القتال بسيف من زجاج
هذا الخطاب موجّه لجيل يعيش في زمان ومكان محدد، ما بعد الربيع العربي وما بعد داعش.
لقد وحد جيل الربيع العربي شعوبنا لأول مرة في التاريخ المعاصر، بفِعل رغبةٍ في التَّغيير. إذ لم توحِّد هذا الجيل كُتبُ منظري القومية الاحادية او الماركسية او فقهاء الاسلام السياسي، بل “وعْيَ النِّهايات القُصوى” بنهاية الدكتاتوريات على نحو هزَّ الافتراضاتِ التَّقليديَّةَ عن خمول شعوبنا، وارتقى بنا جميعا من حالة اللَّامُبالاة إلى مرحلة “الخَيال السِّياسيّ”.
لكن التغيير لا يعني مجرد إعادة كتابة دساتير أو إجراء انتخابات جديدة ، بل هي تحول العقول والقيم وليس الآليات”. الآليات أو الزعماء لا يَبنُون “ثقة” بالنظام السياسي، لكن “المؤسسات” هي ما يُحدث هذا الأثر. لذا، نجد فرانكشتاين سرعان ما أعاد تركيب جسده من قطع جديدة شكلت صورة انسداد اقليمي شامل، وتعدى ذلك الى تدمير المدنيات القديمة والثرية بتنوعها، فقد تركت سوريا أرضا يبابا بعد حرب أهلية دامية، وباتت اليمن السعيد بائسا وحزينا، وكشف انفجار مرفأ بيروت عن وجه نظام الإقطاع السياسي القبيح في لبنان، أما العراق الذي خرج شبابه بثورة للتغيير من الداخل بعد سنوات من فشل التغيير من الخارج على يد غرب ما بعد الحداثة، وبعد قرابة 700 شهيدا و20 الف جريحا ما يزال نظامه المكوناتي البغيض عصيا على الإصلاح.
من أجل الأمل في التغيير خرج الشباب الايزيديون، قبل أشهر قليلة، في مظاهرات في مواجهة الفصائل المسلحة في سنجار، فبعد مرور ثمانية أعوام على الإبادة الجماعية ما تزال الإبادة الجماعية حية ومستمرة مع استمرار الصراع السياسي والتدخل الاقليمي في أراضيهم، وعدم عودة النازحين.
أما المندائيون (أتباع يوحنا المعمدان) الذين يمثلون ثقافة ألفية عابرة للزمان والمكان، فقد غادر 90% وطنهم التاريخي، وها هي مياه يوحنا المعمدان تجف وتتبخر، وتفقد ميزوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين) هويتها التاريخية مع جفاف مياه نهري دجلة والفرات بسبب السياسات الإقليمية غير العادلة. المسيحيون أيضا اصبحوا (بيتا بمنازل كثيرة) اذا ما استعرت عبارة بليغة. وعلى الرغم من مرور أكثر من مائتي عام على ولادة مؤسس الدين البهائي، فإنه لا يوجد بلد عربي يعترف بالدين البهائي (عدا اعتراف ذي طبيعة رمزية في اقليم كردستان العراق). وقد أثبتت الأحداث الأخيرة بعد اجتياح داعش لسوريا والعراق، كيف أن تهديد الإبادة الجماعية ما يزال قضية رئيسة في السياسة العالمية.
أن يكون أكثر من ستين مليون شخص ضحايا الإبادة الجماعية في القرن العشرين وحده، إضافة إلى الخسائر الأخيرة في البوسنة ورواندا، وبمعزل عن ضحايا دارفور وسوريا والعراق، فإن ذلك يستحق منا وقفة لمنع تكرار المأساة. أعتقد بمسؤوليتنا في أن نحث الأجيال الجديدة على التعلم من أخطاء الماضي، ورفض أية سياسة لتأويل الاختلافات على نحو يوفر المناخ الملائم لارتكاب الجرائم من قِبَل مقاولي الكراهيات. لذا ادعو الى مواجهة اي تسييس للشأن الديني، وأنا فخور بكوني أحد المتحدثين باسم مبادرة عالمية لتشريع اتفاقية عالمية لحظر الاستخدام السياسي للدين، كما دعوت منذ عام 2015 الى تشكيل تحالف الضحايا العالمي ، من أجل عدم تكرار الإبادة مرة أخرى.
لكن الصورة ليست قاتمة كليا، فعلى صعيد إقليمي عربي يمكن الإشارة الى الى إعلان مراكش لحماية الأقليات الدينية في العالم الإسلامي 2016 وإعلان بغداد لمواجهة خطابات الكراهية 2016 و “إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك” 2017. وهي جميعا مبادرات مترابطة ويكمل ويعزز بعضها بعضا. وقد أعطى زخما لمثل هذه المبادرات زيارة قداسة البابا فرانسيس إلى الإمارات العربية المتحدة وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا وشيخ الأزهر، في شباط 2019. والزيارة البابوية التي أعقبتها في اذار 2021 للعراق/ البلد الثري بتنوعه الديني والإثني واللغوي، والذي يضم 21 طائفة دينية من ضمنها 14 طائفة مسيحية ولقائه بالسيد السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في النجف الأشرف.
اعتقد أن من الضروري العمل على ما يلي :
1-تغيير تقاليد الكتابة عن التنوع في العالم العربي، إذ لم يعُدْ هناك مكان لتاريخ انتقائي مُؤَدْلج، لا سيما مع مخاطر نهاية التنوع في الشرق الأوسط. لذا، أدعو الباحثين العرب إلى التخلِّي عن حذرهم اللاعقلاني وإبراز أهمية التنوع وسبل إدارته الرشيدة. وبعد أن حاولتُ خلال ثمانية عشر مؤلَّفًا إثارة الاهتمام بالتنوع، كمَصدر غنًى وعامِل وَحْدة وسط سياسات الانقسام السائدة، أتمنَّى أن أرى اهتمامًا مُماثلًا، يشمل المنطقة بأسرها.
2- النضال من أجل توسيع دائرة الاعتراف بالاقليات الدينية غير المعترف بها، نحن في حاجة إلى ثورة ضد النهج الحصري لحرية المعتقد، والذي يتعارض مع روحٍ عالميّة لحقوق الإنسان، تقوم على احترام الكرامة الإنسانية للجميع. لنغادر هذا القارب الضيق ونصعد جميعا إلى سفينة نوح.
3-على مثقَّفينا في العالم العربي التَّفكير المتواصل في بديل يقدِّم الخِيار الثَّالث بين “القوميَّة العربيَّة” و”الإسلام السِّياسيّ”. وهُما خِياران سيطرا على خيال النُّخَب الشَّرق أوسطيَّة خلال القرن الماضي. لا بدَّ من تقديم نموذج بديل يقوم على رابطة “مُوَاطَنِيّة”، وبشكل خاصٍّ نموذج “مُواطَنة حاضنة للتَّنوُّع الثقافي او باعثة له”، بكلِّ ما ينطوي عليه المفهوم من إبداع خلَّاق واحترام الخصوصيات الثقافية القائمة على المساواة بين الافراد.
4-إعادة النظر في ممارساتنا العنصرية، وبضمنها التمييز الراسخ ضد سود البشرة في بلادنا. وأعتقد أن البداية لا بد وأن تكون مع تشريعات تجرم العنصرية بكافة أشكالها وإعادة النظر في المناهج الدراسية للتأكد من خلوها من أي خطابات كراهية مع رفدها بما يعزز ثقافة التنوع والمساواة وتقبل الأخر والتي من دونها لا يمكن إحراز تغيير حقيقي في مسار بناء دولة المواطنة.
أخيرا، أود أن أحيي المدافعين عن التنوع والحريات الدينية في العالم العربي والذين يدعون في كثير من الأحيان الى حب العدو. وتعد طريقتهم في الإمانة نوعا من الخيانة. يمكن جمع “طائفتنا المشرفة على الانقراض” وإرسالها بسفينة الى إقرب جزيرة مهجورة او بطريقة أقل تكلفة يمكن إرسالنا في باص صغير لكي ندفن في اقرب صحراء.
لكننا لن نستسلم بسهولة، إذ سرعان ما نستيقظ ونتكلم، نرفع سيفا من زجاج في مواجهة مصالح قوى كبرى تفرض نظام التفاهة والأنانية، ونحمي الأمل في التغيير كشمعة صغيرة في هذا الظلام. صحيح أننا قد نشبه دمى صغيرة تواجه عمالقة على خشبة المسرح، لكن بقوة الأمل نسعى لإنقاذ تايتانك المشرفة على الغرق، أقول ختاما “في العالم العربي، الأمل لم يعد خيارا، بل ينبغي أن يصبح أسلوب حياة”.