كلمة النوري بوزيد
في حفل 30 نوفمبر 2007 في برلين
خلال أكثر من عشرين سـنة بذلت قصارى جهدي لكي أقترب من الشخصيات التي أرسمها .. وذهب بي الحال إلى الالتجاء إلى عالم داخلي واختيار العزلة لكي ألتقي بهم وأسـكن داخلهم … أصبحت واحداً منهم وأصبحوا جزءاً مني … كنت أتوقع دون عناء إن مصيري سـيكون شبيهاً بمصيرهم الذي رسـمته .. مصير شخصياتي هو الفشل والانهيار والهزيمة لأنها لا تملك لها سـوى تمردها الخفي وانطلاقتها نحو المجهول التي تفوق جهودها …. ومكافأتها الوحيـدة هي وعيها بالجرح ، بالداء… وتعلمها المعاناة والصراع … فهي لم يكن لها الحظ أن تتوج بل هي منسية، مهمشة.. تخومية في غالب الأحيان ، تهز بهـدوء أو بثورة ما يحيط بها من توازن غير مستقر وترفض بشكل غريزي نظام الأشياء من حولها حتى تجد راحتها في تقويضه.
وخلافا لكل شـخوصي ها أنذا أُتوَّج، وكأنني نجحت من فشلها …. أشعر في بعض الأحيان وكأنني ابتعدت عنها، أو خنتها في ما رسمناه سوية.. أشعر بشيء من الخجل.. إذ كنت معتاداً أن أجعل من الانهيار منطلقاً، من الفشل دافعا. فماذا سأفعل بالنجاح وأنا لم أعتد عليه، وكثيراً ما تجنبته حين تابعني. لم تعلمني، لا الحياة ولا تجاربي المختلفة كيف أنطلق من انتصار، من تفوق يكاد يكون هـذه المرة مصيريا. وعندما يحمل التتويج اسم ابن رشـد يصبح عبئاً على شخصياتي وعليّ. وهم أفراد عائلتي، تربطني بهم مودة وعطف ووراثة استنسالية، يحملون إحساسي وهواجسي على الرغـم من اختلافهم معي، يعانون من تناقضاتي ومن رفضي للرضاء على النفس. صنعتهم من التمرد الفطري وله، فكيف لا يتمردون عليّ هذه المرة ؟؟
وأرتاح من جديد عندما أجدهم من حولي، وأنا أكتشف فجأة أن الهزيمة تفوت شـخصي، وأن الانحطاط يتجاوز الجميع، وأن الجرح أعمق من أن نتناساه. فتغمرني نشوة عندما أكتشف أن هذا التتويج يطالبني بأن لا أبتعد عنهم. بل أن أكون الشخص غير القادر ـ مهما كانت إرادتي ـ على الانحراف عنهم، وهم في صميم الانحراف الشامل المؤسس . فتأتي صوري صارخة وكأنها متنفس للموت البطيء، للإحساس بالموت الذهني والعاطفي.
نشهد عليكم قلبي … على ما سف تراب
نشهد عليكم بيتي … كي خنقتوها بالباب
نشهد عليكم وحشي … كي ولي العشق عذاب
إش سقيتو هالتربة … باش نبتتنا كلاب
مرآتي تعكس وتعاكس.. وكأن صورها غير لائقة، غير مشرفة. التشبه بها مضنٍ متعبٌ، مؤلمٌ، غير مريح.. لم نتعود أن نفتخر به، بل نتنكر له وننكره.. ولا أحـد ينكر تعدد الهزائم التي عاشها جيلي، وتعددَ المآسي الجماعية، من فلسطين للبنان، للجزائر، للسودان، للعراق… كنت ممن عاشوا شبابهم في هزيمة حزيران/يونيه 67 بألم لا مثيل له، قهر كاد يرمي بي في فراغ بلا قرار. إذ أفقنا أيتاماً خائبين مخدوعين، قاصرين، وغير قادرين على العيش تحت سلطة الأب ولا دونه.. صبيةً جاهلين النضج، رجالاً من رماد حرقو قرباناً على عتبة الصمت القاتل،… انتحاريين قبل الأوان، فاقدين كل ارتباط أمين.
وفي لحظة هربت فاراً إلى إيديولوجية، مثل العديد من أبناء جيلي. رحت أبحث عن قيم حقوق الإنسـان في الماركسية، جاهلين أنها إيديولوجية إقصـاء. ودفعنا الثمن باهظاً في أوج النشاط. إذ بلغت أوجها في أيار/مايو 68 في أوروبا. مسكوناً بهاجس السينما، مشحوناً بالصور التي لا يمكن أن تصوَّر،.. مكتسحاً الشارعَ الممنوعَ قصد احتلاله أو استرجاعه،.. صارخاً: “ممنوع المنع” .
قضيت شبابي في نوادي السينما، ولم أتردد لحظة في أن اختار السينما كمشروع حياة مجهول الوصول. وكأنني مبرمج بلا شعور. اخترت اللغة السينمائية لأتكلم لغة الكشف عن المستور، لغةَ رفعِ الستار ورفعِ الخمار،.. لغةَ ما وراء الأبواب والجدران،.. لغةَ التمرد الصامت الخفيّ، لغةَ الشاهد والشهادة. واكتشفت أن الخمار الأخطر هو ذلك الذي لا نراه،.. الخمارَ الخفيَّ،.. الخمارَ الذهبيَّ والفكريَّ، الخمارَ التربوي.
اخترت ذلك، وأنا في غَمرة تمردِ المراهقة. ومر تمردي بتجربةٍ عميقة علمتني ما لا يمكن أن أتعلمه دونها: أكثرَ من 5 سنواتٍ سجناً من أجل حرية الفكر.. تعلمت أثناءها الكلام بحرية.. تعلمت تدنيس المقدسات بكل أنواعها.. وبسرعةٍ مذهلة. وجدت نفسي أؤسس عالماً داخلياً خاصاً وشخصياً كملجأ وحيد أتفرغ فيه لبناء شخصياتي الخيالية، حاملةً هموماً صعبة التأسيس وسهلةَ التشخيص. ومنذ ذلك الحين لم أقدر على التخلص من هذا العالم الداخلي، وأصبحت أسخِّر له وقتاً طويلاً على حساب أشياء أخرى.
درست السينما وكأن ذلك جزء لا يتجزأ من ثورتي الخاصة. وعندما أصبحت سينمائياً اكتشفت أنني ما يسمى “فناناً”، وأن الفنان، والفنانَ الدراميَّ بخاصة، عليه أن يتمرد أكثر من غيره. فهو محميٌّ بداعي الخيال والعالم الروائي.. فإذا كان أصدقائي يعتبرون أنني سينمائيّ ناجحٌ، فذلك ربما يعود إلى أنني كنت سياسياً فاشلاً، أجهل فنون السياسة. وعندما عششت في رأسي وسكنت كياني فكرة أول فيلم أنجزته، وهو “ريح السد”، وجدت نفسي أمام خيار جديد يحتم عليَّ أن أتخطى كل العقبات التي تحول دون إنجازي هذا العمل. واكتشفت أن هناك عقبات متعددة. كان عليَّ أن أؤسس استقلاليتي مرة أخرى بعد تجربة السجن والمحاكمة السياسية، أن أكون مسـتقلاً عن العائلة وعن السـلطة، عن الدين وعن المعارضـة وعن الأصدقاء، بل وأن أتحدى ـ وهو الأصعب ـ كل هذا مع أنني أتجه إلى عواطفهم وأحاسيسهم مطالباً إياها أن تنخرط في مشروعي.. كان هذا ادعاءً لا حـدود له.. والأصعب من ذلك هو البحث عن استقلاليتي عن الأشياء الصغيرة غير الظاهرة، كأسلوب الحياة، وممارستي اليومية، وسيرتي مع عامة الناس، ومن حولي بطريقة غير مألوفة. فقد جعل ذلك مني غريباً في حارته، محيراً، مخيفاً، مهابا.. لم أكن أريد ذلك، ولكنني كنت غير قادر على تلافيه خفية. كانت استقلاليتي أو حيادي اللامحايد أو رفضي المنتمي غريبا.. كان عليَّ أن أحبَّ صفاقسَ على طريقتي:.. عشقاً ورفضاً في نفس الوقت، وأن أبلغ نفسَ الإحساس في علاقتي ببلدي: الحب اللامتناهي والانتماءَ الحادَّ، إنما مع رفض كل انحيازٍ أو إطراء.
حب غريب يريد أن يقوض أركان الحياة الاجتماعية، مدعياً أن ذلك منتهى المحبة. كان عليَّ أيضاً أن أخلقَ حياءً جديداً في إحساس مرهف حتى أتمكن من الحديث عن كل شيء، عن أشياء لم نعتد الحديث عنها.. كيف أحكي في 85 عن اغتصاب الأطفال، إذا لم أتمكن من تحقيق قطيعة معرفية مستهزئاً في تمكنني من قلب القيم المعمول بها، محارباً البنية العائلية الأبوية، مستهزئاً بالرجولة،.. رافضاً العصبيةَ الجهوية،.. مدعياً المحبةَ اللامحدودةَ للمنهزمين، المنسيينَ،.. المسكوتَ عنهم.. كنت نقيضَ المقولات
“استر ما ستر لله”، و”إذا ابتليتم يالمعاصي فاسـتتروا”،
و ” تعاونوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.
وجـدت نفسي من حيثُ لا أشـعرُ في حالةٍ ثانيةٍ، وكأنني في عالم آخر. وبدأ تمردي يكشـف حالتي الذاتية.. واضعاً تحت المجهر عيوبي وجروحي وآلامي المباشرة أو غير المباشرة.. هذا التمزق المشحون بلغ جلَّ أفلامي، فأتت ساخنة، حارة،.. مسكونة بالهواجس العنيفة نفسيا.
اخترت من الانهيار منطلقاً للإبداع، ومن العارِ فخراً فنياً، ومن الهزيمةِ بناءً تحليليا. كنت شـاهداً مشاكساً في الوقت الذي لا نلتفت فيه لمرتكب الأعمـال، بل نشـير بأصابع الاتهام لمن يتحدث عن هذه الأعمال، في عصر أصبح فيه الحديث عن الأحداث أخطرَ من الأحداث نفسها. تعلمت أن هذا الحديث مهمٌّ.. بل يعتبر مهمةَ المثقف الفاضح. تعلمت أن الفكرَ الجديدَ ينطلق في الحقيقةِ العنيفةِ القاتلة. تعلمت أن الفكرَ الجديدَ يُعدي.. ونشرت فيروسات الحقيقة بقصد العداء. (2)
فرقوا لحمي صدقة
على عتب الجوامع
وتسمع بيه الخلق
وناقف في حلق
اللي في قدمة طامع
بجلدي المكلوب
نعدي حتى السامع
أو … ” أنا الفرخ العايق نعيش حتى فتيله نشعلها حرايق
اخترت الحـديثَ عن المسـكوت عنه، وهو في صلب المجتمع. فجاءت أفلام “صفايح ذهـب” (حدوات من ذهب) و” بزنِسّ” (العاهر الذكر). وكشـفت أمـام المتفرج ما يريد أن يقول ويمارس دون أن يرى: ملاحقات الفكر الحر، التعذيب والاعتقال،.. بيع الجسد كآخر مراحل العلاقة اللامتوازية بيننا وبين الغرب، والتي تمس كيان الفرد.
ناضلت ضد الإيديولوجيات الإقصائية، ودافعت عن بروز الفرد ككيان هامٍّ في لحظات اختياراته المؤسسة، وبناءِ شخصيته. لكن حديثي كان محاربةََ العائلةِ الأبويةِ مثلما حارب “دون كيشوت” نواعير الهواء.. وكلما هوجمْتُ ازداد تعمقي في نفس الخط،.. أحرثُ نفسَ الخط وأحاولُ التعمقَ فيه.. تعلمت المقاومةَ من السجن وبعد السجن، مقاومةً بالفن الذي لا يمكن أن يكون إلا مشاكساً ومجدداً وتحولاً يحطم جزءاً من القديم، تغييراً لما جاء قبله، مواصلةً له.. فهو تجاوزٌ حيٌّ وحيويٌّ نابعٌ من معطياتٍ ماديةٍ وذاتيةٍ في نفس الوقت. وهو اختلافٌ بل اختلافاتٌ متتاليةٌ في مسارٍ تاريخيٍّ يرفضُ كل الضغوط وكل الإستراتيجيات المرسومة سلطوياً مهما كانت السّلطات السياسية الاقتصادية. فهو فن عند ولادته يرفض أن يكون بضاعة … ذات ثمن …
نعتوا أفلامي بسينما العراء والتعرية. كنت مبتهجاً لسببين: الأول هو أن في ذلك محاربةً للرقابة في حضارةٍ عرفت ألفَ ليلةٍ وليلة. والسبب الثاني أنني فهمت من التعرية تعريةَ الواقع، تعريةَ المجتمع، تعريةَ المخفيّ والمسكوتَ عنه، تعرية الجسد الذي ما هو إلا تجسيدٌ لتعريةِ المجتمع. لأن الجسد في أفلامي وسيناريوهاتي مركب حامل كل الآلام والجروح والتناقضات.. والخصال بأنواعها أيضا… لماذا لم يتكلم هؤلاء عندما عرّى البوليس جسـدي ومارسَ أنواعاً من التعذيب لمكافحة أفكاري؟ أليس هذا جسداً مهزوماً، منهاراً ومعتدىً عليه؟ لا ننسى أن كتابةَ السيناريو تعتمد دوماً على تجسيد الأفكار وتجسيدِ الأحاسيس.. كلهم يعرفون أن صورة الجسد تحمل أكثرَ من ممنوعٍ، وأن قدرتها على التعبير عنيفةٌ، تكاد تكون استفزازيّةً وعدائيةً تمس الأعماقَ وتجعلنا نرتد ونعيد إلى الذاكرةِ أن التمثيلَ ممنوع في مقدّساتنا.
هناك لوم يعـود بعد خروج كل فيلمٍ من أفلامي.. في كل النقاشـات التي أثرتها وطالبت بها أسمع نفس الملاحظة “أنا لست هكذا”. “هذه صورة مسـيئة لي أمام الغرب”! أحمد ابن أبي الضياف حين رافق أحمد باي إلى باريس في القرن التاسع عشر لم يفهم المسرح.. كان يتصور أن الممثلين يعيشون حقيقة حياتهم الخاصة وان الصراع مباشرٌ ومعاش. لم تعلمنا حضارتنا وثقافتنا فنون التمثيل. أتذكر أمي وأنا أسرق صوراً لنشاطها اليومي. فحينما كانت تحس حضورَ العدسة كانت تغير في لمح البصر صورتَها وتستقيمُ قاتلةً بذلك حياةَ الصورة.. صراعٌ علينا أن نواصله، لتعويد الناس على صورتهم كما هي،.. بصورة الخصوصيات حتى يقبلوا حياتهم.
لست أدري لماذا عرفت كيف أعبِّرُ عن الآلام، ولم أعرف كيف أعبر عن الأفراح، ربما لأن الأفراح تملأ شاشاتنا الصغيرةَ وتمطرنا أحلاماً زائفة. فكلما حاولت أن أُضحكَ الناسَ وجدت نفسي في مخالب الضميرِ، فينقلب الأمر إلى تراجيديا، بخاصة وأن عملية البحث عن تمويل الفيلم، والعقباتِ العديدةَ تجعل عمل الفيلم نفسِه تراجيديا. كلما حاولت أن أنطلق من روايةٍ لنقلها إلى فيلم، أحس بشيءٍ داخلي يشدني بقوة تمنعني. فأجد نفسي أحكي عن قضيةٍ استعجاليةٍ عندي، وكأنني مسكون بها. إنه حس يحكم قلمي وفكري وعدستي، ربما لأن السينما عندي ليست تقنياتِ إخراجٍ فحسب، بل وأداة للتعبير عن همومٍ أحملها ومشحونةٍ لا أحدَ يعرفُ من أين أتت وما هو المقرر في بروزها. وغالباً ما أنساقُ وراءها بشغفٍ وطاقةٍ متدفقة.
تعلمت أن لا أنسى، وأن السينما أداةٌ عجيبةٌ لتسجيل الذاكرة التي نحتاج إليها في كل لحظةٍ، حتى ولو كانت علاقتي بهذه الذاكرة علاقةَ عنفٍ ومحاسبةٍ ومراجعةٍ وصراع، حتميةٍ قاتلةٍ تجعل مني صغيراً آخذاً من صغره شيئاً من العظمة.
بدأت بأفلام محاسبةِ الذاكرةِ المليئةِ بالآلامِ والجروحِ والإخصاءِ والإقصاء،.. ذاكرةٍ قدمتها بلغة المتكلم وكأنها سيرةٌ ذاتيةٌ،.. وكأنني تبنيت الذاكرةَ الجماعيةَ وجعلتها ذاكرتي الخاصةَ في عيوبها وغطرستها. كنت أبحث عن التواصل، ومن أين أتيت معرياً النواقصَ والعيوبَ قبل المزايا.. كانت عندي نقطةَ انطلاقٍ حتميةً استعجاليةً، لا مفر منها، وأعجز عن تجنبها وتفاديها.
منذ “ريح السد” اخترت الأبَ الخاصيَ القاتلَ على منوال إبراهيم. قلبت القـيمَ فقتلت الأبَ البيولوجيَّ والأبَ الروحيَّ والأبَ المعتديَ المعلم. وناشدت قيمةَ الفرد واستقلاليته وحريته. لم يكن هذا انتصاراً أو فرحاً، بل ولادة مؤلمة للشخصيات.. جعلت من الألم إحساساً يومياً مألوفاً لا بد منه للخلاص.. وأتى ريح السد كحربٍ يشنها الفرد المكسورُ المحطَّمُ على العائلة الأبويةِ بكل مظاهرها وما يتبعها.
لا قيمة للطفل إلى أن يصبحَ رجلاً، ونطالبه آنذاك وهو منهارٌ أن يواصل السلطةَ بدوره كأب. ولكنه يصرخ داخلياً في صمتٍ مزعج: أنا لست رجلاً،.. أنا لست قادراً على المواصلة والتواصل،.. أنا من رماد.. ويختار طريقاً غير مألوف، ضارباً عرضَ الحائط بالقيم الاجتماعيةِ في ألمٍ مسكونٍ.. متجذّرٍ وعنيفٍ إلى درجة الوحشية.
لم نكن مهيئين إلاّ للهزيمة، وحتى في سنِّ الرجولةِ كنا عرضةً للاعتداء والسَّجن والتعذيب. وأتى “صفائح ذهب” محاسباً الإيديولوجيات الإقصائيةِ التي اخترناها كلٌّ من ناحيته دون اعتبارٍ للاختلاف في مجتمعٍ ولا لقبوله، محاسباً السلطةَ على ضربها الفكرَ الجديدَ وتشجيعِها موضوعياً على بروز الفكرِ القديم. فأتى الفيلم وكأنه يعلِّم هزيمةَ من لا يقبلُ الاختلافَ في مجتمعٍ يقتلُ خيرةَ أبنائه لا لشيء إلا لحرية أفكارهم.. كانت البدايةُ بالفيلمـين الأولين محاكمة ً لمفهوم الرجولة أو “الرجولية”: الإقطاعيُّ صارخاً أن الرجلَ إنسـانٌ حساسٌ مرهفٌ، وأن الرجـولةَ الجالسة بين كرسيين، مسرحيةٌ اجتماعيةٌ خطيرة.. فانطلقت بعد ذلك مقترباً شـيئاً فشيئاً من المرأة، سـواء في “بزنِسّ” أو سـيناريو “صمت القصور” أو فيلم “بنت فاميليا”، وكأنها حاملة ٌ لتطلعات الإنسان الجديد. كانت شخصياتي الرجولية ُ ممتلكة ًمقومات يعتبرها المجتمع أنثوية ً، وكأني مطالبٌ ومنادٍ بها كطريق للخلاص. تعلمت من خلال شخصياتي أن الرجلَ والمرأةَ متساويين في اختلافهم.. وذهبتُ دون تفكير، بل بإلحاحٍ استعجاليٍّ إلى الكشف عن كل مظاهر العرقلة والضغوطِ التي يِؤسسها الرجلُ أمام المرأة التي تطمح تلقائياً إلى ولادة الجديد. أتى الرجل ليشلَّ تقدمَ المجتمع وتحوُّلَه. ويأتي هذا في منع المرأة والمحافظة على مكاسبه الاجتماعية. وكأني أقول أن الرجلَ هو المسؤولُ عن هزائمنا، وعلى المرأة واجبُ صدارةِ الصراعِ لولادةِ الرجلِ الجديد. في “عرايس الطين” ربح وفضة يتوصلان بعد صراع مرير إلى إبراز الحنان المدفونِ داخل عمران، ويتمكنان من تغييره ليصبح زوجاً لفتاة حامل، يجهل ممن هي حامل.. مؤسساً بذلك رجوليةً جديدة،.. شهامةً جديدةً عمدت أن يتبناها الجمهورُ العربي. وفي “آخر فيلم” حين ينطلق “بهتة” في “جنونه” لم يجد عنيداً إلا في صديقته وأمّه “ما نحبّكش تموت ما نحبّكش تقتل” … “تحب توليّ مجرم؟” .
بعد هذه الإطالة في الحديث عن نفسي، آمل في أنني لم أكن متعسفاً أكثر مما يجوز.
أشكركم بكل جوارحي على تكريمكمُ السينما في هذه الدورة،.. في الوقت الذي تمر السينما العربية فيه بأزمةٍ حادة، أزمةِ تفسخٍ للسينما السائدة وأزمةِ نموٍّ لمن يحمل الجديد وهو محاصر.
شكراً لكم لأنكم ارتقيتم بالسينما من فن فرجةٍ وتهريجٍ ومرحٍ بغرض التجارة فقط، في سوق متقلصةٍ ولا يدخلها إلا الأفلامُ المصريةُ السائدةُ إلى فنٍّ عالٍ، كاملٍ وشامل، متملكٍ من أدواته ومقوماتِه، قادرٍ على تقديم الإحساسِ الجديدِ، مجسـدٍ الفكرَ الجديدَ مثل ما حلُم به العديدُ من سينمائيي النخبةِ المحاصرين حضارياً وثقافياً وتجارياً وسياسياً، المطرودين من السوق سواءً في القاعات المظلمة أو في الفضاءاتِ وحتى في سوق الأقراصِ المضغوطةِ الملتجئين للهجرة أو الصمتِ على الرغم من تمكنهمُ الصعبِ والعدائيِّ من التغلبِ على الرقابةِ الذاتيةِ المتغلغلةِ في وعينا والممثلة منذ المهدِ للرّقابةِ المفرطة والاعتباطية التي اختارت المسيرَ على خطوات المتخلفِ والبطيءِ بيننا مهمِّْْشة ً النخبة.
لا بد أن أعرج على نقطة مهمة جداً تخص المسلسلات التلفزيونة التجارية. فالمنتج الخاص يريد بيع مسلسلاته الناطقة بالمصرية لكل البلدان العربية، ويجعل السينياريو متماشياً مع الضغوط الاجتماعية في السعودية والخليج. وبذلك يصبح المحتوى على المستوى الاجتماعي وصولياً ويمهد للفكر الوصوليّ السياسيّ. فهو يفرض على بلدان عربية أخرى ضغوطاً وممارساتٍ لم تعرفها أو تجاوزتها، ويبرز في الشـوارع والأماكن العامة الحجاب الذي لم نره قط في هذه البلدان من قبل. وما يعطي نجاعة قصوى هي قدرة الممثلين المصريين وكتاب الحوار على عجن الإحساس القديم الميلودرامي الذي يدعم العائلة الأبوية القديمة وسلطة الاب، وانعدام الفرد، وتراجع المتمرد وتوبته أو عقابه. لا بد أن نهتم بهذا الموضوع بعناية، وقد بدأ هذا الاتجاه في أفلام المقاولات في السبعينات ووجد طريقه في الثمانينات في المسلسل. ولم تتوقف الظاهرة بل اكتسحت الفضائيات وبلغت كل العرب في كل مكان: كتيار رجعي يهز كل شيء، لأنه يدخل عبر الأحاسيس فينفذ بشدة قصوى، بلا وعي ولا شعور، في الوقت الذي بلغت فيه اللغة السينمائية نضجاً يمكنها من التعبير عن كل المواضيع، وحتى الفلسفية منها؛ وذلك في وقت بدأ فيه سينمائيونا يمتلكون من أدوات التعبير، وباتوا قادرين على تجسيد المجرد كالكآبة والقلق والضياع والعالم الفكري واللاوعي الخ.. في بداية طريق صعب يحتم عليهم تأسيسَ وإنشاءَ نوعٍ من الإحساس لم يتعود عليه الجمهور والممثلون، محاولين بصعوبة بالغة قطع الخيط الذي يربطنا جميعاً بالميلودراما المصرية. إن الفيلم السائد يميِّع القضايا الحقيقية ليختطفَها ويحولَها إلى قضايا زائفة تبيع أحلاماً خادعة مدعين أنهم يلبون رغبات الجمهور. لكن هذا الجمهور ذهب معنا بزخمٍ لمشاهدة أفلامنا.. إذ لاقت الأفلام التونسية الجديدة في الثمانينات نجاحاً منقطع النظير في تونس جعل الموزعين العرب يغلقون أمامها أبواب السوق وأبواب القنوات التلفزيونيّة.
إني أحييكم على تكريمكم السينما والارتقاء بها. وأعتبرها مبادرة هامة إلى أقصى الحدود لأنها تمس الجماهير الواسعة لتبلغَ الفكرَ الجديدَ، الفكرَ الحرّ. شكراً وألفً شكر !
إن ما نعيشه في السنوات الأخيرة يحتم علينا أن نحللَ ونفهمَ كل الأشكال والمفاهيم أو الاتجاهات التي ظهرت باسم الإسلام، وفي غالب الأحيان بصفة عبثيّة مدمرة، كي نعالج ما يمكن معالجته، وننقد المعتقـدَ من كل تلوث، ونفرقَ المقدّساتِ عن المصالح والأهدافِ الشخصيّةِ والسياسيّة. ويرجع ذلك في نظري أساساً إلى غلق باب الاجتهاد في الوقت الذي كان يستوجب فتحَه على مصراعيه، أي بعد وفاة الرسول، منذ “سقيفة بني سعد”. إذ أُغلق بابُ الاجتهاد مع باب السنة لإيجاد حلولٍ جديدةٍ لمشاكلَ جديدةٍ تفرزها الحياة الاجتماعية في تطورها. علينا أن نعودَ لدراسة ابن رشد وإخوانِ الصفا والمعتزلةِ والنهضةِ ونأخذ منها ما كان يدفع الفكر إلى الأمام.
ظهر في القرن العشرين اتجاه تماشى مع عصره وأفرز نوعاً جديداً من المفكرين: وهم المسلمون الملحدون. لكن هذا الاتجاه أصبح منذ عقودٍ بمثابة جريمةٍ يعاقَب عليها بالقتل. هذا ما حدث لي بعد خروج فيلم “صفايح ذهب” إذ حُكم عليّ بالإعدام من قبل الإسلاميين، وعلقوا حكمهم في الجامعة. وهذا الفكر أصبح خطراً على من يحمله، وتقلص بدافع الضغوط والخوف من الإقصاء باسم الإسلام.. ولم يبق في اتجاه يمكّن من النظر إلى المستقبل عن طريق الاجتهاد والعلمانية الذي يتطلب جرأةً وشـجاعةً وسـدادَ رأي أمامَ الترهيـب الإقطاعيِّ المتطرف.
ليس من السهل أن نطور العلمانيةَ في عقيدةٍ كان فيها القائد الدّينيُّ هو نفسه القائدَ السياسيَّ والقائد العسكريَّ.. علينا أن نقوم بنوع من القطيعةِ المعرفيّةِ التي تمكننا من وجود توازنَ صعبٍ بين المقدّس والعقلانيّ، بين الفلسفة والدين، بين العقيدة والفكر.
ليس لنا الآن من خلاص آخر. فهذا الطريق يمكّن من تطوير كل الاختلافات وممارسةِ التعدديةِ وفصل المؤسسات الدينيةِ عن المؤسساتِ السياسيةِ والتربويةِ بخاصة. علينا أن لا نتعسف على القرآن لنطبّقه بجزئيّاته في عصرنا الحالي، وما جاء منه ليحل مشاكلَ آنيةً وينظم مجتمعاً قديماً يوجه خاص. كان ذلك بمثابة ثورة عند ظهوره، لكن تطبيقه الآن يعد أمراً عبثيا.
لا بد لنا من إعادة النظر في العديد من المفاهيم التي تنظم حياتنا الاجتماعية حتى نجعلَ من ديننا ديناً عصرياً يتماشى مع التقدم الاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه عدةُ بلدانٍ إسلامية. كيف يمكننا أن نعيشَ في علاقات اقتصادية ليبرالية، وفي نفس الوقت في علاقات اجتماعية إقطاعية دون أن نسقط في انحرافاتٍ تكوينيةٍ مؤسسةٍ للإنسانِ الجديد في العالم الإسلامي؟
لو كان ابن رشد معاصراً لدافع عن كل مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وحقـوق الطفـل والحرياتِ الفكرية بلا حـدود. وما لم نقم بهذا التحول الإبستمولوجي فسوف نترك للغرب المعتدي أن يقترح تغييراتٍ في الإسلام لا شأن له بها، وهذا اعتداء صارخٌ على حقوق الإنسان.
كثر اهتمام الغرب بالإسلام في الفترة الأخيرة وكثر الحديث عن تدخله الاعتباطي في شؤونٍ لا تهمه مباشرةً، وتمس كرامة الناس ومقدساتهم. إعلام الغرب يشـوه الفكرَ الإسلاميَّ يوميا. ولذا فإن تحوّل الإسلام وتمركزَه وتطوّرَه هو السبيل الوحيد لمنع الغرب من هذه التدخلات العدائية. إن كلّ تغييرٍ ممكنٌ في مجتمعاتنا التي يشقّها تناقضٌ وصراعٌ يوميّ.. بل هو يشق كل فردٍ من أفراد هذه المجتمعات. وهو صراعٌ بين القديم الذي يذهبُ إلى حدِّ الإرهاب والجديدِ الذي يطمح في حريةٍ وديمقراطيةٍ متجذّرة، هذا الصراع يشق كل فرد منا مثلَ حد السيف، ويعطينا الدليلَ على أن القطبين من الصراع ممكنان في كل مكان وفي كل زمان. وعلينا أن ندرس كل ما أُنتج في السينما والتلفزيون من روائيٍّ وندرسَ مدى تأثيرِه السلبيِّ على المجتمع، وأن نحثَّ المنتجين على أن لا يضحوا بالفكرِ من أجل المال، وكأنهم يضحون بالبعيدِ في سبيل القريب.
وأخيرا أعود إلى السينما وأقول إن علينا أن نبنيَ في كل أعمالنا الروائية إحساساً جديداً، وأن نتجاوزَ البكاء على العائلةِ الأبويةِ والقيم الإقطاعيةِ البالية.. علينا أن نخلُق حياءً جديداً يؤسس لعلاقات جديدة بين الرجل والمرأة منذ الطفولة، ويعطي للجميع حقَّهم في الإحساس، والمهمّشين منهم بخاصة، حتى لا يصبح كل المجتمع مهمّشا. وهذا يتطلّب حريةَ تعبيرٍ كاملةً وشاملةً بلا حدود…
والسلام
نوري بوزيد