد رجالا ونساءً منتمين إلى فئات دينية وعرقية مختلفة في الاحتجاج. ما الذي يحافظ على وحدتهم؟ ما الذي يمدهم بالقوة في وقوفهم بوجه الحكام العازمين على استخدام أشد أدوات القمع ضد الشعب؟ أجابت رزان زيتونه على هذا السؤال: “لا شك في أن المحتجين والثورة في نهاية المطاف ستنتصر. لو لم نكن نؤمن بأننا سنفوز لما كنا قادرين على الاستمرار في مناهضة وحشية النظام. ولم نكن لنتحمل كل هذه الجرائم ضد شعبنا. أنا متأكدة من أن كل سورية وسوري يؤمن بأن الثورة ستنتصر في النهاية”. يشعر الناس بأن التاريخ يقف إلى جانبهم. وقد توسع نضالهم من احتجاج فردي إلى قضية تخص الجميع.

في هذا الموقع أيضاً اعيد طرح السؤال: هل اعترفنا نحن ـ  وأقصد نحن الجيران الأوروبيين ـ بأهمية ما يحدث عند جيراننا العرب؟ وكنت قد اشرت سابقاً الى الأصل المشترك للسعي في سبيل الحرية. ما هو الشكل الجديد من أشكال اللقاء بيننا وبين جيراننا الذي يتوافق مع هذا الادراك؟ التاريخ غير مشجع. منذ أن واجهت أوروبا والشعوب العربية في نهاية القرن الثامن عشر في مرحلة التوسع الأوروبي بعضها بعضاً أخذت هذه المواجهة اسم “عبء الرجل الأبيض”،(The white man’s burden)  أو “مهمة تحضير الشعوب” (la mission civilisatrice). وكانت أوروبا ما تزال حتى إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى تُخضع الشعوب العربية لرعايتها أو انتدابها مدعية أنها بذلك ستنقلها من مستوى التخلف الحضاري نحو  المعايير الأوروبية الحديثة. لقد تحولت سياسة الغرب إزاء منطقة البحر الأبيض المتوسط في العقود الأخيرة إلى إدارة حريصة على الحفاظ على الوضع الراهن. فكان الحفاظ على الأنظمة القائمة يأخذ أولية الاهتمام وليس دعمُ قوى التغيير الديمقراطي. كانت أوروبا تشاهد كيف تُتجاهل وتنتهك حقوق الشعب الفلسطيني في فلسطين. ثمان وأربعون ساعة قبل سقوط بن علي عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية عليه تقديم “نخبة” قوات الأمن الفرنسية للوقوف إلى جانبه. لكن الشعوب التي انتفضت في البلدان العربية منذ السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2010 لم تستأذن أوروبا، لقد انتفضت لوحدها دون اوروبا. ولو انها طلبت مساعدة اوروبا فمن الأرجح أن طلبها كان سيرفض. إن على أوروبا أن تعمل على استعادة مصداقيتها، والخطوة الهامة الأولى في هذا الاتجاه هي إعادةُ تعريف نقاط اللقاء بيننا. هل سيقامر الغربُ بهذه الفرصة في سورية ويخسرها مثلما خسرها وما يزال في فلسطين؟
على أي حال فإن النزاع الأخير في غزة يغذي بقوة الشك في عزم الاتحاد الأوروبي ـ مع التغييرات في المجتمعات العربية ـ على تجديد العلاقات مع جيرانه على أساس من المصداقية. ويكاد يكون غيرَ ذي صلة بالموضوع تقريباً من ذا الذي بدأ باطلاق النار والقتل في الأيام الأخيرة. وغني عن القول أن لدى كل دولة إمكانية الدفاع عن نفسها اذا تعرضت لهجوم. ولكن إذا كان الساسة يحددون بشكل قاطع أن إسرائيل لديها “كل الحق  في الدفاع عن نفسها، فإن عليهم في هذه الحالة التحقق في نفس الوقت وبنفس القدْر من التركيز من أن على اسرائيل الالتزام باحترام قواعد القانون الدولي والقوانين الانسانية. فعلى مدى السنين لم يحصل أي تقدم يذكر، بل تعاظمت ممارساتُ الاحتلال ومصادرةُ أراضي الشعب الفلسطيني وامتهانُ كرامتهم بشكل ممنهج من قبل المستوطنين، الذين قامت الحكومة الحالية في اسرائيل بحمايتهم ودعمهم. ومرة أخرى عاودت أوروبا غض نظرها. لكن العنف يولد العن، وكان اليأس وامتهانُ الكرامة الأرضَ الخصبة لانتفاضة الشباب العربي من المغرب واليمن والبحرين كما في سورية أيضا. اليأسُ وامتهانُ الكرامة هما أيضاً أرضٌ خصبة للعنف من جانب الفلسطينيين ضد قوة احترامها للحق قليل –  أو فلنقل انتقائي –  تماماً مثل احترام الحكام العرب المستبدين له. وقد سبق أن أشار فريدريش شيلر في مقدمة كتابه “تاريخ سقوط هولندا المتحدة من الحكم الاسباني” (تاريخ سقوط الأراضي الواطئة من الاحتلال الإسباني) إلى وجود علاقة وطيده ما بين الكفاح للتحرر من القمع الاستبدادي والكفاح للتحرر من قيود الاحتلال العنفي من قبل قوة أجنبية وملحوظته تصلح لكل زمان: “إن المواطن اليائس ، الذي تترك له حرية الاختيار بين خيارين للموت ، يختار الموت النبيل في ساحة الوغى (المعارك). شعب ثري مرفه يحب السلام، لكنه سيحارب عندما يعمه الفقر. الان لم يعد يرتعد من أجل حياة أصبحت تفتقد لكل ما كان يستحق الرغبة فيها.

جائزة ابن رشد نقدمها لرزان زيتونه. هل نفعل ذلك – كما في حال الكثير من الجوائز السياسية –  كي نعاود التأكيد لأنفسنا على القيم المقدسة على وجه الخصوص ؟ إذا كان للجائزة أيُّ معنى، فهذا مرهون عندما تكون مقرونة بفعل وليس بمجرد كلمة. أي عندما نلتزم بسلوكنا بروحية الجائزة. فعندما نكرم رزان زيتونة يجب علينا ان نسعى لنكون نحن ايضاً مثل رزان زيتونه. لا يمكننا الوقوف جانباً أمام سعي الشعب السوري لاقتلاع الاستبداد والتخلص من حكم غير شرعي أو أمام نضال الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال الغير شرعي.

كيف يمكن لاوروبا أن تستعيد مصداقيتها؟ الجواب هو: يجب علينا أن نغير النظرة. المطلوب نظرة شاملة وجامعة، وهذا يعني أننا بحاجة إلى الاعتراف بأن مستقبل المجتمعات العربية وجيرانهم في الشرق الأوسط هو جزء من مستقبل أوروبا. فوضع أوروبا في النظام الدولي للقرن الواحد والعشرين سوف يعتمد إلى حد كبير على نوعية العلاقات مع النظم الجديدة، التي تنشأ في العالم العربي بما فيها فلسطين. لكننا قدمنا لفترة طويلة تصوراً إقصائياً: كانت الشعوب العربية دوماً بمثابة الآخرين. وقد تأثر تفاعلنا بهم بهواجسنا: الخوف من عدم الاستقرار، الهجرة غير الاعتيادية، والتطرف الإسلامي العنفي، والمقاومة المسلحة ضد دولة إسرائيل. فبقي حل القضية الفلسطينية معلقاً. أما النظرة الجديدة – التجميعية – فتتطلب بدورها النقلة النوعية والحوار مع أولئك الذين يضفون الشرعية على القادة السياسيين، وهؤلاء هم الشعب. طالت الفترة التي حافظنا فيها على العلاقات مع أولئك الذين ادعوا لأنفسهم الشرعية دون مراعاة شعوبهم أو ضدها.
وفيما يتعلق بالمستقبل القريب في سورية فإن كل شيء مرهون بأن يصل قريباً حكم النظام إلى نهايته. كل يوم اضافي يمر على حكمه سوف لن يزيد عدد الوفيات فحسب، بل سيعمق الانشقاقات والكراهية بين السوريين. الشعب في سورية بحاجة إلى نشوء آفاق نظام جديد يتناسب مع تطلعاته. يجب أن يترافق نشوء هذا النظام مع المصالحة. فلنأخذ اقتباساً آخر من الشاعر فريدريش شيللر وما قاله في “فيلهِلم تِلّ”: “ليكبح كل فرد غضبه المحقّ / وليستغن عن الثأر من أجل الجماعة!/  فإن السرقة بحق الصالح العام إنما يرتكبها / من يخدم نفسه في مصلحة خاصة” – والمصالحة شرط لا غنى عنه من أجل تحقيق بداية جديدة.”
أملنا في هذه الليلة أن يحدد الناس في سورية أن تكون لـ “الجماعة” و”الصالح العام” الأولية على “مصالحم الخاصة”. هذه الأمور تجتمع في شخص مثل رزان زيتونة التي نكرمها هنا الليلة. فقد كرست حياتها على مدى سنوات عديدة “للصالح العام” ومن أجل الحق في الكرامة الإنسانية والحرية، وجعلتها أولى من مصلحتها الخاصة. لم تتمكن هذه الليلة من الحضور معنا، لأن عليها أن تتخفى بسبب نضالها من أجل الصالح العام. وعندما تظهر من جديد – ومعها كل اولئك الذين كان عليهم التخفي – فهذا سيكون علامة بأن حقبة جديدة في سوريا قد بدأت وعلامة على أن مستقبلنا يستند ايضاً على نفس القيم الاساسية الغير قابلة للفصل والتي نحن كلنا دون استثناء ملتزمون  بالمحافظة على صلاحيتها.

أودو شتاينباخ
30 تشرين ثاني (نوفمبر) 2012

الأستاذ الدكتور أودو شتاينباخ مدير مركز  Center for Near and Middle Eastern Studies CNMS  التابع لكلية Humboldt-Viadrina School of Governance  في برلين.

أ.د. أودو شتاينباخ

أ.د. أودو شتاينباخ

ولد أودو شتاينباخ عام 1943 في بيتاو/سيتاو في ألمانيا ويعد من أشهر علماء التاريخ الإسلامي وخبراء الشرق الأوسط فيها. بدأ دراسة اللغات الكلاسيكية القديمة والدراسات الإسلامية في مدينتي بازل السويسرية وفرايبورغ الألمانية في عام 1965. تخصص في فرايبورغ في الاستشراق ونال درجة الدكتوراه عام 1970. أدار الكثير من المعاهد العلمية، مثل مدير قسم الشرق الأوسط في مؤسسة العلم والسياسة Stiftung für Wissenschaft und Politik  وهو المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية وذلك من 1971 إلى 1974، كذلك كان مدير معهد الشرق الألماني في هامبورغ (من 1976 إلى 2006)، ومدير المعهد الألماني للدرساسات العالمية والاقليمية (GIGA) (2007)، وأخيرا مدير مركز Center for Near and Middle Eastern Studies CNMS  التابع لكلية Humboldt-Viadrina School of Governance  منذ حزيران-يونيو 2012.
ومنذ عام 1991 وهو أستاذ فخري في جامعة هامبورغ.  عمل استاذا محاضراً في مركز دراسات الشرق الأدنى والأوسط في جامعة ماربورغ الألمانية من 2007 حتى 2010.
تتمحور مجالات بحوثاته حول التغيرات السياسية والاجتماعية في الدول العربية وتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان، أشكال الإسلام السياسي، الشرق الأوسط في السياق النظام الدولي، العلاقات بين الشرق الأوسط وألمانيا وأوروبا وكذلك دول آسيا الوسطى، مستقبل الشرق الأوسط في ما يخص الديمقراطية والدين والجوانب السياسية والاجتماعية والدينية للمجتمعات الإسلامية في أوروبا.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial