كلمة تكريم

Deutsch

كلمة تكريم نصر حامد أبو زيد

أستاذة البروفسورة  د. روتراود فيلاند

أستاذة البروفسورة  د. روتراود فيلاند                                            
 
سيداتي، سادتي الأعزّاء
إنه لشرف وسرور عظيمين لي أن أحتفل معكم اليوم بمنح جائزة ابن رشد للفكر الحر لنصر حامد أبو زيد ولأن يتاح لي أن أحييه هنا هو وزوجته الموجودة بيننا البروفيسور ابتهال يونس. وقد بذل أبو زيد الجهد في الجمع بين عقيدة الوحي الإسلامي والعقلانية العلمية على مستوى عصره، وبإخلاص فكري مثالي ومثابرة، متحملاً في ذلك هو وزوجته متاعب شخصية جسيمة.
 نحن نعرف نصر حامد أبو زيد اليوم كعالمٍ رفيع الاعتبار دولياً يعتلي منذ 2002 كرسي “ابن رشد” بجامعة “الإنسانيات” في مدينة أوترخت. كما أنه نال عدة جوائز رفيعة في البلدان العربية وأوروبا وأمريكا – وحصل على مِنَح دراسية علمية مهمة وعمل أستاذاً زائراً في جامعات عديدة منها على سبيل المثال جامعة لايدن التي شغل فيها عامي  2000/2001 الكرسي الأكاديمي لذكرى كلفرنجا  Cleveringa  لحرية الدين والضمير في كلية القانون. وكان في فترة 2002/2003 عضو منحة Wissenschaftskolleg في برلين.
أما مساره الأكاديمي فلم يكن سهلاً ولا قصيراً في الوقت نفسه. ولِد عام 1943 في قرية مصرية في الدلتا، كان والده يدير محلاً تجارياً صغيراً (بقّالة)، وعندما بلغ نصر سن الرابعة عشر توُفي الأب الذي كان قد قرر قبل وفاته بفترة قصيرة أن لا يلتحق ابنه بالتعليم الثانوي بالرغم من تفوقه الدراسي وذلك ليتعلّم مهنة تمكنه من إعالة الأسرة. فأكمل أولاً تعليمه كفني لاسلكي. بعدها حصل على الشهادة الثانوية خارج إطار المدرسة. وكان أثناء فترة الدراسة في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة وهو في سن الخامسة والعشرين يواصل عمله بنظام الورديات ليوفر بمعاشه البسيط لوالدته وأخوته الحد الأدنى من المال للمعيشة.
كونه اضطر  أن يكافح بقوة من أجل دخوله الجامعة بسبب ظروفه المتواضعة ترك أثراً عميقاً عليه. هذه الظروف الحياتية جعلته يعتاد منذ سنوات الصبا أن يصمد أمام الصعوبات في سعيه لتحقيق ما اتضح له صحته، وهذا ما أكسبه بعداً نقدياً سليماً ضد ذوي السلطان وأصحاب الامتيازات.
خلال انشغاله بالعلم الذي أصبح في نهاية المطاف وحسب رغبته مهنة له، وجد نصر حامد أبو زيد لنفسه موضوعاً  واحدا ًوكبيراً شغله طيلة حياته ولم يفارقه إطلاقاً منذ عمله في رسالة الماجستير: وهو موضوع العلاقة بين النص القرآني والمتلقي مستمعاً كان لتلاوته أم قارئاً وبالأخص السؤال عن الشروط التي يجب توفرها كي يتمكن المتلقي من فهم ما يقوله القرآن وما يريد أن يقوله الخالق في الواقع الثقافي والتاريخي الاجتماعي المحدد. هذه الإشكالية التأويلية الأساسية (الهيرمانويطيقية) كان يُعيد فحصها من منظور جديد في كثير من أبحاثه المنشورة.
نقطة الانطلاق كانت من ناحية ما قدّمته له التصورات المختلفة من التيارات الفكرية وما جاء به مفكري التراث الإسلامي القديم من نظريات حول العلاقة بين التركيب اللغوي للقرآن والمعنى الذي يستخلصه القارئ منه، وهذا ما بحثه بانتظام وعمق. من ناحية أخرى كان يوجّه أبو زيد اهتمامه إلى المدارس الفقهية مثل المعتزلة والأشاعرة وكذلك إلى مؤسس المذهب الشافعي والتصوف الإسلامي والمرجعيات المعروفة في علم الأسلوب العربي والذي توجد فيه بدايات عناصر لنظرية اللغة والسيميوطيقيا (Semiotik) وخلال دراسته كل هذا يضع أبو زيد هذه التصورات الفكرية المختلفة دائماً في سياقها التاريخي يعترف بانجازاتها ولكن يحدد أيضاً بوضوح حدودها متى اتّضحت له. وما يستحق إبرازه أنه كان دائماً يرفض أن يمشي على منوال ما درج عليه غالباً مؤلفو الكتب الفقهية من المسلمين يقرأون تُراثهم الثقافي بأسلوب انتقائي ويسوقون تبريراتهم ليدعموا بها وجهات نظرهم المسبقة.
ومن ناحية أخرى اكتسب أبو زيد بواعث فكرية هامة من نظريات غربية حديثة في التأويل والسيموطيقيا وذلك عن طريق اطلاعة الواسع على العديد من الكتب وخاصة للفيسلوف الألماني هانز جورج جادَمَرْ Hans Georg Gadamer وكتابه “الحقيقة والمنهج” الذي أصبح من أهم المراجع له. كذلك اتضح له منذ البداية القوة التجديدية المنطلقة من أعمال الباحث الإسلامي الياباني توشيكو ايزوتسو Toshiko Izutso في السيميائية ((Semantik والعالم القرآني فتبناها مباشرة وأدمجها في تكوين نظريته الخاصة.
طور أبو زيد بمرور السنوات وعلى أساس إلمامه بمجموعة عريضة من المداخل النظرية حول مفهوم النص سواءً العربية والإسلامية القديمة أو النظريات الحديثة عن باحثين غير مسلمين مشروعه الخاص المستقل في التفسير ما يزال يحقق ويدقق فيه حتى اليوم. أنا لا أستطيع هنا أن أعرض بإسهاب كل أبحاثه المنشورة التي تتشكل فيها صورة هذا المشروع  ولكن أريد أن أذكر بعضاً منها لأهميتها:
تناول نصر حامد أبو زيد في عمله الأول الذي اختتم به رسالته الماجستير 1977 والذي صدر بعد أربع سنوات من ذلك في كتاب عنوانه “الاتجاه العقلي في التفسير” موقف المعتزلة من العلاقة بين المجاز في القرآن ووقْع المعنى المجازي على المستمعين والقراء. وكما يتضح فأن المعتزلة بعكس خصومهم الأشاعرة يعتبرون أن المعاني المفهومة التي تتضمنها العلامات اللغوية في القرآن ليست فحسب تركيبات إلهية وإنما لا بدّ أنها مثلها مثل كل  المعاني اللغوية سابقاً تعتمد على أعراف وتقاليد البشر الذين توجه إليها تلك الرسالة الإلهية. أخذ نصر حامد أبو زيد بهذا الافتراض مضيفاً بإحدى الافتراضات التي يقوم عليها تأويله الخاص للقرآن أي بالافتراض أن القرآن رغم أنه إلهي في المصدر فإنه لا بد أن يستخدم لغة بشرية حتى تستطيع الناس فهمه.
وبحسب قوله فإن انشغاله العميق بالمعارك الحادة بين المعتزلة والأشاعرة حول كتاب الوحي وتشكيل مفهوم النص لدى القراء جعله يُدرك أن تلك المناظرات حول القرآن والتي تبدو من النظرة الأولى وكأنها ذات طبيعة فقهية وتدور ظاهرياً حول مفاهيم وتعريفات وعقائد ما هي في الواقع إلا معارك سياسية واجتماعية حول السلطة – وهي ظاهرة جعلها نصب عينيه في واقعه الحالي الخاص والذي لم يتصور في يوم من الأيام بأنها سوف تمسه شخصياً أيضاً.
في إطار أطروحته لنيل الدكتوراه التي شغلته مدة عامين إلى أن نال الدرجة بنجاح عام 1981 ، بدعم منحة قدمتها له مؤسسة فورد في جامعة بنسلفانيا، كانت اهتماماته البحث في المقدمات النظرية لفلسفة التأويل التي طورها الصوفي الكبير ابن عربي وبحث موقعها في تصور ابن عربي عن الطبيعة الرمزية لمجمل الكون، والذي يقرأه العارف كتعبير عن وجود الله نفسه. ومما أثار إعجابه بابن عربي هو نظرته الواضحة للصفة النسبية التي تظل مرتبطة بكل معرفة إنسانية كلما سعت للوصول إلى الحقيقة الإلهية خلف الرموز الخارجية اللغوية وغير اللغوية. وقد جعله ذلك يدرك تماماً أنه لا يجوز الاعتماد المطلق على تفسير وحيد للقرآن، بل ينبغي النظر في تفاسير أخرى دائماً بشكل جاد وأخذها في الاعتبار.
 
في فترة إقامته في الولايات المتحدة اكتشف نصر حامد أبو زيد نظريات غربية حديثة لتأويل القرآن. وحينما قارن “جادمَر” Gadamer  بابن عربي أصبح يشك، كما صرح فيما بعد، في صحة تقسيم الفلسفة إلى شرقية وغربية وذلك لأنه وجد أن الفلسفتين تطرح نفس الأسئلة العامة والأساسية منها السؤال الذي يشكل أهمية بالنسبة لأبي زيد وهو السؤال حول علاقة القارئ بالنص القرآني. ويظهر التشابه بين الفلسفتين أيضاً في المحاولات للإجابة على هذا السؤال من ناحية الدوافع. وهكذا بدأ لديه تلاقح فكري واسع منتج بين التراث العلمي الذي ينتمي إليه أبو زيد واستنتاجات توصل إليها علماء غير مسلمين في مجهوداتهم الفكرية. هذا التلاقح الفكري يميز جميع أعماله العلمية اللاحقة. ومن الجدير بالذكر أنه يمكن اعتبار هذا الموقف استمرارية لموقف عظماء الفلاسفة من المعرفة أمثال ابن رشد الذين جعلوا للعلوم العربية الإسلامية دوراً رائداً في العالم.
يعتبر نصر حامد أبو زيد كتابه “مفهوم النص” 1990 أهم كتاب له حتى الآن ألفه أثناء عمله التدريسي في جامعة أوساكا اليابانية من عام 1985 إلى العام 1989. ينطلق أبو زيد في كتابه من أن القرآن علمياً نص في الدرجة الاولى. لهذا تنطبق عليه حسب رأية نفس القوانين التي تنطبق على أي نص آخر. هذا الرأي لم يكن غريبا على كثير من أصحاب الرأي في العلوم القرآنية السنية، وقد أثبت أبو زيد هذا بأن استشهد ببعض من أقوالهم، وهو في الوقت نفسه لا يتغافل عن الآراء المخالفة. أما نظرية مفهوم النص فقد أوضحه من خلال نموذج غربي اكتسبه من قراءته لبحث الناقد الروسي يوري لوتمان Jurij Lotman حول بنية النصوص الأدبية، رغم أنه نموذج متبنى من المنظِّر الأمريكي كلود شانون Claude Elwood Shannon. حسب هذا النموذج يجب أن نفهم النص قياساً إلى استقبال مراسلات إذاعية مكتوبة بالشيفرة: لكي يفهم المتلقي النص القادم إليه، يجب على المرسِل أن يرسل النص بشيفرة يعرفها المتلقي.  إن النص القرآني المنزل بالوحي هو بمثابة إرسال لغوي من الله إلى البشر. ولكن اللغة تستخلص معانيها الدقيقة أساساً من الأعراف والتقاليد البشرية التي تعكس الأفق الحضاري التاريخي لمحيط الناطقين بها. بهذا يتضح أن حتى الله كان لا بد أن يستخدم شيفرة اللغة والحضارة الخاصة بالمتلقين الأوائل لرسالة النبي حتى يفهموا مغزاه. ولهذا يمكن أن نفترض أن النص القرآني قد استخدم تلك الأساليب اللغوية ومعتقدات الناس وتصوراتهم عن الكون التي كان متعارف عليها لدى النبي محمد وأبناء عصره في شبه الجزيرة العربية في بداية القرن السابع. وبما أن لغة وتصورات الناس في أواخر القرن العشرين وما بعد تختلف اختلافاً جوهرياً عن لغة وتصورات المسلمين الأوائل فإن من واجب المفسرين الحالييين ترجمة ما يريد الله أن يعبر عنه في القرآن وذلك من شيفرة لغة وحضارة تلك الفترة الماضية إلى لغة ومستوى فكر قارئي القرآن ومستمعيه اليوم. لا يمكن إلا بهذه الطريقة تفسير دلالة النص القرآني ليكون مفهوماً لدى الإنسان في الحاضر ومحفوظاً دون أي التباس.
 
بهذا النموذج التأويلي استطاع نصر حامد أبو زيد أن يفتح مجالاً لتفسير تاريخي للقرآن بأن اعتبر التعبيرات في القرآن (الموافِقة لظروف معيشة وأفق محمد ومستمعية الأوائل الحضاري لكنها لم تعد تتوافق مع ظروف معيشة وأفق قارئ اليوم الحضاري) مقرونة بالزمان ومن ثم لا يمكن الأخذ بها. من الجدير بالملاحظة أن هذا النموذج لفهم القرآن لا يعني وجود خلاف حول مصدر القرآن الإلهي باعتباره منزل على النبي محمد بوحي من الله ولا يعني أن محمد الإنسان الذي عاش في زمن محدد يُعتبر الآن مؤلف له. نصر حامد أبو زيد لم يقل هذا قط بعكس ادعاء أولئك الذين اتهموه لاحقاً بالإرتداد عن دينه. بل أشار بنموذجه التأويلي نحو الاتجاه الذي يمكن اتباعه للتمكن من الحفاظ على الايمان برغم أنه توجد بعض التعبيرات في القرآن يمكن أن تعتبر اليوم جزءاً من التاريخ فحسب لأنها نزلت بلغة وتصورات عصر النبي وأبناء عهده وليس بلغة وتصورات القاريء المعاصر فهي لا يمكن أبداً أن تناسب ظروفه.  
ضمن أعمالة اللاحقة طور نصر حامد أبو زيد أفكارة حول البعد التاريخي للنص القرآني، مثلاً في مقاله المطول عام 1995 والذي وضح فيه مفهوم التاريخية لديه لإزالة التحفظات ضده والقائمة على سوء تفاهم. إضافة إلى ذلك شكّ أبو زيد في أنّ إيمان المعتزلة بخلق القرآن يمكن أن يُعتبر جسراً إضافياً نحو الاعتراف بتاريخية القرآن . وقد أصاب أبو زيد حقاً في ملاحظتة بأن المعتزلة لم يربطوا نظريتهم حول خلق القرآن بتاريخية القرآن بَعد. لكنه يفترض أن التاريخية لا بد لها أن تكون النتيجة الطبيعية المنطقية لتعاليمهم.
 
في عام 1992 حال تقدير الدكتور عبد الصبور شاهين وهو أيضاً أستاذ بعلم اللغة إلى جانب كونه خطيب جامع مشهور لدى مناقشة أطروحة أبو زيد من نيل درجة الأستاذية في تصويت أقلية جائر غير موضوعي، متهماً إياه بالكفر والإلحاد بسبب أفكاره حول النص القرآني. بعدها بثلاث سنوات حصل في النهاية على درجة الأستاذية رغم ذلك ولكنه كان قد غادر الخدمة في جامعة وطنه وهو لم يعد إليه منذ ذلك الوقت. وذلك أن خلال تلك الفترة تمكنت مجموعة من المحامين الإسلامويين من رفع دعوى تفريق أبو زيد عن زوجته إبتهال يونس تجبره على الطلاق منها أمام محكمة الأحوال الشخصية بدعوى إرتداده على الدين وبأن المرأة المسلمة بناء على الشريعة الإسلامية لا يجوز لها الزواج من غير المسلم.
 لا أريد هنا أن أورد باقي التفاصيل فقد شغلت تفاصيلها الصحف كل أنحاء العالم. يكفي ذكر أن في سلسلة الدعاوي القضائية التي وصل عددها إلى ثلاث من عام 1993 إلى 1996 تدرجت عبر المحاكم المختلفة تم إسقاط الدعوى المرفوعة أمام المحكمة الثالثة وهي محكمة النقض نظراً لقطعية أحكامها وعدم خضوعها لأي استئناف، في نهاية الأمر أصبح حكم المحكمة الثانية سارياً والذي قضى بتفريق الزوجين. لحسن الحظ وبناء على اعتبار أحد القضاة غير الرئيسيين بوجود خطأ قانوني جائر في دعوى التفريق هذه تم إيقاف تنفيذ حكم التفريق وهذا من حق أي قاض  في مصر، وبقي الأمر على وقف التنفيذ إلى يومنا هذا. ولكن وقف تنفيذ الحكم هذا لا يكفي لمحو الضرر الذي لحق بسمعة مصر في العالم ولا يتيح لنصر حامد أبو زيد ولزوجته العودة إلى الوطن للعيش والعمل بشكل طبيعي. هُدّد نصر حامد أبو زيد بالقتل حتى قبل صدور حكم محكمة النقض، والشيخ يوسف البدري الذي يُعتبر القوة المحركة وراء دعوى التفريق علق على حكم المحكمة الثانية بقوله أن على السلطة الحكومية  بناءً على حكم القضاء تنفيذ حكم الإعدام بالملحدين. نظراً للأمر الواقع ولتلك الأجواء التي لا تضمن الحماية الشخصية واستحالة متابعة التدريس والعمل البحثي بهدوء لم يكن أمام الزوجين عام 1995 من مفر آخر سوى المغادرة إلى المنفى. منذ ذلك التاريخ يعيش الزوجان في هولندا.
 
لم تكن أبحاث أبو زيد العلمية وتصوراته التأويلية للنص القرآني السبب الأساسي في وصول حجم الحملة الشرسة التي شنتها ضده ثم ضد زوجته جهة معينة من الرأي العام إلى هذا البعد. فإن معارضيه لم يولوا انتباههم لما احتوته تلك الأبحاث. إنما تفسير حجم الجملة هو أن أبو زيد عالم يعرف مسؤوليته في المصلحة العامة وهو ليس ذلك المثقف الذي لا يهتم إلا باعتلاء السلم الوظائفي ومصلحته الخاصة. لهذا قدم في كتابه “نقد الخطاب الديني 1992” تحليلاً نقدياً لدور أهم الشخصيات والمجموعات السياسية والاجتماعية في مصر التي تعتبر نفسها ولي أمر تملك الفهم الصحيح للدين الإسلامي. حاسب فيه الباحث علماء الدين وخطبائهم الذين يتقاضون معاشاتهم من الدولة والمعارضة الإسلامية في مصر حساباً عسيراً واعتبر أن تطور جو النقاش الحر الضروري لحل المشاكل لا يُجهَض بسبب تأثير الإسلامويين فحسب بل بسبب تأثير رجال الدين المحافظين الذين يعملون في خدمة الدولة ويتمتعون بوضع اجتماعي ذي نفوذ. ويقول فيه موضحاً أن كلا المجموعتين تدّعي لنفسها التفسير الوحيد الصحيح للقرآن من أجل تحقيق مصالحها الخاصة فتحاول فرضه وتطبيقه بشكلٍ مطلق. إلا أن الفرق بينهما هو أن إصرار رجال الدين الحكوميين على حقهم في التفسير الصحيح يساعدهم على الحفاظ على الوضع الراهن أي على مراكزهم في السلطة بينما يريد الإسلامويون بإصرارهم على حق التفسير الصحيح أن يتوصلوا إلى وضع مثيل غير حر تكون لهم فيه اليد العليا لم يتمكنوا من تحقيقه بعد.
في هذا الكتاب وفي أبحاث أخرى أشار أبو زيد أيضاً إلى الآراء التقليدية المتكررة لرجال الدين والإسلامويين التي تقول أن الإرادة الإلهية تتواجد في النص القرآني مباشرة فلا يجوز تفسير المعاني القياسية التي يجدونها واضحة بشكل كافٍ بل فقط يُطلب تطبيقها. ويعتبر أبو زيد هذه الآراء ركيكة في موضوعيتها  خطيرة على حرية العِلم والمجتمع. بما أن النص لا يمكن أن يكون له فعالية إلا إذا تم فهمه بطريقة أو بأخرى فإن أصحاب تلك الآراء في الواقع – وكما لاحظ أبو زيد بحق – يضعون فهمهم الشخصي للنصوص الغير قابل للنقاش والذي بحاجة للنقد مكان الحقيقة  الإلهية الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى إجبار الآخرين على الأخذ برأيهم. حتى أن أبا زيد قد استخدم لفظة “الوثنية” ليصف بها الإدّعاء بأن هناك طريقة واحدة فقط لتفسير القرآن وعادة مقصود بها طريقة الذي يدعي ذلك نفسه. وبهذه الملاحظة الهامة وصف الباحث بدقة كيف أن عملية التأليه الشخصي بوضع الإنسان فهمه البشري الأزلي المحدود للنصوص في موضع المطلق لا تتفق مع مبدأ التوحيد في الإسلام. ونستطيع هنا أن نفهم انزعاج الإسلامويين وبعض موظفي الدولة من علماء وخطباء مسلمين من تشكيك أبو زيد لاحتكارهم للتفسير القرآني وأمام توضيحه للعلاقة بين احتكارهم هذا ومصالحهم التي يفضلون بقاءها غير معلن عنها. لكن ذلك لا يبرر وسيلة دفاعهم.
ولأنّ نصر أبو زيد كمسلم  يهمه التمييز بين الذات الإلهية وبين من يُعيّنون أنفسهم آلِهة على الأرض فهو يرفض أيضاً بحزم جميع أنواع الاضطهاد لحرية الرأي في العلم والسياسة. ومن خلال هذا الموقف لم يطالب فقط بحريته الشخصية ودافع عنها بل دافع أيضاً عن الآخرين المخالفين لرأيه. فقد انتقد مثلاً الانقلاب العسكري في الجزائر بشدة الذي منع الإسلامويين من الحكم بعد أن كادوا يتولون الحكومة بانتخابات ديمقراطية. كذلك طالب بحق غريمه عبد الصبور شاهين الرجل الذي كان السبب في اتهامه بالكفر والإلحاد في أن يبدي رأيه بحرية بعد أن اتُهم  – ويا لسخرية القدر – أيضاً بالإلحاد بعد أن نشر كتابه عام 1998 بعنوان “أبي آدم”، وفي هذا الكتاب حاول عبد الصبور شاهين التقريب بين قصة الخلق في القرآن وبين نظرية الارتقاء. ولم يكن هذا الموقف لِيُعجب عبد الصبور شاهين كون أن الدفاع أتى من الجهة الخاطئة. ولكن موقف أبو زيد هذا يتوافق مع مبادئه المُعلنة.
لم يكن يهمه الإصرار على موقفه بل يهمه أن يُعترف بشرعية تعدد الآراء وأن يُحافَظ على جو من حرية الرأي حول ما يُعتقد أنه صحيح. فقد اتضح لأبي زيد قبل غيره أنه بدون السماح لتعدد الآراء المتضادة والنقاش الحر يسود الركود الفكري وتقل الفرص بشكل ملحوظ لإيجاد حلول ناجحة للمشاكل الخاصة سواء في مصر أو في أي مكان آخر.
إنّ فهم المسلمين للقرآن يلعب دوراً مهماً في إمكانية التطور الاجتماعي والثقافي في البلاد الإسلامية التي ترتبط شعوبها بالثقافة الدينية ارتباطاً وثيقاً. لذا ولأن الله وحده هو الذي يملك كامل الحقيقة – كلا الرجين أبو زيد والشاعر الألماني Lessing استنتج هذا – فإن بالذات فهم القرآن الصحيح لا يجوز حرمانه من التعددية وحرية إبداء الرأي العلمي والنقاشات المفتوحة. ولتأكيد قيمة هذه المبادئ عمل أبو زيد من خلال محاضراته وكُتُبه على إظهار تنوع وتعدد الآراء في التراث الإسلامي في القضايا المطروحة في بحوثاته. حقاً فإن تعدد الآراء والسماح بالنقاش الحر في التراث القديم قد ولّد إبداعاً فكرياً عظيماً. هذه التعددية والاستعداد للنقاش غابت بعد ذلك عن أعين الكثيرين بسبب التضييقات العقائدية ويتم حجبها هذه الأيام من قبل أشخاص لهم فهمهم الخاص للإسلام يخطبون بعبارات حماسية ما يدّعون أنها  من تعاليم “الإسلام”. يؤمن نصر أبو زيد أنه يمكن ويجب إعادة اكتشاف التعددية في التراث الإسلامي والاستفادة من زخم إنعاشها لصالح الجميع. وعلى فكرة فإن نصر أبو زيد، وقد لاحظتُ ذلك بنفسي، يُطبّق هذا الاعتراف بقيمة التعددية والنقاش العلمي الحر في حياته العملية. فهو يُعتبر من القلة القليلة من الأساتذة الجامعيين الذين لا يقبلون بالرأي المعارض في صفوف طلابهم فحسب بل يستمتع به أيضاً – بشرط أن يكون الرأي مدعّماً بالحُجج، ويؤدي ذلك إلى تطور التفكير بين الطلبة في القاعة سوياً نحو إيجاد حل للمسائل المعروضة. هذا لوحده يثبت عكس ما رُفع ضده من شكوى من قِبل أحد خصومة بحجة أنه يعرّض الشباب الأكاديمي للخطر ويفرض عليهم آراءه. إن أبا زيد لم يُعرّض أحداً للخطر بل علّم الطلاب التفكير المستقل.
ألحقت ردود فعل الذين لا يتفقون معه في تصوره لشرعية التعددية في فهم معاني القرآن  أضراراً جسيمة تحمّلها بشجاعة شخصية كبيرة. حارب من أجل ما اعتقد أنه صحيح بصدق وصرامة ودون حلول وسط. جاهد في التغلب على المشاكل الاجتماعية وتصدّى للأفق الفكري المحدود الذي يسّهل استخدام ديوان التفتيش ونفوذ الدولة لمنع النقاش الحر حول المفاهيم  الجديدة، وهي كلها أمور ومشاكل تعرض لها شخصيا.ً
من أين يأتي نصر أبو زيد بتلك القوّة؟ بالطبع كانت علاقته بزوجته التي وقفت مخلصة بجانبه طيلة الوقت وقدّمت التضحيات الكثيرة أهم مصادر هذه القوة. أني أتجاسر وأقول أيضاً: أنّ هذه القوة والعزيمة لم تأته فقط لأنه عالم ملتزم متحمس للبحث عن الحقيقة، وليس فقط لأنه الإنسان الذكي ذو القناعة بضرورة الكفاح من أجل حرية الرأي والأفكار لجميع البشر ولكن أيضاً لأنه إنسانٌ مؤمن بالله ولأن القرآن له أهمية كبيرة بالنسبة له.
ولم يتغير ذلك منذ أن كان تلميذاً صغيراً في الكتّاب تركت حينها تلاوة القرآن أثراً عظيماً في نفسه كما تروي إحدى شهاداته من تلك الفترة. ولهذا السبب كانت جهود أبو زيد الفكرية في بحثه عن قرائن علمية موثوقة لفهم القرآن أكبر بكثير من جهود أولئك الذين حاربوه بادعاء أنهم يملكون الفهم الصحيح الذي هو في الواقع فهمهم الخاص الفردي لتفسير القرآن.
إني أرى أنً هذا الجهد الفكري الذي بذله نصر حامد أبو زيد للوصول إلى قواعد نظرية مُقنِعة للتفسير قائمة على مستوى المعرفة العلمية الحديثة لفتح باب التأويل للقرآن من جديد حتى يفهم معانيه بشر هذا العصر بآفاقهم الثقافية والاجتماعية لم تكن شهادة التزامه العلمي فحسب بل هي شهادة لإيمانه بالله أيضاً.

مزيد من المعلومات عن الأستاذة ابروفسورة روتراوت فيلاند


ولدت روتراوت فيلاند عام 1944 بمدينة توبنجن في ألمانيا. تخصصت في دراستها الجامعية في الدين الاسلامي والأدب العربي والدراسات التركية وعلم الأديان المقارن والفلسفة في كل من جامعة ميونيخ، توبنجن (ألمانيا) وإستامبول (تركيا). ثم أكملت دراستها ونالت عام 1970 درجة الدكتوراه عن كلية الآداب في جامعة توبنجن.

من 1970 إلى 1971 شاركت كأستاذة مساعدة في تأليف “معجم اللغة العربية الفصيحة” في توبنجن. حازت على منحة دراسية من الجمعية الألمانية للبحوث من 1971 إلى 1974 شغلت خلالها منصب تدريسي في الجامعة. باحثة منتدبة في معهد الاستشراق في بيروت من سنة 1975 إلى 1978 وهو المعهد الخاص بالجمعية الألمانية للدراسات الشرقية. انتقلت إلى روما حيث انشغلت بالترجمة وبحوثات مختلفة من 1978 إلى 1980.

بعد عودتها إلى ألمانيا عاشت فترة ما بين 1980 إلى 1982 في ماربورغ ثم نالت درجة الاستاذية عن جامعة بون في نفس السنة. حصلت على منحة هايزنبيرج من  1982 إلى 1985 تخللها سنة انقطاع قامت خلالها بالتدريس الجامعي كأستاذ بالنيابة في قسم الدراسات الاسلامية في جامعة توبنجن.

أستاذة للداسات الاسلامية والأدب العربي في جامعة بامبرج منذ 1985. حازت على جائزة الامتياز في اللغة والتاريخ عن أكاديمية العلوم في جوتينجن. عام 1999 رفضت استدعاء للأستاذية من جامعة لايبسيج. اختيرت عام 2000 عضو مراسل في أكاديمية العلوم في هايدلبيرج.

Social media & sharing icons powered by UltimatelySocial