خطاب التكريم للأستاذ ميخائيل جيبيل

Deutsch

كلمة تكريم الأستاذ محمد عابد الجابري الفائز بجائزة ابن رشد للفكر الحر لسنة 2008 للأستاذ ميخائيل جيبيل

ولد محمد عابد الجابري في عام 1935 في بلدة فجيج في المغرب. مارس مهنة التعليم في وقت مبكر، الأمر الذي اقتضته الظروف السياسية الاستثنائية. وقد أغلقت المدرسة الثانوية مؤقتاً والتي كان يزورها الجابري نتيجة لتداعيات نفي الملك محمد الخامس من المغرب [ من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي في المغرب – المترجم ].

وبعد استقلال المغرب عام 1957 سلك طريق التعليم وانخرط مبكراً في العمل السياسي والصحفي، وفي نفس الوقت ثابر على إكمال دراسته العليا في مادة الفلسفة في جامعة الرباط حيث نال درجة الدكتوراه عام 1970 وكانت بذلك أول دكتوراه تمنح في مادة الفلسفة من دولة المغرب. تبع ذلك تعيينه أستاذاً جامعياً ولم يمنعه ذلك من نشاطه السياسي ومشاركته في ذلك التحضير لانتفاضة 1972، مما أدى إلى اعتقاله عدة مرات.

وسبق له أثناء دراسته الجامعية أن ألّف كتاباً مدرسياً في مادة الفلسفة وتبع ذلك إصدار العديد من الكتب التربوية والفلسفية وفي مطلع ثمانينيات القرن العشرين أدى انصرافه إلى البحث الفلسفي إلى انسحابه من عضوية الحزب الاشتراكي وإن بقي متعاطفاً معه بالمشورة والدعم.

في هذه الأثناء تابع أعماله في نقد تاريخ الفكر العربي الإسلامي التي نتجت عنها رباعيته في نقد العقل العربي. وبذلك بات أحد مشاهير الفلاسفة العرب في الوقت الراهن.

وكان مركز اهتمامه السؤال الذي شغل جيلاً من المثقفين: هو استخلاص الدروس السياسية والفكرية لنكبة 1948 ونكسة 1967. فقد هُزمت الجيوش العربية ولمرتين وبكل ما ترتب على ذلك من نتائج وخيمة على الشعب الفلسطيني وشعوب البلدان العربية المجاورة، الأمر الذي أدى إلى تداعيات وإحباط في العالم العربي أجمع. وتزامنت هذه الهزيمة مع نمو الوعي لدى الجماهير – وخاصة المثقفين – بأن الدول المستقلة حديثاً سوف تبقى متقاعسة ولن توفي بتحقيق وعودها في بناء أنظمة ليبرالية وديمقراطية اشتراكية تؤمّن التقدم والرخاء.

إن أزمة تجربة النهضة التي بدأت مع رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين والتي كانت في جوهرها حركة استنهاض تنويرية تهدف إلى تحرير الإسلام من الشوائب التي لحقت به تاريخياً وإعادته إلى أصوله مدعماً بنتائج التطور العالمي في مجال التقنية والعلوم بما يعزز التوجه الجديد.

إن هذا المشروع لتحديث العالم العربي إن لم يكن قد فشل إلا أنه يبدو مراوحاً في مكانه أو تباطأت حركة تقدمه، مما يستدعى البحث الملح عن الأسباب التي أدت إليه.

تساءل الجابري ومثله الكثيرون من معاصريه عن أسباب تعثر قيام نهضة حقيقية في الدول العربية على خلاف ما حدث في أوروبا؟ وجاء جوابه ليشمل الماضي البعيد خارج نطاق التجربة في ظل الحكم الاستعماري وما تلاها من قيام أنظمة شمولية بكل تعثراتها السياسية والاقتصادية والثقافية. ولا يرى الجابري، خلافاً للكثيرين من معاصريه بأن السبب يكمن في الانحراف عن العقيدة وواجباتها بل يكمن في تفسخ العقل والفكر العربيين. وبالتالي لا بمكن أن يكون الحل في تقديم طريق ثالث متجلياً في الحنين الرومانسي والنمطية الهجينة إيديولوجياً لإعادة بناء مجتمع سياسي يرتكز على التعاليم الدينية وإنما بالمراجعة النقدية للتراث.

إن الطريق الذي سلكه الجابري لم يكن بالطريق الهيّن. فبالنسبة للفيلسوف والمربي لم يكن الطريق السهل هدفاً أو نهجاً له. لقد اعتقل عدة مرات بسبب موقفه السياسي وبالتالي ضحى بمناصب مرموقة مادياً ومعنوياً لصالح مناصبٍ أكثر مصداقية سياسياً وفكرياً.

إنه مثقف ملتزم بكل ما تعنيه هذه العبارة، إذ لا يعتبر نفسه مراقباً ومحللاً بل يوظف حياته وفعله في صميم الحدث السياسي والثقافي المعاش.

إن عرض قائمة الجوائز والتكريم هو جزء معتاد في كلمات التكريم ويمكن الأخذ بها هنا ولكنني أفضل أن أحصر العرض على حالات التكريم التي رفضها الجابري: جائزة صدام حسين، جائزة القذّافي لحقوق الإنسان وعضوية الآكاديمية الملكية المغربية التي رفضها مرتين أثناء حكم الملك الحسن الثاني. لا يتمتع مانحي الجوائز دائماً بسمعة دعم حرية الفكر السياسي وحرية الرأي ولذلك يتساءل المرء عن دوافع رؤساء دول ذات أنظمة شمولية وحكّام مستبدين أن يكرموا ديمقراطياً جذرياً وناقداً فكرياً مجادلاً.

هل تراءى لهم بأن الجابري مسالماً أم أنه بعيداً عن تشكيل الخطر الفعلي؟

هل كانت محاولة احتواء واحد من المفكرين المعتبرين في العالم العربي أكبر من المجازفة بوضع علامة استفهام حول سلوكهم السياسي من خلال تكريمهم لمثقف ملتزم؟

هل جهلوا أعماله؟ أم أنهم أملوا في توظيفها للترويج الشعوبي لماضٍ مجيد وآمالٍ في الحداثة العربية. هذا سيبقى موضعاً للتساؤل. لكن مما لا شك فيه هو أن الجابري مضى في طريق وعرٍ في تسليطه الضوء على الماضي.

إنها مخاطرة في زمن تصاعدت فيه حدة الخطاب السياسي الديني وبات فيه المفكرون العلمانيون كما الدينيون يجدون أنفسهم فيه معرضين لتهمة العداء للدين والإلحاد المذلة.

ولكن من وجهة نظر معرفية (إبستيمولوجية) ربما كانت هي الفرصة الوحيدة لكسر الجمود الفكري وربط الإرث الثقافي بإطاره الزمني. في حديث جرى في عام 1994 في الدار البيضاء لاحظ الجابري “أن الاستيعاب العربي للتاريخ تنقصه النظرة الجدلية والبعد التاريخي مما يعني عدم ربط الثقافة في إطارها الزمني. عندما يجري الحديث عن المعتزلة أو ابن سينا يجري الحديث في آن واحد عن ابن رشد بالرغم من وجود تباين في التسلسل التاريخي، في المشروع والتطور الخ. لذلك يجب علينا كتابة فهمنا للثقافة العربية ولتاريخها، لأن التاريخ حتى يومنا هذا هو تاريخ التيارات الدينية السياسية المختلفة أو تاريخ كتبه الأوروبيون مستنسخاً من تاريخ الأفكار الأوروبية.”

وفيما تقدم ذكره يتبين سبب رفض الجابري لتطبيق مفهوم العلمانية في العالم العربي. إنها خاصية محددة لتاريخ الغرب المسيحي وعلاقته مع الكنيسة والدولة والمجتمع والتي ليس لها أية أهمية بالنسبة للمجتمعات العربية الإسلامية. إن الكنسية باعتبارها مؤسسة دينية لا مثيل لها في الإسلام، كما يقول الجابري، لذلك لا يمكن الحديث عن فصلها عن الدولة.

ما تقدم يبدو كسفسطة (مغالطة) لكن في الواقع أن تنوع القواعد والهياكل التي تحكم العلاقة في بلدان الغرب مع الدين، يصعب الأخذ بها لتكون دليلاً مرشداً لعلمنة الدول و المجتمعات. وبخلاف كثير من الأصوات في العالم العربي التي تنظر إلى العلمنة على أنها مشروع غربي غريب عن الإسلام، يؤكد الجابري على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة ويستند في ذلك إلى مشروعات أخرى: الرقابة على السلطة من خلال الديمقراطية والحفاظ على حقوق المواطنة والإنسان. وهو يرى أخيراً في أنظمة الدولة والقانون والمجتمع الديمقراطية التي تحمي حقوق المواطن والإنسان الهدف المشترك للشرق والغرب.

ولكن هذا لا يكفي لدعم الفكر العربي والعالم العربي. لا بد من حين إلى آخر ظهور كتب من نمط “أبناء أرسطو” أو “باسم الوردة” لتذكير الناس كيف وصلت الفلسفة اليونانية إلى الغرب بدليل أنهم ما يزالون مندهشون اندهاشاً مفرطاً حينما يشار في المنشورات والمطبوعات المختلفة إلى أهمية الدور التي قامت به العلوم العربية في تطوير الفكر الغربي. لذلك يُحتاج إلى مثل هذه الكتب إلا أنها سريعاً ما تختفي في عالم النسيان. إن هذا يدعونا إلى إعادة النظر لماذا لم ينفذ هذا الدور إلى صميم وعينا الأوروبي التاريخي العام؟

ومن دواعي الاستغراب أن مفكراً مرموقاً من العالم العربي كالأستاذ الجابري لم تنقل أعماله إلى لغات غربية وبالتالي لا يقرأ في أوروبا.

في الوقت الذي يحتاج العالم – ليس فقط العالم العربي – إلى الاطلاع على الفكر العربي الحاضر والماضي مما يسهل فهمه بشكل أفضل ولهذا يحتاج العالم إلى المفكر العربي الجابري.

ومن المعلوم أن الفيلسوف والكاتب لن يستطيع لأسباب صحية الحضور شخصياً لتسلم الجائزة. سيبلغ الجابري في أسابيع قليلة عامه الثالث والسبعين وإذ نتمنى له تمام الصحة والعافية، نتمنى لأنفسنا في الشرق والغرب أن يدوم عطائه الفكري لفترة طويلة.

ميخائيل جيبل سيرة حياته والتعريف بإعماله

ميخائيل جيبل

درس ميخائيل جيبل العلوم الإسلامية واللغة الألمانية وآدابها في جامعة برلين الحرة. وكانت أطروحته في الماجستير: من نقد الفكر العربي إلى حركة الوحدة العربية. عالج في أطروحته هذه مساهمات الجابري في نقاش الحداثة السياسية-الفلسفية في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم.

ويعمل جيبل منذ 2006 في الهيئة الجامعية الأوروبية في بروكسل مسؤولاً عن استراتيجية التنمية والتعاون الدولي.عنوان الأطروحة:

Von der Kritik des arabischen Denkens zum panarabischen Aufbruch
Das philosophische und politische Denken Muhammad cÂbid al-Gâbirîs.

من نقد الفكر العربي إلى حركة الوحدة العربية – الفكر الفلسفي-السياسي لمحمد عابد الجابري، دار نشر :
Klaus-Schwarz Verlag 1995

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial